أعلن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في مؤتمر صحفي مُشترك مع نظيره القطري، محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، في 29 يناير 2023، أن طهران تسلمت رسائل من الأطراف المُشاركة في الاتفاق النووي عبر قطر، مشيراً إلى ما وصفه بدور الدوحة الإيجابي من أجل إعادة الأطراف إلى الاتفاق النووي والتوصل لاتفاق مُثمر.
محاولات قائمة
على الرغم من إبداء الإدارة الأمريكية تراجع اهتمامها بإحياء مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران، والمتوقفة منذ أغسطس 2022، فإن هناك مؤشرات ظهرت في الآونة الأخيرة تدلل على استمرار إبقاء واشنطن لخيار الدبلوماسية قائماً، وهو ما يتضح في المواقف التالية:
1- تسليم رسائل عبر الدوحة: أوضح وزير الخارجية القطري أن واشنطن سلمته سلسلة من الرسائل لنقلها إلى إيران، داعياً أطراف الاتفاق النووي للعودة له. وكشفت رئيسة لجنة الشؤون النووية في مجلس الشورى الإيراني، سارات فلاحي، عن مضمون هذه الرسائل، إذ أشارت إلى أن واشنطن بعثت برسائل مع قطر تدعوها لإجراء مفاوضات مباشرة بشأن الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي لم يؤكده وزير الخارجية القطري، أو واشنطن. وتجدر الإشارة إلى أن اختيار قطر جاء بسبب احتفاظها بعلاقات جيدة مع طهران وواشنطن.
2- مباحثات مالي مع إيرواني: التقى المبعوث الأمريكي لشؤون إيران، روبرت مالي، مع السفير الإيراني في الأمم المتحدة، سعيد إيرواني، أكثر من ثلاث مرات خلال الشهريْن الماضييْن. وذهبت تقديرات إلى أن تلك الاجتماعات تضمنت إما نقل رسائل تتعلق بصفقة نووية مُحتملة، أو التباحث حول ملف المحتجزين الأمريكيين في سجون إيران، أو لحث طهران على التخلي عن دعم روسيا بالطائرات المُسيّرة في حربها ضد أوكرانيا.
والجدير بالذكر أن الخارجية الأمريكية لم تنف حدوث تلك اللقاءات، بل أكدت وجود اتصالات مع الجانب الإيراني، وذلك بهدف إيصال رسائل محددة، وذلك دون الكشف عن مضمون هذه الرسائل.
3- تمسك واشنطن بالدبلوماسية: أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 29 يناير 2023، أن الإدارة الأمريكية مازالت مُتمسكة بالدبلوماسية كحل لاحتواء مخاطر إيران، وهو ذات الأمر الذي أكده مالي في اليوم التالي مباشرة. كما أن تصريح الرئيس بايدن، في 4 نوفمبر 2022، بأن "الاتفاق النووي مع إيران قد مات"، قد أردفه بأنه "لا يعلن عن وفاته"، في دلالة ربما على الرغبة في جعل باب التفاوض موارباً، دون إغلاقه بشكل كامل.
دلالات كاشفة
تكشف المواقف الأمريكية السابقة عن عدد من الدلالات، التي يمكن استعراض أبرزها على النحو التالي:
1- الحفاظ على الخيار الدبلوماسي: يُدلل استمرار قنوات الاتصال بين الجانبين الأمريكي والإيراني على تمسك واشنطن بالتعويل على إحياء الاتفاق النووي مع طهران، بل تذهب التقديرات إلى أن هذا التصريح قد أراد به بايدن أن يوقف الانتقادات المتصاعدة للإدارة الأمريكية من قبل مجلس النواب الأمريكي، الذي تسيطر عليه أغلبية جمهورية، توجه اللوم للإدارة على سياساتها التي تراها تلك الأغلبية ضعيفة وغير حازمة تجاه إيران.
وربما يعزى ذلك الموقف من جانب واشنطن إلى عدد من الأسباب منها رغبتها في عدم مواجهة الخيار الأصعب والمُتمثل في استخدام القوة العسكرية ضد إيران، وهو خيار يبدو أن إدارة بايدن ليست على استعداد لتحمل تكلفته، فضلاً عن تحاشيها إغلاق باب التفاوض بشكل نهائي، خاصة في ظل تفضيل بايدن لهذا النهج في التعامل مع إيران.
2- تعزيز مصداقية الخيار العسكري: يلاحظ أن محاولات واشنطن لإبقاء قنوات دبلوماسية مع إيران لم تمنعها من إطلاق مناورة "جونيبر أوك" الضخمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، في الفترة من 23 إلى 26 يناير 2023، والتي سعت من خلالها لإيصال رسائل تهديد للجانب الإيراني، خاصة في ضوء ما تمت الإشارة إليه بأن هدف التدريب هو محاكاة هجوم مُشترك ضد مواقع نووية، بمعنى أن واشنطن أرادت أن تحذر إيران بأنه في حال استمرت في تعنتها بشأن التصعيد في الملف النووي، فإن البديل سيكون استخدام الخيار العسكري ضد منشآتها النووية، وهو الخيار الذي أكد عليه المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، في 31 يناير 2023.
3- استئناف العمليات التخريبية: تسعى واشنطن إلى تكثيف الضغوط على طهران، من خلال العمليات التخريبية التي تنفذها إسرائيل في العمق الإيراني، إذ استُهدف مصنع عسكري تابع لوزارة الدفاع الإيرانية في محافظة أصفهان، بوسط إيران، ليل 28 – 29 يناير الماضي، بثلاث طائرات مُسيرة، واتهمت إيران رسمياً إسرائيل بالوقوف وراء الحادث.
وتزامن هذا الحادث مع زيارات لثلاثة مسؤولين أمريكيين إلى إسرائيل وهم: مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وليام بيرنز، ومستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، ووزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، وهو ما يؤشر إلى وجود تنسيق أمريكي إسرائيلي بشأن الهجوم، خاصة وأن أول من نسب الهجوم في أصفهان لإسرائيل، كانت مصادر أمريكية في تصريحات نقلتها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
وتسعى إسرائيل من خلال هذه العمليات التخريبية إلى إبطاء وتيرة التقدم في مشروعات إيران النووية والعسكرية الاستراتيجية، وذلك للرد على مواصلة طهران تطوير قدراتها العسكرية ورفع معدلات تخصيب اليورانيوم، غير أنه يلاحظ أن تحليل صور الأقمار الاصطناعية للأسوشيتد برس، في 3 فبراير 2023، كشف عن تأثر محدود لسطح المنشأة المستهدفة جراء الهجوم الإسرائيلي، وهو ما توافق مع ما نشره التلفزيون الإيراني لصور المنشأة بعد تعرضها للهجوم مباشرة، وهو ما يعني أن المصنع لم يصب بضرر واسع من العملية التخريبية، ومن ثم لم ينجح الهجوم في فرض الضغوط المطلوبة على إيران، بل إنه كشف عن نجاح الأخيرة في توفير الدفاعات اللازمة لمواقعها الاستراتيجية.
4- سعي واشنطن لإبعاد إيران عن روسيا: يمكن تفسير محاولات واشنطن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، إلى سعيها لإبعادها عن روسيا، بهدف إضعاف التعاون العسكري بين الجانبين، وحرمان روسيا من الطائرات المسيرة الإيرانية. ويلاحظ أن واشنطن سعت لتوظيف الموقف الإيراني الداعم لروسيا من أجل دفع الاتحاد الأوروبي لتبني مواقف أكثر تشدداً من إيران، كما وضح في فرض حزم متتابعة من العقوبات ضد مسؤولين إيرانيين، فضلاً عن توصية البرلمان الأوروبي بإدراج الحرس الثوري الإيراني على قوائم الإرهاب الأوروبية.
فرص إحياء الاتفاق
بالنظر إلى الموقف الأمريكي من استئناف التفاوض مع إيران، يمكن القول إن فرص إحياء الاتفاق النووي، قد تتخذ أحد المسارات الآتية:
1- قبول إيران استئناف المفاوضات: قد تعود إيران إلى المفاوضات النووية جراء الضغوط الأمريكية الإسرائيلية الأخيرة، ويعزز من ذلك إعلان عبداللهيان، في 28 ديسمبر 2022، أثناء زيارته لمسقط، أن نافذة المفاوضات النووية مازالت مفتوحة. وينظر إلى تلك الزيارة على أنها محاولة من جانب إيران لإحياء المفاوضات عبر سلطنة عُمان، خاصة وأنه سبقها زيارتان مكوكيتان لكبير المفاوضين الإيرانيين علي باقري كني إلى الدوحة وموسكو لذات الغرض.
ومن جهة أخرى، فإن إرجاء الأطراف الأوروبية قرار تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية، يعني أنه قد يمثل إتاحة المجال أمام استئناف المباحثات النووية مع الولايات المتحدة. ويلاحظ أن هذا الخيار لن يكون سهلاً، نظراً لوجود مسودة شبه نهائية للاتفاق النووي، وهي المسودة التي تطالب الأطراف الغربية إيران بقبولها إذا كانت جادة في إحياء الاتفاق، وهو أمر ترفضه إيران.
2- انهيار خيار المفاوضات: يلاحظ أن الجهود السابقة لإحياء الاتفاق، حتى الآن، لم يكتب لها النجاح، وهو ما يرتبط بإعلان الإيرانيين أنهم لا يتفاوضون من منطق ضعف، وأنهم لن يقدموا تنازلات أمام التهديدات، في إشارة إلى إصرار إيران على إدخال تعديلات على المسودة النهائية للاتفاق النووي، وهو المطلب الذي لا يتجاوب معه الغرب، خاصة وأنه بات من الواضح أن نهج إيران في المفاوضات يقوم على التسويف والمماطلة وكسب الوقت.
ومن جهة أخرى، فإن إيران تواصل تصعيدها النووي، إذ أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في تقريرها الصادر في فبراير 2023، عن إدخال إيران تغييرات على ربط سلسلتين من أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم بنسبة 60% في منشأة فوردو، دون إعلام الوكالة بذلك، وهو ما يأتي في ضوء محاولات طهران تسريع وتيرة تخصيب اليورانيوم بتلك النسبة التي تقترب من نسبة إنتاج الوقود المُستخدم لصناعة السلاح النووي وهي 90%. وبالتالي، فإنه مع مرور الوقت دون اتفاق، ومواصلة طهران تطوير قدراتها النووية، فإن فرص إحياء الاتفاق النووي سوف تتراجع.
وعلى الجانب الآخر، فإن هناك تلويح من جانب الكونغرس الأمريكي لتبني مقاربة أكثر تشدداً حيال إيران، تجعل من الصعب على أي اتفاق مستقبلي تعليق العقوبات المفروضة على إيران، خاصة في المجالين النووي والصاروخي، وهو ما قد يزيد من صعوبة إحياء الاتفاق.
وفي التقدير، يمكن القول إن واشنطن لم تغلق بشكل نهائي ملف التفاوض مع إيران، كما يتضح في استمرار الاتصال مع المسؤولين الإيرانيين، عبر القنوات المختلفة، إلا أن العودة للمباحثات ماتزال أمراً مستبعداً بالنظر إلى إصرار النظام الإيراني على وضع العراقيل في طريق إحياء الاتفاق النووي، وهو ما يعني أن الفترة المقبلة سوف تشهد توتراً في العلاقات بين إيران وإسرائيل، خاصة إذا ما اتجهت الأخيرة لتنفيذ هجمات جديدة على منشآت إيران الاستراتيجية.