ثمة تطورات دراماتيكية اكتنفت المشهد الروسي خلال الأيام الماضية، على خلفية تمرد قوات فاغنر الخاصة، حيث قامت بالسيطرة على مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية بمدينة روستوف جنوب غربي روسيا، وأعلن قائدها يفغيني بريغوجين زحفه نحو موسكو، ثم ما لبث وأعلن انسحابه وتراجعه إلى معسكراته بعد تدخل رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، ونجاحه في الوساطة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبريغوجين، والتوصل لاتفاق يضمن خروجاً آمناً لبريغوجين وقواته، وعدم الملاحقة القضائية لهم.
وتبقى التساؤلات حول التداعيات المُحتملة للتمرد القصير لفاغنر على مسار الحرب الروسية الأوكرانية، وما يمكن أن تحدثه من تغير في قواعد اللعبة، خاصة في ظل الهجوم المُضاد التي تشنه حالياً القوات الأوكرانية بمساعدة الغرب.
إنهاء الأزمة:
جاءت بداية أزمة فاغنر الحالية مع التصعيد التدريجي من جانب قائدها بريغوجين منذ شهر فبراير 2023، حيث تصاعدت خلافاته مع وزارة الدفاع الروسية، وبلغت ذروتها خلال شهر مايو الماضي، وهدد بريغوجين بسحب قواته من مدينة باخموت في 10 مايو الماضي، مُتهماً هيئة الأركان الروسية بحرمان قواته من الذخيرة التي يحتاجونها للاستيلاء على مدينة باخموت بالكامل، بالإضافة إلى اتهامه جنود الجيش الروسي بالفرار من مواقعهم قرب المدينة. وفي 20 مايو الماضي، عقّب بريغوجين على الأحداث، قائلاً: "لم نُقاتل الجيش الأوكراني فحسب في باخموت، بل أيضاً البيروقراطية الروسية التي وضعت لنا العصي في الدواليب".
وبدأ الأمر يأخذ مساراً تصعيدياً أكثر حدة مع قرار وزارة الدفاع الروسية في 10 يونيو الجاري "بضرورة توقيع جميع مفارز المتطوعين على عقود مع الحكومة بحلول 1 يوليو". وعلى الرغم من أن القرار لم يذكر مجموعة فاغنر بالاسم، فإنه عكس بشكل واضح الاتجاه للسيطرة على القوات التابعة لبريغوجين، والتي أثبتت أنها ضرورية للحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا، وساعدت في تأمين بعض انتصاراتها، حيث شكلت قوات فاغنر رأس الحربة في معركة باخموت.
وفي 24 يونيو الجاري، أعلن بريغوجين خروجه بقواته من أوكرانيا، وادعى قصف الجيش الروسي لقواته هناك، ومن ثم أعلن استحواذه على مدينة روستوف الروسية ذات الموقع الاستراتيجي والأهمية الاستثنائية في خطوط الإمداد للحرب في أوكرانيا، مؤكداً أنه سيتوجه شمالاً إلى ليبيتسك، ومنها إلى موسكو. وفي تطور دراماتيكي، وقع قتال في منطقة فورونيج جنوب غرب روسيا بين القوات الروسية وفاغنر، حيث كتب حاكم فورونيج، ألكسندر جوسيف، على تطبيق "تلغرام"، أنه "في إطار عملية ضد الإرهاب، تنفذ القوات المسلحة للاتحاد الروسي إجراءات قتالية عملياتية لازمة في منطقة فورونيج". وتداولت التقارير إطلاق طائرات هليكوبتر تابعة للجيش الروسي النار على قافلة عسكرية تابعة لفاغنر على طريق أم 4 السريع خارج مدينة فورونيج.
وبعد أن كانت الأمور في طريقها للخروج عن السيطرة، تدخل الرئيس البيلاروسي، لوكاشينكو، للوساطة بين الجانبين، وتمكن من إبرام اتفاق، تم بموجبه دمج قوات فاغنر ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في حملة بريغوجين، حيث ستُتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع، وبدء القوات في العودة إلى معسكراتها الميدانية في المناطق التي تسيطر عليها روسيا في شرق أوكرانيا، وفيما يتعلق بالجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المقار والمعسكرات يوقع اتفاقيات مع وزارة الدفاع الروسية، مع تأكيد ضمان عدم الملاحقة القانونية لأي من عناصر فاغنر، بالإضافة إلى إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين ومغادرته إلى بيلاروسيا.
تأثيرات مُحتملة:
ألقت هذه التطورات الدراماتيكية، التي ربما أظهرت تصدعات في الجبهة الداخلية الروسية، بظلالها على مسار الحرب الأوكرانية، وإن كان ذلك في نطاق تأثير محدود حتى الآن، ويتضح ذلك في النقاط التالية:
1- انتصار معنوي للجانب الأوكراني: والذي برز باعتباره المكسب الأكثر تأثيراً ومباشرةً بالنسبة للمسؤولين الأوكرانيين، الذين سعوا إلى توظيف الأحداث في سياق دعائي استهدفوا من خلاله بث الإحباط لدى الجنود الروس ورفع الروح المعنوية للجنود الأوكرانيين، وكذلك التغطية على المكاسب الإقليمية المحدودة التي حققتها كييف من هجومها المُضاد الذي بدأته خلال شهر يونيو 2023. وأكد مسؤولون أوكرانيون أن الصراع في روسيا (في إشارة إلى تمرد فاغنر) "لم يُحدث أي تغييرات جذرية على خط المواجهة، لكنه خلق فرصاً لاستغلال الأحداث ضد الروح المعنوية لعدوهم". وهو ما برز في تصريحات أحد ضباط الحرس الوطني الأوكراني، فيتالي ماركيف، الذي يخدم في الخطوط الأمامية، لصحيفة "فايننشال تايمز"، بأن "معنويات القوات الأوكرانية قوية للغاية ونحن نراقب عن كثب هذا الوضع في روسيا".
أيضاً، دخل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ووزير دفاعه، أوليكسي ريزنيكوف، على خط التوظيف الدعائي لتمرد فاغنر، حيث صرح زيلينسكي خلال كلمته بأن الرئيس بوتين "من الواضح أنه خائف للغاية، ومن المُحتمل أن يختبئ". بينما أكد ريزنيكوف أنه خلال اتصاله الهاتفي بوزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، تم الاتفاق على "أن السلطات الروسية ضعيفة وأن انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا هو الخيار الأفضل للكرملين، لمعالجة قضاياها (في إشارة لمواجهة تمرد فاغنر)".
2- إعادة تنظيم صفوف القوات الأوكرانية: منحت الانقسامات في القوات الروسية على خط المواجهة، القوات الأوكرانية مزيداً من الوقت لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوراق في ساحة المعركة، وتنظيم صفوفها من أجل إنجاح هجومها المُضاد الذي بدأته خلال الشهر الجاري.
3- تصاعد أزمة التعبئة والتجنيد في القوات الروسية: ربما أضعفت تصريحات قائد فاغنر خلال تمرده، رواية بوتين التي استند إليها لحشد الداخل الروسي وتوفير الغطاء الشعبي لخوض حربه في أوكرانيا، حيث رفض بريغوجين لأول مرة ذريعة بوتين الرئيسية لخوض هذه الحرب، مُعلناً أن روسيا لا تواجه أي تهديد أمني غير عادي من أوكرانيا أو حلف "الناتو"، مؤكداً أن "المسؤولين العسكريين الروس خدعوا بوتين لخوض الحرب". ومن شأن هذه التصريحات أن تؤدي إلى تصاعد أزمة تعبئة وتجنيد الجنود الروس وإرسالهم إلى ميدان المعركة في أوكرانيا. وهو ما برز مع بداية الانخراط الروسي في الحرب، حيث ظهرت الحاجة لتجنيد المزيد من الجنود، وسعت موسكو للتغلب على ذلك بسن تشريعات جديدة، تمثلت في إصدار بوتين مرسوماً بشأن التجنيد الإجباري بما يقضي بتجنيد 147 ألف شخص لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية لمدة عام، والذي بدأ في تنفيذه مطلع شهر إبريل الماضي. هذا فضلاً عن مصادقة النواب الروس على قانون جديد يهدف إلى تسهيل وتكثيف تعبئة الشباب في الجيش عبر تسليم الأوامر إلكترونياً عبر بوابة المؤسسات الحكومية وليس باليد؛ نظراً لتهرب العديد من جنود الاحتياط من تسلم طلبات الاستدعاء. بالإضافة إلى اعتماد الرئيس الروسي خلال الأيام الماضية قانوناً يسمح بتجنيد السجناء بموجب عقود مبرمة مع وزارة الدفاع.
4- تراجع التأثير الروسي في مناطق سيطرة فاغنر: أدى انسحاب قوات فاغنر من مناطق باخموت في الجنوب الشرقي لأوكرانيا إلى انكشاف القوات الروسية، وتراجع تأثيرها في المناطق التي كانت تسيطر عليها فاغنر، فضلاً عن إعلان التلفزيون الرسمي في الشيشان أنه تم سحب حوالي 3 آلاف جندي شيشاني من القتال في أوكرانيا، ونقلهم بشكل سريع لاحتواء التمرد الذي قامت به فاغنر.
5- تيسير مهمة الهجوم المُضاد الأوكراني: مهّد التراجع الروسي على الخطوط الأمامية في مناطق تركزه في الجنوب الشرقي لأوكرانيا لمواجهة تمرد قوات فاغنر، الطريق لهجوم مُضاد شنته القوات الأوكرانية خلال اليومين الماضيين على الجبهة الشرقية، في محاولة لاستغلال "الفوضى" التي أحدثتها أزمة تمرد فاغنر. وأعلن قائد عمليات منطقة شرق أوكرانيا، ألكسندر سيرسكي، في 25 يونيو الجاري، أن القوات الأوكرانية تحركت باتجاه باخموت، مشيراً إلى "أنها نفذت هجمات وألحقت خسائر بالمعدات والآليات التابعة للقوات الروسية في الجبهة الشرقية". كما نفذ لواء المدفعية الـ45 وسلاح الجو، هجمات مُحكمة في اتجاه مقاطعة لوغانسك. وأعلنت نائبة وزير الدفاع الأوكراني تقدم قوات بلادها في هجوم متزامن باتجاه 6 بلدات شمال باخموت وجنوبها. وقال قائد اللواء الثالث في الجيش الأوكراني، أندريه بيليتسكي، إن قوات بلاده نفذت ما وصفها بعمليات تطهير في الضفة الغربية لقناة "سيفرسكي دونيتس- دونباس"، الواقعة جنوب باخموت. وكشف المتحدث باسم المجموعة الشرقية من القوات الأوكرانية، سيرهي شيريفاتي، عن أن الجيش الأوكراني تقدم على مدار يوم واحد من 600 إلى 1000 متر على الجانبين الجنوبي والشمالي حول باخموت.
6- التصعيد الروسي على جبهة المعركة: في محاولة للتجاوز السريع لآثار تمرد فاغنر التي أحدثت نوعاً من الضرر لبوتين نتيجة تحدي سلطته، فإنه سعى لإعادة تأكيد حضوره وقواته بشكل سريع من خلال تصعيده القتالي على جبهة المعركة في أوكرانيا. ففي مقاطعة خاركيف، قال المتحدث باسم قوات الغرب الروسية، سيرغي زيبينسكي، إن قواته وجهت 11 ضربة صاروخية لمناطق تمركز لواءين من القوات المسلحة الأوكرانية في اتجاه كوبيانسك بمقاطعة خاركيف. كما أعلن المتحدث باسم قوات الجنوب الروسية، فاديم أستافييف، أن قواته صدّت هجمات أوكرانية نفّذتها 10 وحدات من المركبات المدرّعة في اتجاه باخموت، وتصدت أيضاً لـ4 هجمات في محيط باخموت، ودمّرت وحدة مشاة عند محور مارينكا جنوب دونيتسك.
7- اندلاع مخاوف في دول الجوار الروسي: أدى الإعلان عن توجه بريغوجين إلى بيلاروسيا، بموجب الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الكرملين بوساطة الرئيس لوكاشينكو، إلى استشعار دول الجوار في منطقة البلطيق الخطر من احتمالية بسط فاغنر لنفوذها في هذه الدول، في ضوء التموضع الجديد لقائدها في بيلاروسيا. وحذر الرئيس الليتواني، جيتاناس ناوسيدا، من أن حلف "الناتو" سيحتاج إلى تقوية جناحه الشرقي إذا صارت بيلاروسيا المُضيف الجديد لرئيس فاغنر. وصرح عقب اجتماع لمجلس أمن الدولة بشأن تمرد قوات فاغنر: "إذا انتهى الأمر ببريغوجين أو جزء من مجموعة فاغنر في بيلاروسيا بخطط غير واضحة ونيات غير واضحة، فهذا يعني فقط أننا بحاجة إلى زيادة تعزيز أمن حدودنا الشرقية"، وتابع "لا أتحدث هنا عن ليتوانيا فحسب، بل أتحدث بلا شك عن حلف الناتو بأسره". ويأتي هذا تزامناً مع استضافة ليتوانيا قمة "الناتو" في يوليو المقبل.
إجمالاً، على الرغم من التأثير المحدود حتى الآن الذي أحدثته حالة الفوضى في صفوف القوات الروسية على خط المواجهة بأوكرانيا نتيجة حركة التمرد غير المُكتملة لقوات فاغنر، التي مثلّت رأس الحربة في الهجوم الروسي على أوكرانيا، فإن "الصدع" أو الانقسام الذي أحدثه هذا التمرد، وما يمكن أن يترتب عليه من قرارات بحل فاغنر خاصة في ظل بنود الاتفاق الذي تم التوصل إليه لإنهاء التمرد، ربما يُغير لاحقاً من قواعد اللعبة في الحرب الأوكرانية. فالمواقع التي أخلتها قوات فاغنر قُبيل الهجوم الأوكراني المُضاد قد تُسهل مهمة القوات الأوكرانية، وربما يصعب على الجيش الروسي تعويض قوات فاغنر في وقت قصير.
من ناحية أخرى، لا يبدو أن الرئيس بوتين، بالرغم من خطابه الذي وصف فيه ما قام به قائد فاغنر بـ"الخيانة" ثم موافقته بعد ذلك على إعفائه من الملاحقة القانونية، عازم على تصفية فاغنر تماماً حتى الآن، بقدر رغبته في تحجيم المجموعة وتقليص نفوذها، وإخضاعها لسيطرة الجيش بشكل مباشر. فبعد كل شيء، لا يمكن للكرملين على الفور استبدال الأدوار العسكرية التي تقوم بها هذه المجموعة نيابةً عن الجيش الروسي في الكثير من الدول الأخرى ومناطق الصراعات، كما لا يمكنه المخاطرة باستمرار الانقسامات في صفوف القوات الروسية المشاركة في حرب أوكرانيا تحديداً، حيث إن ذلك من شأنه أن يهدد الانتصارات العسكرية التي تحققت بعد أكثر من عام على اندلاع الحرب.