إن الصورة النمطية المرسومة للعرب في المخيلة الغربية والتي جرى تصديرها من الغرب للعالم عبر وسائل الإعلام والسينما والمسلسلات، باتت تتغير، لسبب بسيط أن الصور المنقولة من بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022 ربما خلقت انطباعات جديدة، خاصةً مع التنظيم الجيد للبطولة، والنتائج غير المتوقعة لبعض الفرق العربية، والمشهد الختامي المثالي لهذا الحدث العالمي.
ويمكن الوقوف على عدد من الظواهر التي قد تكون ساعدت على إعادة بناء هذه الصورة الجديدة عن العرب خلال كأس العالم في قطر، وذلك كالتالي:
1- القدرات التنظيمية الجيدة لقطر في كأس العالم: هذا ما ظهر في التنظيم المُحكم لكل كبيرة وصغيرة في هذا الحدث العالمي، بحيث كان تدفق الجماهير على قطر وكذلك دخولها وخروجها من الاستادات سلساً، فضلاً عن إمكانية حضور المشجع لأكثر من مباراة في اليوم نفسه، بالنظر إلى قصر المسافات بين الاستادات وسهولة التنقل إليها. بينما كان المشجع خلال البطولة السابقة في روسيا عام 2018، تستغرق رحلته من سوتشي إلى موسكو عدة ساعات طويلة، وهي المعاناة ذاتها التي من المتوقع أن تحدث في البطولة القادمة والمُقرر تنظيمها في كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك في عام 2026.
أيضاً، نحن هنا أمام حالة فريدة وظفت النجاح الخليجي في التعاون عبر بطاقة "هيا" التي أتاحت تنقل المشجعين بين قطر وعدد من دول الخليج من دون عوائق، ليظهر فاعلية هذا التعاون الإقليمي وليجسد سنوات من العمل الخليجي والعربي المشترك، بل ويعزز عوائد كأس العالم، فهي لم تقتصر على الدولة المضيفة والمنظمة فقط، بل كانت كل دول الجوار شريكة في هذه المكاسب.
2- الحفاظ على التقاليد العربية والإسلامية: إن الصدام الذي حدث قبل وأثناء بطولة كأس العالم بين قطر والعديد من الدول والمجتمعات الغربية، لم يكن فقط بشأن القيم (مثلاً شرب الخمر في الاستادات، والمثليين)، بل هو أيضاً صدام حضاري وهيمنة فكرية. لذا ما حدث من الشعوب العربية في تعضيد قطر أدى إلى صمودها أمام هذه الضغوط. وساهمت في ذلك مواقف الدول العربية التي أعلنت، تزامناً مع ذلك، رفض المثلية الجنسية؛ نظراً لمجافاتها الطبيعة البشرية وتحريمها في الدين الإسلامي. كما أدى عدم وجود الخمر في استادات كأس العالم بقطر إلى تقليل العنف في المباريات. وبالتالي فإن ما شهدته هذه البطولة هو انتصار للقيم المُعبر عنها في مجتمعاتنا العربية، وانتصار نوعي لرفض فرض أنماط معينة للحياة تخالف العادات والتقاليد الموروثة في منطقتنا، فضلاً عن احترام مبادئ الإسلام وتعاليمه.
3- تقليل الفجوات الكروية: منذ سنوات طويلة وهناك جهود حثيثة لكي تبني الدول العربية لها كياناً كروياً وسط دول العالم المتقدمة رياضياً، حتى جاءت مباريات كأس العالم في قطر لتشهد انتصارات تاريخية لعدد من المنتخبات العربية على نظيرتها صاحبة التاريخ والحاضر الكروي الحافل. فالسعودية، المُصنفة رقم 51 عالمياً، بفوزها على الأرجنتين، المُصنفة الثالث عالمياً، فتحت شهية العرب للانتصارات في هذا الحدث العالمي، لتتبعها انتصارات متتالية من منتخب تونس على فرنسا، والمغرب على كل من بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، لتصبح المغرب أول بلد عربي وأفريقي يصعد إلى نصف نهائي كأس العالم عبر تاريخه، ويحقق المركز الرابع من بين كل الفرق المتنافسة في هذا الحدث العالمي الضخم. وبالتالي أصبح لدينا كعرب حالة ونتائج غير مسبوقة في كأس العالم.
4- مونديال العروبة: تجاوزت انتصارات المنتخبات العربية في كأس العالم الخلافات السياسية بين بعض دول المنطقة، فالشعوب تؤمن بالمصير المشترك وترى في لحظة كأس العالم استعادة العرب مرة أخرى لذاتهم، وهو ما ظهر مثلاً مع رفع الأعلام الفلسطينية في الاستادات من جانب بعض المشجعين العرب. كما توقفت الحياة في العديد من المدن العربية مع توالي انتصارات العرب في كأس العالم، خاصةً مع مباراتي المغرب ضد إسبانيا ثم البرتغال في الأدوار الإقصائية. وعبّرت عن ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، حيث استعاد البعض من خلالها ذاكرة الأندلس المفقودة، وصارت صفحات تعج بذكريات وأحداث تاريخية بدءاً من سقوط غرناطة على يد الإسبان، إلى الهجمات الإسبانية على سواحل تونس والجزائر والمغرب واحتلالها وهران وتونس، وكأن هناك شريطاً سينمائياً جرى استدعاؤه.
وهذا ما يعني ضمناً أن الذاكرة التاريخية العربية حية ومتفاعلة، وهو أمر يستحق التأمل والتحليل المتأني، بل يمكننا التساؤل ما هذا الذي تفعله كرة القدم في العرب، وكأن هناك مارداً جرت محاولات لإيقاظه ثم ها هو في نشوة نصر يحاول الاستفاقة. وسبق ذلك قيام دول الخليج برفض الضغوط الأمريكية عليها لزيادة إنتاج النفط، مع تعزيز علاقاتها مع الصين، في إطار تنويع شبكة علاقاتها الدولية، باحثة في ذلك عن مصالحها، بل وتبنيها قبل ذلك موقفاً محايداً من الحرب الروسية – الأوكرانية، لتتحول إلى وسيط بين الغرب وموسكو. وبالتالي هل كان كأس العالم في قطر انعكاساً ومرآة لقرارات سياسية؟ يبدو ذلك صحيحاً، فالوزن في عالم الرياضة مرآة للوزن السياسي والثقافي والاقتصادي، وإلا كيف نُفسر المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين على الميداليات الذهبية في دورات الألعاب الأوليمبية، فالكل يتنافس في سبيل المكاسب.
ختاماً، إن هذه اللحظة الفارقة تقتضي البناء عليها والاستثمار الحقيقي فيها من جانب العرب، والعمل على تعزيز صورتهم الإيجابية، والإيمان بقدرتهم على التأثير في الآخر، والثقة بأن لديهم من الإمكانات والقدرات ما يُمكنهم من تنظيم أكبر الأحداث العالمية مثلما حدث في كأس العالم مؤخراً، ومن قبله "إكسبو 2020 دبي" الذي استضافته دولة الإمارات بنجاح كبير، مع مواصلة التخطيط للنهوض رياضياً وعلى نحو يمنح الدول العربية موقعاً رائداً على الخريطة الكروية العالمية، وتكرار التجربة المغربية التي نجحت في التفوق على العديد من المنتخبات الأوروبية في الدوحة.