تشهد تونس في الوقت الراهن حالة من الجدل السياسي الواسع على خلفية التصعيد القائم بين رئيس الدولة، قيس سعيد، والأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية المعارضة له، وهو ما انعكس في تنظيم المعارضة لمظاهرات واحتجاجات شعبية تطالب بإسقاط النظام السياسي القائم.
وفي المقابل، رفض سعيد هذه المطالب، وأصر على المضي قدماً في إجراءات الإصلاح السياسي والدستوري، وفقاً لرؤيته، حتى لو تطلب ذلك استمراره في التصعيد في وجه المعارضين لسياساته.
سياق داخلي مضطرب
ثار الحديث عن التقارب المحتمل بين الاتحاد التونسي العام للشغل وحركة النهضة، في سياق عدد من المتغيرات السياسية والأمنية المهمة التي تشهدها تونس في الوقت الراهن، ومن أبرزها ما يلي:
1- احتجاجات شعبية ضد رئيس الدولة: شهدت تونس خروج عدد من المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في 4 و5 مارس 2023، وذلك استجابة لدعوات الاتحاد التونسي العام للشغل للاحتجاج على سياسات الرئيس قيس سعيد ضد القوى المعارضة والنقابية في الشهور الأخيرة.
ورفع المتظاهرون شعارات منددة بما أطلقوا عليه انفراد الرئيس بالسلطات الثلاث والحكم، والاحتجاج على التضييق على الحقوق والحريات العامة للمواطنين والمعارضين على حد سواء، وكذلك انتقاد سياسات الحكومة الحالية وطريقة تعاملها مع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ورفع الدعم عن المواد الأساسية وبيع مؤسسات الدولة تنفيذاً لشروط صندوق النقد الدولي.
وقبل هذه التظاهرات نظم الاتحاد إضراباً في قطاع السكة الحديد في 2 مارس الجاري، احتجاجاً على تردي ظروف العمل والأوضاع المهنية للعمال، ودفاعاً عن الحق في ممارسة الحق النقابي. وتزامنت احتجاجات اتحاد الشغل مع التظاهرات التي نظمتها جبهة الخلاص الوطني وحركة النهضة اعتراضاً على حملة الاعتقالات التي طالت عدداً من قياداتها خلال الفترة الأخيرة.
2- اعتقال المعارضين لسعيد: تزامن ذلك مع استمرار حملة الاعتقالات التي تقوم بها السلطات الأمنية ضد أكثر من 20 معارضاً، وعدد من قيادات حركة النهضة ومن أبرزهم كل من حبيب اللوز والصادق شورو لاتهامهم بالتآمر على الأمن القومي للدولة، وذلك بسبب تورطهم في شبكات تسفير التونسيين لمناطق التوتر في سوريا والعراق.
وترى حركة النهضة أن هذه الاعتقالات ما هي إلا عملية تصفية للخصوم السياسيين لرئيس الدولة، كما وصف رئيس جبهة الخلاص الوطني، أحمد الشابي، هذه الاعتقالات بأنها سياسة عشوائية يتبناها رئيس الدولة ولا بد من التصدي لها.
3- تصعيد رئاسي ضد المعارضة: اتهم الرئيس، قيس سعيد، الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية باستهداف الأمن القومي للبلاد، وتبنى الرئيس سعيد خطاباً سياسياً تصعيدياً حمل في طياته اتهامات للمعارضة بالسماح بمشاركة أجانب في هذه التظاهرات، وهو ما دفع السلطات لمنع دخول ممثلين عن اتحادات نقابية في 6 دول على الأقل من أجل المشاركة في الاحتجاجات التي ينظمها اتحاد الشغل.
وانتقد كذلك حشد المعارضة للمواطنين من أجل التظاهر في الوقت الذي يتعرض فيه رئيس الدولة لمحاولات اغتيال، متهماً المعارضة بتنظيم مظاهرات بلا هدف وبلا مطالب، وأن الهدف الحقيقي وراء ذلك يتمثل في زعزعة أمن واستقرار الدولة التونسية.
4- انتقادات دولية متصاعدة: أثارت الأزمة السياسية الممتدة في تونس مواقف بعض الفاعلين الخارجيين وعلى رأسهم الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، حيث عبروا عن قلقهم البالغ إزاء حملة الاعتقالات التي طالت العديد من المعارضين، وطالبوا الحكومة التونسية بوقف اعتقال المعارضين السياسيين.
مؤشرات دالة
في إطار هذا السياق، تصاعد الحديث عن اتجاه الاتحاد التونسي العام للشغل للتقارب مع حركة النهضة (الإخوان المسلمين) واحتمال تشكيل تحالف معارض في وجه الرئيس قيس سعيد، ومن المؤشرات الدالة على ذلك ما يلي:
1- انتقاد سياسات رئيس الدولة: يبدو أن هناك توافقاً بين اتحاد الشغل وحركة النهضة بشأن انتقاد سياسات رئيس الدولة، وتحديداً تجاه ثلاث قضايا رئيسية، وهي التأخر في الإصلاح السياسي والإداري، والانفراد بالسلطة، وعدم إشراك المعارضة، ورفض الرئيس تغيير الحكومة الحالية رغم فشلها الواضح في مواجهة الأزمة الاقتصادية، وهو ما ظهر خلال التظاهرات الشعبية التي نظمها كل من الاتحاد وحركة النهضة ضد رئيس الدولة.
كما صرح القيادي في جبهة الخلاص، عضو المكتب التنفيذي لحزب حراك تونس الإرادة، عمر السيفاوي، بأن هناك تقارباً بين جبهة الخلاص والاتحاد العام التونسي للشغل، وأن الأمور تسير في اتجاه التنسيق المشترك، وهي التصريحات التي لم يؤيدها الاتحاد.
2- المطالبة بالإفراج عن المعتقلين: أطلق الأمين العام لاتحاد الشغل، نور الدين الطبوبي، خلال المظاهرات الأخيرة، تصريحات انتقد فيها اعتقال المعارضين، وقدم التحية لمعتقلي سجن "المرناقية" الذي يضم قيادات حركة النهضة المعتقلين، ومن أبرزهم علي العريض، وهو ما تماشى مع موقف حركة النهضة الرافضة لهذه الاعتقالات، والتي وصفتها بأنها تصفية سياسية من قبل رئيس الدولة لخصومه ومعارضيه.
وعلى الرغم من إعلان سامي الطاهري، الأمين العام المساعد لاتحاد الشغل، أن هذه التحية تم فهمها بطريقة خاطئة وأن المقصود بها القيادي أنيس الكعبي، الكاتب العام لنقابة شركة تونس للطرقات السيارة دون غيره، فإن ذلك لم يمنع من الحديث عن تقارب بين الاتحاد وحركة النهضة.
3- توظيف الأزمة الاقتصادية: تشير مواقف الاتحاد التونسي العام للشغل وحركة النهضة خلال الفترة الأخيرة إلى توظيف كل منهما للأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد في الوقت الراهن، وذلك في إطار الضغط على رئيس الدولة للاستجابة لمطالبهم.
4- رفض الإساءة لحركة النهضة: رفض دفاع حمة الهمامي، زعيم اليسار التونسي، رفع شعارات مسيئة لراشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، خلال المسيرة الاحتجاجية التي دعا إليها الاتحاد، وهو ما كشف عن إمكانية وجود تقارب بين اتحاد الشغل وحركة النهضة.
عقبات قائمة
على الرغم من الحديث عن بعض المؤشرات على إمكانية إنشاء تحالف بين الاتحاد التونسي العام للشغل وحركة النهضة لمعارضة سعيد ودفعه للاستجابة لمطالب المعارضة، فإن هناك عقبات تحد من فرص تشكيل جبهة معارضة تضم الاتحاد والنهضة، ومن ذلك ما يلي:
1- اختلاف التوجهات والمطالب: أكد قادة اتحاد الشغل أن هناك اختلافاً في المبادئ والأهداف بين الاتحاد وجبهة الخلاص الوطني، ففي حين تطالب جبهة الخلاص الوطني والنهضة بإسقاط النظام السياسي الحالي وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، فإن اتحاد الشغل يطالب بتصحيح مسار 25 يوليو، وأن يستجيب رئيس الدولة لمطالبه الخاصة بإجراء حوار وطني تشارك فيه كل القوى السياسية والمجتمعية باستثناء حركة النهضة، كما أن الاتحاد أعلن رفضه مشاركة النهضة في مظاهرات الاتحاد، إذ أكد سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد، رفضه مشاركة أي ممثلين عن حركة النهضة في هذه التظاهرات إلا بصفاتهم الشخصية فقط.
2- تباين المواقف إزاء مسار 25 يوليو: تدعو جبهة الخلاص الوطني والنهضة إلى العودة إلى مرحلة ما قبل 25 يوليو، إلا أن اتحاد الشغل يرفض ذلك بشكل مطلق، ويرفض عودة الإخوان المسلمين مرة أخرى إلى سدة الحكم، لاقتناعه بأن النهضة تتحمل مسؤولية تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل 25 يوليو. ولولا رفض الرئيس سعيد للمبادرات التي طرحها اتحاد الشغل خلال العام الأخير، وخاصة فيما يتعلق بالحوار الوطني وتوسيع دائرة المشاركين فيه، لما قام الاتحاد بالتصعيد على هذا النحو.
3- دعم وتمويل الإرهاب: يرى اتحاد الشغل أنه لا يمكن التقارب مع النهضة بسبب تورط قادة الحركة في قضايا دعم وتمويل الإرهاب، وهو ما أكده سامي الطاهري، في 7 مارس الجاري، حيث قال إن حركة النهضة تدعو للعنف والإرهاب، كما أنها ساندت الإرهابيين ودافعت عنهم، وبالتالي لا يمكن الاصطفاف معها.
4- اختلاف حدة التصعيد: يحافظ اتحاد الشغل على إمكانية التهدئة في أي وقت مع رئيس الدولة، خاصة وأن الاتحاد يمثل شريحة واسعة من العمال الذين يدافع عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية وتحسين أوضاعهم المعيشية.
كما أن الاتحاد يدرك جيداً أن التحالف أو التقارب مع النهضة من شأنه التأثير سلباً في وضعه في المشهد السياسي الراهن في البلاد، وهو ما اتضح في تصريحات الطبوبي، التي انتقد خلالها التأويل الخاطئ لتصريحاته التي أطلقها خلال التظاهر ضد رئيس الدولة، نافياً أن يكون القصد من هذه التصريحات هو التقارب مع النهضة، وهو ما ظهر في انتقاده للرئيس والمعارضة، على حد سواء، ويقصد بها هنا جبهة الخلاص الوطني وحركة النهضة، بسبب استغلالها لتصريحاته ومحاولة توظيفها لإظهار أن هناك تحالفاً معارضاً يتم بناؤه مع اتحاد الشغل في مواجهة رئيس الدولة.
كما أن الطبوبي أكد أن المشاورات مع شركائه (هيئة المحامين ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) ما زالت قائمة بشأن مبادرة الإنقاذ واستعداده لتقديمها لرئيس الدولة لإقناعه بحلحلة الأزمة السياسية الحالية.
5- رفض القواعد الشعبية: أعلنت مباركة عواينية، أرملة النائب البرلماني، محمد البراهمي، انتهاء علاقتها بالاتحاد العام التونسي للشغل، قائلة: "لن نسامح الطبوبي واتحاد الشغل، ولا المنظومة السابقة، عما اقترفوه بحق تونس"، مضيفة أن القضاء التونسي "بدأ يتعافى لمواجهة الفاسدين، وكشف حقائق عمليات الاغتيال السياسي، والشعب التونسي سيعرف كل ما جرى أيام حكم النهضة"، وذلك على خلفية تحية الطبوبي للمعتقلين بمن فيهم قيادات النهضة، وهو ما دفع قيادات الاتحاد للإسراع نحو تفسير المقصود من ذلك، ونفي أي علاقة للتقارب مع حركة النهضة، خوفاً من فقدان الاتحاد لقواعده الشعبية التي ترفض أي تقارب مع النهضة وتحملها مسؤولية تدهور أوضاع البلاد.
وفي الختام، ترجح المعطيات الراهنة محدودية فرص تقارب الاتحاد التونسي العام للشغل مع حركة النهضة، إذ يرى الاتحاد أنه القوة الوحيدة المنوط بها تغيير موازين القوى في الوقت الذي يستأثر فيه رئيس الدولة بالحكم رافضاً إشراك الأحزاب والقوى السياسية والمجتمعية في العملية السياسية، وهو ما يدفعه لمواصلة التصعيد منفرداً دون الدخول في تحالفات أو تفاهمات مع حركة النهضة.