أشارت تقارير فرنسية إلى أن رئيس وزراء بوركينا فاسو، أبولينير كيليم دي تامبيلا، قام بزيارة غير معلنة إلى العاصمة الروسية موسكو، في 9 ديسمبر 2022، وهي الزيارة، التي تأتي في ظل توتر العلاقات بين بوركينا فاسو وفرنسا في الآونة الأخيرة.
أبعاد الزيارة السرية:
أطلق دي تامبيلا، في نهاية أكتوبر الماضي، تصريحات أكد خلالها عدم استبعاد بلاده مراجعة علاقتها مع روسيا خلال الفترة المقبلة. وعلى الرغم من عدم إفصاح بوركينا فاسو، حتى الآن، بشكل رسمي عن زيارته إلى روسيا، بيد أن هناك تقارير غربية أكدت إجراءه مباحثات مع مسؤولين روس في موسكو، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- إلغاء اجتماع تامبيلا مع النقابات المحلية: كان من المقرر أن يقوم دي تامبيلا بعقد اجتماع مع النقابات في بوركينا فاسو، في 9 ديسمبر 2022، لكن قبل يوم واحد من هذا الاجتماع تم إرسال مذكرة تضمنت تعديلاً على جدول أعمال اللقاء المرتقب، حيث أشارت هذه المذكرة إلى أن الرئيس الانتقالي، إبراهيم تراوري، سيحل مكان رئيس حكومته، في هذا الاجتماع، من دون إبداء أي توضيحات تتعلق بأسباب هذا التعديل. وبررت تقارير فرنسية هذا التغير بقيام دي تامبيلا بزيارة سرية ومفاجئة إلى روسيا.
2- رسائل ضمنية لباريس: تأتي هذه الزيارة غير المعلنة لرئيس الحكومة البوركينابي إلى موسكو بالتوازي مع الخطاب الذي ألقاه تراوري، في 10 ديسمبر الجاري، بمناسبة الذكرى الـ62 لاستقلال واجادوجو، حيث أكد في خطابه أن عملية الاستقلال التام لبوركينا فاسو قد بدأت فعلياً في سبتمبر 2022، في إشارة إلى توقيت توليه السلطة بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح من خلاله بالكولونيل، بول هنري ساندواغو داميبا، وهو ما يحمل رسائل ضمنية لفرنسا، لا سيما وأن داميبا كان يحظى بدعم باريس، في الوقت الذي يعتبر فيه تراوري من الجناح الداعم للتقارب مع موسكو.
3- تعثر صفقة التسليح مع فرنسا: جاءت زيارة دي تامبيلا إلى موسكو بعد أيام قليلة من التقارير التي أشارت إلى تعثر صفقة التسليح التي طلبتها بوركينا فاسو من فرنسا، حيث ألمحت بعض التقارير إلى أن رئيس الوزراء البوركينابي كان قد عقد اجتماعاً مع السفير الفرنسي في واغادوعو، في 29 نوفمبر الماضي، تقدم خلاله طلب الحصول على صفقة أسلحة فرنسية، بيد أن هذا الطلب لم يلق استجابة من قبل باريس، وهو ما قد يفسر اتجاه واجادوجو إلى طلب الدعم من موسكو.
دوافع التوجه لموسكو:
هناك عدد من الدوافع التي ربما تفسر أسباب زيارة رئيس الوزراء البوركينابي إلى موسكو، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- دعم قوات التطوع البوركينابية: تعاني بوركينا فاسو خلال الآونة الأخيرة من التصاعد الحاد في وتيرة الهجمات الإرهابية، كما يجد الجيش البوركينابي صعوبة في مواجهة الإرهابيين. ولذلك عمد تراوري إلى إطلاق حملة في نوفمبر 2022، تمكن خلالها من تجنيد نحو 90 ألف شخص من المدنيين المتطوعين، وذلك لدعم جهود الجيش في مكافحة المجموعات الإرهابية.
ويواجه انخراط المتطوعين في دعم القوات الحكومية تحديات، تتمثل بالأساس في الافتقار إلى التدريبات اللازمة لهذه القوات، والتي تمكنها من التعامل مع المجموعات الإرهابية. وفي هذا السياق، لا يمكن استبعاد أن تكون زيارة رئيس الوزراء البوركينابي إلى موسكو تنطوي على طلب للجانب الروسي بتقديم التدريبات اللازمة لقوات المتطوعين البوركينابية.
2- الحصول على صفقات تسليح روسية: رفضت باريس تزويد بوركينا فاسو بأسلحة لمساعدتها على محاربة الجماعات الإرهابية، لاسيما بعد انضمام قوات المتطوعين لعناصر الجيش، وهو ما جعل دي تامبيلا يصف فرنسا، في نوفمبر 2022، بالشريك غير الوفي لبلاده.
ولذلك ربطت تقديرات بين زيارة دي تامبيلا السرية إلى موسكو ومحاولة واجادوجو الاتفاق على صفقات تسليح مع روسيا، لتعزيز قدراتها العسكرية في مواجهة المجموعات الإرهابية التي باتت تسيطر على نحو 40% من مساحة بوركينا فاسو.
3- تخوفات من تكرار الانقلابات العسكرية: يبدو أن تراوري يسعى إلى تجنب تكرار محاولات الانقلاب العسكري المتكررة في بوركينا فاسو، في ظل حالة الانقسامات الداخلية في الجيش البوركينابي، وبالتالي ربما يسعى تراوري الاستعانة بموسكو في تعزيز سيطرته الداخلية، سواء على كافة أجنحة الجيش، أو من خلال تحقيق تقدم ملحوظ في مواجهة الجماعات الإرهابية، خاصةً في ظل محورية العامل الأمني في إثارة السخط الشعبي وتحفيز الانقلابات العسكرية في البلاد.
4- تجنب إثارة سخط الولايات المتحدة: ألمحت تقديرات إلى أن حالة السرية التي غلبت على زيارة رئيس الحكومة البوركينابي إلى موسكو ترتبط بالأساس برغبة واجادوجو في عدم خسارة الدعم الغربي، خاصةً الأمريكي، بشكل تام حال تم الكشف عن تنامي الاتصالات مع روسيا، لاسيما مع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، في 11 ديسمبر 2022، والتي أكد خلالها دعم بلاده لبوركينا فاسو في مواجهة التحديات الأمنية، وهو ما فتح المجال أمام إمكانية انخراط واشنطن في دعم واجادوجو، ومن ثم يبدو أن الأخيرة تسعى للحفاظ على سرية اتصالاتها مع روسيا، لتجنب إثارة حفيظة الولايات المتحدة، على الأقل، لحين تحديد وجهتها النهاية.
ولا يمكن الفصل بين زيارة دي تامبيلا إلى موسكو والقمة الأفريقية – الأمريكية التي تستضيفها واشنطن خلال الفترة من 13 وحتى 15 ديسمبر 2022، حيث شهدت هذه القمة غياب بوركينا فاسو، والتي لم يتم توجيه دعوة لها من قبل الولايات المتحدة لحضور القمة. وبالتالي يمكن أن تستهدف زيارة الوزير البوركينابي إلى موسكو رسالة ضمنية إلى الإدارة الأمريكية، مفادها وجود بديل آخر يمكن أن تلجأ إليه واجادوجو حال اتخذت واشنطن النهج الفرنسي نفسه.
تحولات إقليمية محتملة:
تعكس زيارة رئيس الوزراء البوركينابي إلى روسيا جملة من الارتدادات المحتملة، التي ربما تفرزها هذه الزيارة، ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- انخراط متزايد لعناصر فاجنر: قد يتمخض عن زيارة رئيس الوزراء البوركينابي إلى موسكو التوصل إلى اتفاق بين موسكو وواجادوجو بشأن التعاقد مع شركة فاجنر الروسية لدعم جهود قوات بوركينا فاسو في مواجهة الجماعات الإرهابية، على غرار الاتفاق الذي كانت أبرمته مالي مع الشركة الروسية قبل نحو عام.
وربما يعزز من هذا الطرح الاتفاق الذي وقعته الحكومة البوركينابية، في 7 ديسمبر الجاري، مع شركة "نورد جولد يميوجو إس إيه" (Nordgold Yimiougou SA) الروسية، لتشغيل منجم ذهب في بلدة "كورسيمورو" بمقاطعة "سانماتنجا"، حيث يقدر إجمالي إنتاج هذا المنجم بحوالي 2.53 طن من الذهب لمدة أربع سنوات. وتعد بوركينا فاسو أحد أكبر منتجي الذهب في القارة الأفريقية، إلى جانب جنوب أفريقيا وغانا والمغرب، وذلك منذ 2009، حيث صدرت واجادوجو في عام 2021 حوالي 66.9 طن من الذهب.
2- تنسيق الترتيبات الإقليمية الجديدة: ففي إطار التحركات الغربية الراهنة، الفرنسية بالأساس، في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، والتي تستهدف تشكيل تكتلات إقليمية جديدة تعزز من المصالح الغربية في هذه المنطقة، في مواجهة التمدد الروسي هناك، يمكن أن تشهد الفترة المقبلة تكتلات موازية مدعومة من روسيا، ربما تتضمن بوركينا فاسو ومالي، بالإضافة إلى دول أخرى.
وفي هذا السياق، أشارت تقارير فرنسية، في 13 ديسمبر الجاري، إلى أن توغو تسلمت صفقة تسليح روسية، في نهاية نوفمبر الماضي، تتكون من ثلاث مروحيات روسية من طراز "مي 35"، وهو ما عزز من فرضية وجود تحركات دولية متنامية في غرب أفريقيا، وهو ما قد يزيد من حالة الاستقطاب الإقليمي في المنطقة.
3- دعم روسي محتمل لواجادوجو: تزعم التقديرات الغربية أن الدعم الروسي لبوركينا فاسو سوف يكون محدوداً، على الأقل في المدى المنظور، على أساس انشغال روسيا بالحرب الأوكرانية، غير أنه من المعروف أن موسكو تقوم بدعم الدول الأفريقية عسكرياً من خلال شركة فاجنر الروسية، فضلاً عن إبرام بعض صفقات الأسلحة للحكومات الصديقة، لتعزيز قدراتها في التعامل مع المجموعات الإرهابية، كما حدث من قبل مع مالي.
وفي الأخير، تجدر الإشارة إلى أن الأشهر الأخيرة كانت قد شهدت تنامياً ملحوظاً في وتيرة السخط الداخلي في بوركينا فاسو ضد الوجود الفرنسي مقابل تزايد الدعم لفكرة التقارب مع روسيا، وربما تسعى حكومة تراوري إلى توظيف هذا السخط وإبداء بعض التقارب مع موسكو لتعزيز نفوذها الداخلي، لكنها تبدو في المقابل غير مستعدة للمغامرة بالإفصاح عن هذه النوايا لتجنب إثارة سخط غربي مماثل لحالة مالي، جارتها الشمالية، سواء لتخوفها من مدى استعداد موسكو الحالي لتقديم الدعم الكافي لواجادوجو، أو لمحاولتها ترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية توسيع نطاق علاقتها الخارجية.