باغتتنا خلال السنوات الأخيرة بعض القضايا المثارة حول المرأة وحقوقها ودائرة نشاطها وتأثيرها في المجالين العام والخاص، إذ يحتدم الجدل حول هذه القضايا على مواقع التواصل الاجتماعي وسرعان ما يصطف المتابعون بين مؤيد ومعارض في معارك افتراضية شديدة الحدة، حيث يتم تبادل الاتهامات بين المتابعين بالنسوية أو الذكورية أو الرغبة في اختطاف المجتمع في ظلمات الماضي أو تفكيك الأسرة المستقرة أو ربما الرغبة في النيل من التقاليد المتعارف عليها أو الأحكام الدينية المستقرة منذ مئات السنوات.
وقد أسهمت موجة "أنا أيضاً" التي انطلقت قبل خمس سنوات في تعزيز الجدل على الإنترنت حول المظالم التي تمر بها المرأة في المجال العام، خاصة في بيئة العمل والدراسة من حيث التعرض للتحرش أو سوء استخدام السلطة من جانب من هم أعلى سلطة منها لابتزازها أو إجبارها على خيارات معينة أو تقييد حريتها. ولعل الاحتجاجات الشعبية التي تقودها النساء حالياً في إيران منذ عدة أسابيع تدور في فلك هذه الموجة ولكن في أحد تجلياتها السياسية المباشرة. إذ اندلعت هذه الاحتجاجات عقب وفاة الشابة ميهسا أميني إثر تعذيبها قيد الاحتجاز في حوزة شرطة الأخلاق بتهمة عدم ارتداء الحجاب بشكل صحيح. إذ تفرض إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979 قوانين حاسمة بشأن ارتداء النساء للحجاب في الأماكن العامة وتجريم من لا يلتزم بهذه القوانين. وعادة ما كانت تحدث مواجهات محدودة بهذا الشأن، ولكن مقتل أميني أدى إلى اندلاع تظاهرات عارمة في المجال العام وأماكن الدراسة من جانب النساء والفتيات الإيرانيات والمتضامنين معهن لوضع حد لسياسة إجبار النساء على الامتثال لحالة الضبط المجتمعي التي يفرضها النظام الإيراني. وهو ما يعتبره البعض ثورة نسوية خالصة تجري حالياً في إيران، فيما يعتبره البعض الآخر ثورة شبابية تحاول تغيير ملامح النظام الاجتماعي الإيراني الراسخ منذ عقود.
ولكن الأمر لا يقتصر على إيران وحدها، إذ تنتعش بشكل خاص المناقشات والمساومات الرامية إلى تعديل أوضاع النساء وإفساح المجال لتحقيق مزيد من العدالة والمساواة في الحصول على الحقوق نفسها كالرجال في الإقليم ككل وفي القلب منه العالم العربي. إذ أسهم دخول وسائل التواصل الاجتماعي في ساحة الجدل الخاص بحقوق المرأة في توسيع دائرة النقاش وإيصاله إلى فئات ودوائر لم تكن تشهد هذه النقاشات أو تشارك في تطويرها من قبل.
وعادة ما كان الجدل الفكري حول النسوية ومفرداتها وآثارها مقتصراً على المحافل الثقافية والسياسية، حيث يتبارى المثقفون في تقديم الحجج والحجج المضادة، ولكن مع طرح هذه القضايا على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، أصبح المشاركون في الجدل ينتمون لشرائح فكرية وعمرية واجتماعية مختلفة، مما فتح الجدل على مصراعيه وجعل المواجهات فيه على أشدها وتُستخدم فيها كل وسائل الاغتيال المعنوي والوصم والإقصاء. ولذا يصبح مفيداً قبل الخوض في تفاصيل هذه القضايا توضيح ماذا تعني النسوية؟ وما هي الموجات المختلفة للنسوية؟ وكيف تتفاعل مع المجتمعات التي تمر بها، خاصة مجتمعاتنا العربية؟
موجات "النسوية"
تعرف النسوية وفقاً لموسوعة كامبريدج بأنها "الاعتقاد أن النساء يجب أن تتلقى مستوى الحقوق والسلطة والفرص والمعاملة نفسها التي يتمتع بها الرجال" . كما تُعرف النسوية أيضا بأنها الأيديولوجية الرامية إلى السعي بشتى الطرق المؤسسية أو الحركة غير المؤسسية لتحقيق هذه الغاية في المجتمعات. وقد عرفت المجتمعات الغربية تجليات النسوية على مدار عقود في شكل موجات متفرقة.
يؤرخ للموجة الأولى من النسوية في القرن التاسع عشر، عندما بدأت تبرز بعض الشخصيات النسائية في الحياة العامة بحكم موقعهن وحركتهن في المجتمع وليس فقط بحكم قرابتهن لأحد الشخصيات البارزة من الرجال. إذ لم يكن هذا الأمر شائعاً في تلك الفترة، ولكنه بدأ يتزايد مفسحاً المجال لمزيد من النساء للظهور بفضل وصولهن إلى فرص أفضل من التعليم والثقافة. وعرفت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موجة نسوية امتدت في أوروبا وصولاً إلى عدد من الدول العربية وأبرزها مصر وسوريا ولبنان، حيث تمثلت في المطالبة بتعليم النساء ومنحهن حقوقاً متساوية في التصويت والتملك والظهور في المجال العام. ويعتبرها المتخصصون الموجة الأولى، والتي استطاعت تحقيق عدة مكتسبات بالفعل من أهمها حق التصويت والتعليم، خاصة الجامعي، ولكن ظلت النساء يتمتعن بحقوق أقل من أقرانهن من الرجال في بعض المناطق.
بينما جاءت الموجة الثانية في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين وعرفت بكونها موجة اجتماعية اقتصادية، حيث انتقدت الصور النمطية السائدة للمرأة التي تفرض عليها أدواراً من دون غيرها بفعل الآليات المجتمعية السائدة والنظام الرأسمالي المتجذر في الدول الغربية. ونتجت عن هذه الموجة بعض التغيرات وانتهت بإطلاق العديد من البرامج البحثية الدولية المرتبطة بالمرأة، وتمددت مشاركة المرأة في المجال الثقافي بمختلف فروعه من موسيقى وفنون وآداب، وأصبح هناك خط متميز لانتاج المرأة في هذا الخصوص . وعرفت هذه الموجة أيضاً آنذاك بثورة الشباب على العادات الاجتماعية والاقتصادية الراسخة واتخذت شكل صراع جيلي ملحوظ.
وانعكست تلك الموجة أيضاً في خطوط الموضة التي أنتجت تصميمات لملابس أكثر راحة للنساء تناقض النمط السائد بفعل الرأسمالية التي "سلعت" النساء وحصرتهن في دور المرأة الفاتنة في السينما والدعايات الإعلانية.
أما الموجة الثالثة فقد جرت في بداية التسعينيات، وتعددت الروايات عن الأسباب التي دعت إلى إطلاقها، ولكن بصفة عامة بدا أنها انطلقت احتجاجاً على عدم اكتمال عملية منح الحقوق المتساوية للنساء. وفي المقابل ظهرت أصواتاً مناهضة تعتبر أن النساء قد نلن حقوقهن بالفعل في التعليم والعمل والسياسة والثقافة وأن مطالب الحركة النسوية باتت بلا هدف. وفي كل الأحوال تميزت الموجة الثالثة بكونها أكثر وعياً بالفروق في نوعية الحقوق التي تحصل عليها النساء وفقاً لعرقهن ودينهن وطبقتهن الاجتماعية والمستوى السابق للتعليم والثقافة والدخل. وهو ما مهد لدخول مفهومintersectionality أو التقاطعية في حقل دراسات المرأة، وهو يشير إلى مجموعة التراكمات في التمييز والمظالم التي تقع على عاتق المرأة بحكم انتمائها العرقي أو الطبقي أو الديني أو غيرها من محددات الهوية . فكلما زادت دوائر الانتماء إلى هوية مهمشة كلما زادت احتمالية التمييز ضد المرأة، وهكذا أصبحت الهوية جزءاً لا يتجزأ من دراسات المرأة وهو ما أسس فيما بعد لمجال دراسات النوع الاجتماعي Gender studies.
أما الموجة الرابعة والتي يرجح أنها سائدة حتى اليوم فقد انطلقت بعد عام 2012، وتميزت بدرجة عالية من الاعتماد على الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، حيث ركزت على الاحتجاج على العنف المبني على النوع الذي تواجهه النساء، خاصة التحرش والاغتصاب وغيرها من مظاهر العنف. وقد شهدت هذه الموجة العديد من المناسبات التي قدمت فيها النساء عبر الإنترنت شهادتهن عن وقائع العنف والوصم التي تعرضن لها وطالبن بعقاب مرتكبي هذا العنف. ولعل أبرز محطات هذه الموجة هي حركة #أنا_أيضاً أو #Me_too التي تمكنت النساء من خلالها من البوح عن العنف الذي تعرضن له والتشبيك لجمع الدعم والتضامن من أجل مقاضاة مرتكبي العنف، خاصة في المجال المهني ممن استغلوا سلطتهم ضد النساء لابتزازهن. ولعل أبرز هذه الوقائع التي نالت شهرة كبيرة حدثت في أكبر محافل صناعة السينما العالمية في هوليود وتورط فيها بعض المشاهير من المنتجين والمخرجين. وقد امتدت هذه الموجة الأخيرة بقوة إلى العالم العربي، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي العربية عدة مناسبات للبوح وتقديم الشهادات ضد مرتكبي العنف المبني على النوع ضد النساء أو محاولات الابتزاز الالكتروني أو المساومة أو الوصم بحق النساء والفتيات ضحايا العنف. وكانت أشهر هذه المناسبات خلال الإغلاق لشهور بسبب وباء كورونا الذي انعكس بمعدلات عالية من العنف ضد النساء، سواء من خلال العنف المنزلي أو التحرش والابتزاز الالكتروني.
تعقيدات السياق العربي
يعتبر البعض أن النسوية هي لفظ مكروه ويثير الكثير من الجدل بمجرد ذكره لكونه مصطلحاً دخيلاً يأتي من السياق الغربي، ليقتحم مجتمعاتنا العربية التي تقوم على ثوابت وروافد ثقافية مختلفة عن تلك التي تقوم عليها الثقافة الغربية. فيما يرى آخرون أنه حتى في الغرب يجد مصطلح النسوية الكثير من الأعداء الذين يعتبرون أنه مرادف لهدم قيم المجتمع واستقرار الأعراف الاجتماعية. ولعل من أهم أسباب هذا العداء للفكرة النسوية سواء في الشرق أو الغرب هو الاعتقاد الخاطئ أن كل حق ستأخذه المرأة يعني بالضرورة انتقاصاً من حقوق الرجل، بمعنى أن زيادة حقوق النساء هي خصم من حقوق الرجال وفق القاعدة الشهيرة للمباراة الصفرية zero sum gameوهذا غير صحيح في المطلق .
وربما ساعد على ترسيخ هذا الفهم الضيق ما ينتهجه مناصرو النسوية أحياناً من أسلوب "عكس الصورة" لاستفزاز التفكير في قضية المساواة وللتدليل على ظلم النساء، بمعنى أن يتم طرح ما تعانيه النساء بشكل معكوس لاقناع المتلقي بأن الوضع ظالم ولو كان واقعاً على الرجال ما كانوا ليقبلوا به، ولكن الفهم القاصر للمتلقي جعله يظن أن هدف النسوية هو عكس الصورة بالفعل وليس مجرد تحقيق المساواة للنساء. فضلاً عن ظهور بعض الآراء المتطرفة التي تستهدف لفت الانتباه الإعلامي بالأساس وليس المساهمة الفكرية الحقيقية في نقاشات المجال العام بهذا الشأن. بصفة عامة فإن التحليل الضيق للمباراة الصفرية يغفل أن توسيع الحقوق والفرص التي تحصل عليها النساء يضيف إلى رصيد المجتمع ككل ويرفع من معدلات التنمية والدخل والتراكم في رأس المال الاقتصادي والاجتماعي ويوفر مساحة لاستثمار الطاقات الكامنة في المجتمع. ولكن السؤال الأمثل يجب أن يكون كيف يمكن تصميم هذه المساحة التي تسمح باستثمار طاقات النساء وحمايتهن من التهديد والعنف ومساعدتهن على الموازنة بين الأدوار المختلفة تجاه أسرهن ومجتمعهن على حد سواء. ولكن بدلاً من طرح هذا السؤال بأمانة وموضوعية يتم طرح بدائل لعرض مدى تهديد الحقوق الإضافية للنساء للاستقرار المجتمعي كي يصبح سؤال النسوية منفراً ومكروهاً لفئات واسعة في الغرب والشرق على حد سواء.
بصفة عامة ينكر البعض على المجتمعات العربية احتياجها لموجات النسوية سابقة الذكر، إذ اعتبروا أن الأعراف التي تحكم المجتمعات العربية لا تتوافق مع متطلبات النسوية والآثار المترتبة على انتشارها. ولكن المفارقة هنا أن هذه الجدلية تتبنى النظرة الاستشراقية نفسها للمجتمعات العربية والمسلمة. كما أن القول إن النسوية في المجتمعات العربية هي صنيعة الاستعمار الغربي يغفل حقيقة بارزة وهي أن بداية المد النسوي في الدول العربية قد جاء قريناً لحركة الاستقلال الطامحة للتخلص من الاستعمار، سواء في نهاية القرن التاسع عشر أو منتصف القرن العشرين .
صحيح أن المد النسوي في الغرب قد انتقل في العصر الحديث إلى الشرق وأثر فيه بشكل أو بآخر، ولكن لا يصح القول إن هذا التأثير كان مجرد تقليد للغرب، فالتاريخ العربي والاسلامي حافل بمحطات للمرأة فيها أدوار رئيسية، وأن تدوين هذا الدور هو ما أصابه النسيان وليس الدور نفسه وما كان ذلك إلا مجرد تذكير بهذه الأدوار.
وعلى الرغم من تبني العديد من الحكومات في المنطقة العربية عدة برامج تركز على تمكين المرأة، فإن فكرة النسوية، خاصة على المستوى المجتمعي، عادة ما تكون محل جدال شديد، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الإطار الذي تطرح من خلاله قضايا المرأة، حيث عادة ما يصور أي حديث عن حقوق المرأة بأنه تصادم صريح مع التقاليد المجتمعية وثورة على تعاليم الدين، وما عزز ذلك ظهور بعض الأفكار والممارسات المتطرفة من قبل بعض المنتسبين للتيار النسوي من آن لآخر، وحتى وإن كانت تلك الأفكار هي الاستثناء، إلا أنها وحدها تجذب الانتباه، خاصة بفعل التضخيم الإعلامي وتفاعلات السوشيال ميديا.
وختاماً، يمكن القول بصفة عامة إن الحركة النسوية العربية أكبر وأكثر تفرعاً من أن يتم تأريخها وتقليبها في موجات، وقد شهدت تضافر جهود سيدات من المنتمين للحكومات فضلاً عن سيدات المجتمع المدني في لحظات تحالف تاريخية، كما ضمت أيضاً في رحمها الكثير من الرجال المتضامنين مع أهمية منح حقوق وفرص متساوية للمواطنين والمواطنات على حد سواء. لكن لابد من توضيح أن السعى لمنح هذه الفرص المتساوية ليس بالقدر نفسه من السهولة في كل المجالات، إذ عادةً ما يكون منح الحقوق في المجال العام أيسر وأوضح مساراً، فهو يمر بسن قوانين ثم سن قواعد إدارية أو برامج سياسية أو خلق هياكل مؤسسية لتنفيذ القانون والسهر على تقديم هذا الحق للنساء.
ولكن منح هذه الحقوق في المجال الخاص يعتبر أكثر تعقيداً لأنه عادة ما يصطدم بهياكل مجتمعية مستقرة وراسخة تمتد من الأسرة والعائلات ومجمل عملية التنشئة الاجتماعية للفتيات، ولذا فالفاعلون فيها أكثر تنوعاً وإقناعهم بقيم المساواة أكثر صعوبة. وهو ما يفسر حالة الزخم الكبيرة التي تشهدها بعض الدول العربية على مستوى سن قوانين وبرامج داعمة لحقوق المرأة، ثم نجد وقائع قتل مروعة بحق النساء من جانب الرجال أو العكس في معرض التنازع فيما بينهم على تعريف الحقوق والواجبات أو تقاسم الأدوار في المجال الخاص. وهذا الزخم الذي يأتي مصحوباً بالكثير من الإثارة والجدل أصبح مادة إعلامية دسمة تتقاذفها المنصات الإعلامية كي تضيف إلى قائمة قرائها ومتابعيها، بما رسخ من فكرة أن النسوية هي بالضرورة مرادفاً للجدل والإثارة وربما أيضاً الخطر على مستقبل المجتمعات العربية، رغم أن الخطر الحقيقي يكمن في استمرار الأوضاع غير العادلة في بعض المجتمعات والتي تعانيها النساء بدرجات متفاوتة وصور متنوعة.