لا شك أن إقامة بطولة كأس الخليج العربي "خليجي 25" لكرة القدم في مدينة البصرة، يعد حدثاً تاريخياً بالنسبة للعراق، الذي لم تُتَح له الفرصة لتنظيم أي حدث عربي أو دولي مهم منذ أكثر من أربعة عقود، بسبب الحروب والعقوبات الدولية والإرهاب والأنظمة التي تعاقبت على حكمه.
ومن أجل فهم الابتهاج الواسع، والفرح الغامر، الذي عم العراق بسبب قبول اللجنة المنظمة للبطولة إقامتها في البصرة، واستقبال العراقيين الحافل والاستثنائي للزائرين العرب، المشاركين في هذه البطولة والمشجعين لها، لابد من استعراض بعض الأحداث الرئيسية في العراق التي ساهمت في خلق هذا الشعور العراقي الجياش، والحماس منقطع النظير لاستضافة بطولة رياضية، كانت دول عديدة، بما فيها العراق، قد استضافتها من قبل من دون ضجة.
من رحم المعاناة:
ابتداءً، لم يستضِف العراق أي بطولة رياضية بهذا المستوى منذ "خليجي 5"، التي استضافها في عام 1979، ولم تحظ بالأهمية التي أولاها العراقيون للبطولة الحالية. فقد ابتهج معظم العراقيين بهذه المناسبة، وروجوا لها وعلَّقوا عليها آمالاً عريضة، وبالتأكيد لديهم أسبابهم الوجيهة والمفهومة لهذا الاهتمام، والتي سنبحثها.
وطوال أربعة عقود ونيف، لم يشهد العراق أي حدث دولي أو عربي مهم وعلى مستوى عالٍ، رياضياً كان أم فنياً أم سياسياً، بالرغم من محاولاته الكثيرة غير الموفقة منذ السبعينيات. فقد كان العراق سيستضيف مؤتمر قمة دول عدم الانحياز في عام 1982، وكانت الاستعدادات جارية على قدم وساق، حتى أن العراق شيَّد قصرَ المؤتمرات العملاق في بغداد لهذا الغرض، وأرسل عشرات الطلاب لدراسة الترجمة في بريطانيا كي يساهموا في تسهيل أعمال المؤتمر، لكن اندلاع الحرب بين العراق وإيران في عام 1980، واعتراض طهران على عقد هذا المؤتمر في بغداد، قد حالا دون انعقاده، فاستضافته الهند بدلاً من العراق.
وطوال عقد الثمانينيات، انشغل العراق بالحرب مع إيران وكيفية صد الهجمات الإيرانية المتكررة، التي كانت تستهدف إسقاط النظام السياسي وإقامة آخر ينسجم مع النظام الإيراني، الأمر الذي دفع معظم دول العالم للوقوف مع العراق حتى النهاية. وكبَّلت الحرب العراقية - الإيرانية العراقيين بقيود ثقيلة، وحرمتهم من الاستقرار، وتحملوا خلالها مآسي وكوارث مريرة، من فقد الأحبة في حرب عبثية لا طائل من ورائها ولا منتصر فيها، إلى تخريب البنى الأساسية للبلد، من مبان وطرق وجسور وشوارع، إلى تلويث البيئة العراقية بكل أنواع الملوثات، إلى إهمال الإعمار والتطوير بسبب تكريس كل الموارد، المادية والبشرية، للمجهود الحربي.
كما حُرِم العراقيون من السياحة العربية والأجنبية بسبب الحرب وعدم الاستقرار، فلم يختلطوا بإخوانهم العرب الذين كانوا يترددون على العراق سابقاً، إما للسياحة أو لأغراض ثقافية أو دينية أو اجتماعية أو تعليمية، أو لزيارة الأقارب. فمعظم العراقيين ينتمون لقبائل عربية منتشرة في الدول المجاورة، خصوصاً المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين وسوريا والأردن. إضافة إلى ذلك، حُرِم العراقيون من السفر بعد حظر الحكومة له، ابتداءً من عام 1982 وحتى 1988، بسبب نقص موارد البلد المالية، التي كُرِّسَت جميعُها لمواصلة الحرب في مواجهة إيران. فلم يتمكن معظم العراقيين من السفر، باستثناء الذين أرسلتهم الحكومة إلى الخارج في مهام رسمية أو للدراسة.
وعندما وضعت تلك الحرب أوزارها في عام 1988، وتنفس العراقيون الصعداء، وسمحت الحكومة بالسفر، كان العراق يئن تحت وطأة الديون والخراب والمآسي التي خلَّفَتها الحرب. لكن الابتهاج بنهاية الحرب كان استثنائياً، إذ كان شعبياً ورسمياً، وكان الناس مفعمين بالأمل في أن يكون المستقبل أفضل وأجمل، وأن يضعوا وراءهم حرب الثماني سنوات، بمصائبها ومآسيها وخسائرها البشرية والمادية.
وفي ربيع عام 1990، استعاد العراق نشاطه العربي، واستضاف مؤتمر القمة العربية العاشر، الذي كُرِّس لتعزيز التضامن العربي ومواجهة التحديات الأمنية التي يواجهها العرب، وكان المؤتمر سيؤسس لدور فاعل للعراق، وعلاقات قوية مع العالم العربي والعالم، لولا أنه غزا الكويت بعد انعقاد تلك القمة بشهرين فقط!
لقد جرت الرياح بما لم تشتهِ سفن الشعب العراقي. فلم تدُم فترة السلم طويلاً، بل عامين فقط، من 8 أغسطس 1988 إلى 2 أغسطس 1990، ليبدأ مسلسل الحروب المدمرة، والعقوبات الدولية الخانقة، والانتفاضات الشعبية العارمة، وأعمال القمع الوحشية التي طالت الجميع. وقاسى العراقيون في تلك الفترة كل صنوف الضيم وشظف العيش والقمع والكبت والحرمان، ولم يستفيدوا حتى من مواردهم الطبيعية، فاضطر كثيرون منهم إلى الهجرة، ومن بقي في الداخل، صمد في وجه أعتى نظام قمعي في تاريخ العراق، وأوسع عقوبات دولية تطال بلد من البلدان. فكل المواد التي يمكن استخدامها عسكرياً، كانت محظورة على العراقيين، بما فيها أقلام الرصاص التي يستخدمها التلاميذ في المدارس. وقد استمر هذا الوضع نحو 13 عاماً، تكبد فيها العراقيون خسائر بشرية جسيمة، خصوصاً بين الأطفال.
وفي عام 2003، غزت الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى العراق لإسقاط النظام الحاكم آنذاك، أثناء فورة الغضب التي أصابت العالم الغربي، والولايات المتحدة تحديداً، إثر الأعمال الإرهابية التي طالت مركز التجارة العالمي في نيويورك. وأُسْقِط نظام صدام حسين خلال ثلاثة أسابيع، فلم يكن يتمتع بتأييد شعبي أو إقليمي أو دولي. وكان يُفتَرَض أن تبدأ مرحلة جديدة بعد سقوط هذا النظام، من الانفتاح والإعمار والتطوير والرخاء ونيل الحقوق واحترام الحريات العامة والخاصة، لكن الجماعات الإرهابية والظلامية بدأت تتقاطر على العراق، متخذةً من الاحتلال الأمريكي ذريعةً لها، وساعية لإضعاف الدولة العراقية، وتفتيت هوية شعبها القومية الراسخة منذ ألفي عام. ولم تكن في العراق أحزاب سياسية منظمة تمتلك مشروعاً وطنياً عصرياً، كي يتمكن من الصمود في وجه تلك الأخطار، بل كانت هناك جماعات متناحرة، أهدافها لا تتعدى خدمة قادتها وتنفيذ أجنداتٍ خارجية.
وفي عام 2012، استضاف العراق مؤتمر القمة العربية الثالث والعشرين، لكن كان مؤتمر قمة في الاسم فقط، إذ لم يحضره معظم الزعماء العرب، بل إن بعض الدول أرسلت سفراء لتمثيلها فيه، بسبب عدم انسجام الدول العربية مع حكومة نوري المالكي آنذاك.
وخلال السنوات العشرين المنصرمة، ازدادت معاناة العراقيين مع اشتداد عمليات الفتك الإرهابي بهم، التي تزامنت مع أعمال النهب الذي قامت به جماعات متشدقة بالدين، تدعمها ميليشيات مسلحة. وبالرغم من الأموال الطائلة التي تسلمها العراق، من النفط والمساعدات الدولية والسياحة الدينية وغيرها، فإن أكثر من ثُلث السكان بقوا تحت خط الفقر، حسب الإحصاءات الرسمية العراقية، بل أن هناك تقديرات لمؤسسات دولية تؤكد أن نسبة الفقر تجاوزت 52%، كتلك التي أوردتها مؤسسة Macrotrends. بينما تهالكت البنى الأساسية للدولة وتلكأت مشاريع الإعمار والتطوير.
تجدد الآمال:
في ضوء الصورة القاتمة للوضع العراقي، من فشل سياسي وفقر مادي وانقسام مجتمعي وتهديد للهوية الوطنية والقومية، وتبعية القوى السياسية الحاكمة لإيران، تأتي بطولة "خليجي 25" في البصرة لتوحد العراقيين وتبعث فيهم الأمل في أن البلدان العربية، ودول الخليج العربي تحديداً، ما زالت تقف مع شعب العراق، بغض النظر عن طبيعة حكومته وتوجهاتها السياسية.
وينظر العراقيون إلى بطولة "خليجي 25" على أنها نقطة انطلاق لعودة العراق إلى محيطه العربي، ويرونها تعزيزاً لهويتهم العربية التي هددتها الجماعات المتشدقة بالدين، المرتبطة بإيران، والتي حاولت خلال العشرين سنة الماضية أن تدق "إسفيناً" طائفياً وثقافياً بين العراقيين وباقي العرب. إنها المرة الأولى، منذ 43 عاماً، التي يستقبل فيها العراقيون مواطني دول الخليج العربية في مناسبة سعيدة من خلال مباريات رياضية بين المنتخبات الثمانية المشاركة في هذه البطولة.
ويشعر العراقيون أيضاً بالفخر لأن لديهم الآن صرحاً رياضياً مؤهلاً لاستقبال مباريات بهذا الحجم، وهو مدينة البصرة الرياضية، التي تضاهي الصروح الرياضية في الدول المتقدمة، والتي يتسع الملعب الرئيسي فيها لخمسة وستين ألف متفرج. كما يأمل العراقيون في أن يكون الانفتاح الخليجي على العراق نافذة أمل لهم بانتعاش السياحة والاستثمارات الخليجية التي يمكن أن تُنشِّط الاقتصاد العراقي، وتوفر الوظائف وتعزز دور القطاع الخاص، الذي تراجع كثيراً بسبب إهمال الحكومة له، واعتماد معظم العراقيين على وظائف الدولة، التي تمولها إيرادات النفط.
وعلى الرغم من أن طبيعة الشعب العراقي، التي تعتز بقيم الكرم والضيافة، لا تسمح بالاستفادة من السياحة، فمعظم العراقيين يعتبرون أخذ المال من الضيف عيباً، فإن هذه العادات التي بقيت تتحدى الزمن، قد تتغير في المستقبل عندما ينشأ قطاع سياحي عصري متكامل. والطريف أن أحد الضيوف العرب، في حديث مع رئيس اتحاد كرة القدم العراقي، عدنان درجال، قد طالب العراقيين بالتخلي عن الكرم المفرِط، قائلاً إن الوفود العربية لم تنفق فلساً واحداً خلال وجودها في العراق حتى الآن.
وأحد أسباب صمود هذه العادات، هو بقاء العراق منعزلاً عن العالم الخارجي منذ قرن من الزمن، فالسياحة لم تنشط في العراق منذ تأسيس الدولة، حتى أن وزارة السياحة التي أُنشئت في عام 2005، أُلغيت بجرة قلم بعد عشر سنوات، بهدف "توفير النفقات"! صحيح أن قطاع السياحة غير مثمر حالياً، لكن السبب هو الإهمال. ويمكن أن يستقطب العراق السياح من مختلف البلدان والثقافات والأديان، بسبب تنوعه الثقافي والديني وثرائه المفرط في هذا المجال، واحتوائه على آثار الحضارات البشرية الأولى، كسومر وبابل وآشور وأكد.
وتعد السياحة الدينية مزدهرة في العراق، لكنها لا تشكل مورداً اقتصادياً يُذكر، لأن العراقيين يقدمون الطعام ويوفرون السكن مجاناً للزائرين، وإذا لم يتخلوا عن هذه العادة فإن السياحة الدينية ستبقى عبئاً اقتصادياً وأمنياً على البلد، بدلاً من أن تكون ميزةً ومورداً اقتصادياً نافعاً.
تعزيز الهوية العربية:
أهم مكسب يشعر العراقيون أنه تحقق لهم في استضافة "خليجي 25"، هو تعزيز الهوية العربية لغالبية الشعب العراقي، عبر التقارب مع دول الخليج العربية، فالعراق دولة عربية، والبصرة تحديداً تقع على رأس الخليج، وهناك روابط قومية وثقافية بين سكان العراق ومعظم سكان دول الخليج، خصوصاً الكويت والمملكة العربية السعودية.
والتقارب مع الدول العربية مهم معنوياً بالنسبة للعراقيين، خصوصاً بعد قطيعة دامت نصف قرن تقريباً، وهم يعتبرونه سلاحاً في وجه الأخطار القادمة من إيران وأتباعها الأيديولوجيين، التي تهدد هويتهم العراقية والعربية وتضعف بنية الدولة.
ومنذ عقود والأخبار السلبية، الصحيح منها والمختلق، تُهيمن على المشهد العراقي، من الإرهاب والفساد والتبعية، إلى الخطف والقتل والابتزاز والنهب المنظم للمال العام، ثم يأتي حدث خليجي إيجابي سعيد، يتفق عليه العراقيون، عرباً وكرداً وتركماناً وكلداناً ومندائيين وآشوريين وأيزيديين، شماليين وجنوبيين، شرقيين وغربيين. حدث يبشر بخير، ويصنع أملاً بأن المستقبل ليس قاتماً، بل يمكن أن يكون زاهراً، إن توفرت الإرادة، وتمسك العراقيون بالثوابت الوطنية.
ويمكن القول إن "خليجي 25" حسَّن صورة العراق البائسة والقاتمة عند كثيرين. فلأول مرة منذ عقود، يزور آلاف العرب مدينة عراقية لحضور مناسبة غير دينية. ومثل هذا التجمع يعطي انطباعاً بأن العراق صار بلداً طبيعياً وآمناً، للعراقيين والأجانب، وأن الدولة قوية وقادرة على حفظ الأمن والنظام، وهذا بالتأكيد مكسب كبير حققه العراق باستضافته هذه البطولة. إنه حقاً نجاح مهم بعد حوالي أربعين عاماً من الحروب والفشل والتراجع وعدم الاستقرار. فهل يبقى هذا النجاح يتيماً، أم ستتبعه نجاحات أخرى؟ لا شك أن العراقيين قادرون على تحقيق نجاحات أكبر وأعظم، تخدم بلدهم وبلدان المنطقة، لكنهم يحتاجون إلى الدعم العربي والدولي كي تتعزز ثقتهم بخطواتهم المستقبلية، وكي يرتدع المتربصون، ويدركوا أن هناك حدوداً عليهم عدم تجاوزها.