زعم وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 12 مارس 2023، توصل بلاده لاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية، خلال الأيام الماضية، يقضي بتبادل السجناء بين الجانبين، مضيفاً أنه في حال سارت الأمور على ما يرام مع واشنطن، فإن تبادل السجناء سوف يتم تنفيذه في فترة قصيرة، مشيراً إلى أن كل شيء جاهز من ناحية إيران، ويتبقى التنسيق الفني والنهائي من جانب الولايات المتحدة، وهي التصريحات التي نفتها واشنطن، جملة وتفصيلاً.
أبعاد متناقضة
زعمت طهران التوصل إلى اتفاق مع واشنطن حول تبادل السجناء، غير أن واشنطن نفت ذلك، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- نفي واشنطن وجود اتفاق: وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، ادعاء عبد اللهيان بالتوصل إلى صفقة مع واشنطن حول تبادل السجناء، بأنه "كذبة أخرى قاسية بشكل خاص من جانب إيران، تزيد من معاناة أسر الأسرى"، مؤكداً أن بلاده تعمل بلا كلل لتأمين إطلاق سراح الأمريكيين الثلاثة المحتجزين ظلماً في إيران. وهو الأمر الذي أكده المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي بالبيت الأبيض جون كيربي، مضيفاً أن المسؤولين الإيرانيين لن يترددوا في اختلاق الأمور. وأشارت وسائل الإعلام إلى أن إيران تحتجز عدداً من المواطنين الأمريكيين من أصول إيرانية، ومنهم سيامك نمازي، وعماد شرقي، ومراد طاهباز.
2- تأكيد طهران ادعاءاتها: أبدى المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني استغرابه من ردة فعل واشنطن على تصريح وزير الخارجية الإيراني، مؤكداً أن الجانبين توصلا لاتفاق مكتوب لتبادل السجناء منذ مارس 2022، موقّع من جانب الممثل الرسمي للولايات المتحدة، لكن الأخيرة لم تنفذه، وأن ما جرى خلال الأيام الأخيرة هو تبادل للرسائل لتحديث الاتفاق. وقد دفع ذلك وزير الخارجية الإيراني للعودة، في 19 مارس 2023، لتأكيد وجود وثيقة مكتوبة بين الجانبين في هذا الشأن، مشيراً إلى أن التوقيع جرى في بلد ثالث، غير أنه لم يقم بنشر الوثيقة المزعومة.
3- توضيح أمريكي للاتفاق: كشفت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، عن وجود محادثات بشأن تبادل السجناء جرت بين إيران والولايات المتحدة في سبتمبر 2022، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بوساطة قطرية، وأن المناقشات شملت الإفراج عن أموال إيرانية في كوريا الجنوبية، وأن أحد الخيارات التي كانت مطروحة هو الاحتفاظ بهذه الأموال في حساب قطري لضمان استخدامه في شراء سلع غير قابلة للعقوبات، مثل الأدوية والمواد الغذائية. وأكدت الصحيفة أنه لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن تلك القضية.
أهداف إيرانية
في ضوء المعطيات السابقة، يبدو من الواضح أن طهران تشير إلى اتفاق تعثر تنفيذه في اللحظات الأخيرة، ويمكن إيراد أسباب كشف إيران لهذا الاتفاق، ومحاولة الإيحاء بأنه سارٍ، لتحقيق عدد من الأهداف، تتمثل في التالي:
1- تأكيد الانفتاح على العلاقات مع واشنطن: هدفت طهران من جراء ذلك الادعاء إلى التظاهر بأنها منفتحة على إقامة علاقات مع الأطراف الخارجية كافة، خاصة مع تزامن ذلك مع مساعيها للانفتاح نحو دول الجوار العربي، إذ أن هذا الإعلان من جانبها جاء بعد يوميْن من الكشف عن اتفاق وقعته طهران مع الرياض، برعاية صينية، يقضي باستئناف العلاقات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية معها، بجانب محاولات التقارب مع دولة الإمارات والبحرين ومصر وغيرها.
لذا تسعى إيران إلى إيصال رسائل بأنها لا تمانع في التوصل إلى اتفاقات في قضايا معينة مع الولايات المتحدة، والتي تجمعها معها ملفات خلافية عدّة، لاسيما وأن قضية تبادل السجناء، تحمل أبعاداً إنسانية، قد تغير وفق تصور طهران من نظرة المجتمع الدولي للنظام الإيراني الذي مارس القمع ضد المتظاهرين في الاحتجاجات الأخيرة.
ويُعزز ذلك، تصريح إمام جمعة مدينة قم، هاشم حسيني بوشهري، بأن طهران ليس لديها مشكلة في إقامة علاقات مع واشنطن إذا اتخذت مساراً عقلانياً. ومن المعروف أن أئمة الجمع في إيران هم ممثلون عن المرشد الأعلى علي خامنئي الذي يقوم بتعيينهم، الأمر الذي يؤكد وجود توجه من رأس النظام في إيران بالتظاهر بأن طهران متطلعة نحو تحسين علاقاتها مع الخارج.
2- عزل الموقف الإسرائيلي عن واشنطن: تسعى إيران إلى محاولة عزل الموقف الإسرائيلي تجاهها عن موقف واشنطن، بزعمها التوصل إلى اتفاق مع الأخيرة حول تبادل السجناء، ويكتسب هذا الأمر أهميته بالنظر إلى مساعي التنسيق بين الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، خلال الفترة الأخيرة، حيال التهديدات الإيرانية، إذ أجرى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، زيارة إلى إسرائيل، في 9 مارس 2023، التقى فيها كبار المسؤولين الإسرائيليين، وتم الاتفاق على منع إيران من الوصول للسلاح النووي، كما أجرى الجانبان مناورات مُشتركة باسم "العلم الأحمر"، في قاعدة نيلس الجوية بولاية نيفادا الأمريكية، في 12 من نفس الشهر، وشملت تدريبات تحاكي استهدافاً جوياً لمنشآت إيران النووية.
وربما تعوّل طهران أيضاً على استمرار تفضيل واشنطن للحلول الدبلوماسية للتعامل مع المشكلة الإيرانية، وهو ما أكده وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 21 فبراير 2023، وعبّر عنه أوستن أيضاً، خلال زيارته إسرائيل، حيث عد ذلك الخيار الأفضل لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، في حين ترفض إسرائيل ذلك المسار، باعتباره غير كافٍ لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية.
3- إيصال رسائل تحفيز للجانب الأوروبي: قد يكون من ضمن البواعث الإيرانية من جراء الزعم بالتوصل لاتفاق حول تبادل السجناء مع الجانب الأمريكي، هو تشجيع الأطراف الأوروبية لعقد اتفاقات مع طهران للإفراج عن المحتجزين الأوروبيين في السجون الإيرانية، والذين أشارت بعض التقارير إلى أن عددهم قد بلغ عام 2022، ما لا يقل عن 66 أجنبياً ومن مزدوجي الجنسية، منهم نحو 15 بريطانياً، و6 فرنسيين، الأمر الذي قد يسفر عن مبادلة السجناء الإيرانيين في تلك الدول، ومنهم المسؤول الإيراني حميد نوري، المُحتجز في السويد بتهمة المُشاركة فيما يُسمى بـ"لجنة الموت"، والتي أمرت بإعدام آلاف السجناء في عام 1988، والمحكوم عليه بالسجن مدى الحياة، وهي القضية التي تسبب إحراجاً للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي كان عضواً أيضاً في هذه اللجنة، أو الحصول على أموال إيرانية مُجمّدة لدى البنوك الأوروبية، على غرار دفع بريطانيا ديوناً بقيمة 400 مليون جنيه إسترليني مقابل الإفراج عن الصحفيتيْن البريطانيتيْن من أصول إيرانية نازانين زاغاري وأنوشة آشوري، في مارس 2022.
4- محاولة بعث تطمينات للداخل الإيراني: هدف النظام الإيراني من ادعائه التوصل لاتفاق مع الجانب الأمريكي حول تبادل السجناء إلى بعث رسائل طمأنة للداخل الإيراني بأنه يستمر في تحقيق إنجازات دبلوماسية، أحرزها من خلال التوصل إلى الاتفاقات مع السعودية والإمارات والعراق، إذ تمت الإشارة إلى تفعيل الاتفاقية الاقتصادية الموقعة بين إيران والسعودية عام 1998.
كما أشار أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، إلى التوصل لتفاهمات تتيح استخدام الدرهم في التبادلات التجارية مع دولة الإمارات، إلى جانب الاتفاق على آلية جديدة لتسديد ديون بغداد إلى طهران، على أساس أن هذه الاتفاقات من شأنها أن تنعكس إيجاباً على الأوضاع الاقتصادية في الداخل الإيراني، والذي يئن تحت وطأة العقوبات المفروضة عليه منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018.
وفي التقدير، يمكن القول إن زعم إيران بالتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة جاء لأهداف سياسية ودعائية خاصة بها في المقام الأول، وبالنظر إلى السوابق الإيرانية، فإنها تُفيد بإن المصادر الإيرانية تعمّدت الكذب من قبل في مواقف مختلفة، ومنها على سبيل المثال، الادعاء بالحصول فعلياً على مبلغ 7 مليارات دولار من كوريا الجنوبية، مقابل الإفراج عن ثلاثة سجناء أمريكيين محتجزين لديها، وهو الأمر الذي اتضح مجافاته للحقيقة جملة وتفصيلاً فيما بعد.
كما إنه من الواضح أنه سوف يكون من الصعب على الإدارة الأمريكية عقد مثل تلك الاتفاقات مع الجانب الإيراني في الوقت الحالي، الذي تتزايد فيه الخلافات مع إيران، وذلك خشية توجيه انتقادات لاذعة من قبل الكونغرس الأمريكي، والذي يُسيطر عليه الجمهوريون، فضلاً عن الجانب الإسرائيلي، والذي تنسق معه لمواجهة مخاطر إيران، خاصة في ضوء رفع الأخيرة مستويات تخصيب اليورانيوم إلى مستويات شبة عسكرية، لذا جاء النفي الأمريكي قاطعاً لتلك المزاعم، ولم تكتف واشنطن بالصمت، كما حدث في ادعاءات سابقة.