حسمت إيطاليا أمرها في حدث غير مسبوق منذ عام 1945، حيث اتجهت البلاد نحو اليمين المتطرف، وفقاً لنتائج انتخابات 25 سبتمبر الماضي، إذ نجح التحالف اليميني بزعامة حزب "إخوة إيطاليا" (فراتيلي ديتاليا)، والذي تقوده جيورجيا ميلوني، وبهذا ستكون أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في تاريخ إيطاليا.
وأظهرت النتائج النهائية للانتخابات حصول التحالف اليميني، والمُكون من حزب أحزاب "أخوة إيطاليا" و"الرابطة" و"فورزا إيطاليا"، على نحو 44% من الأصوات، وهو ما يكفي لضمان السيطرة على مجلسي البرلمان الإيطالي. وفي هذا السياق، فإنه من المتوقع أن يشغل هذا التحالف ما يصل إلى 238 مقعداً من أصل 400 في مجلس النواب، و112 مقعداً من أصل 200 مقعد في مجلس الشيوخ. وفي المقابل، فإنه من المرجح أن يستحوذ تيار اليسار الوسطي على 78 مقعداً في مجلس النواب، و40 مقعداً في مجلس الشيوخ.
صعود اليمين المتطرف:
هناك عدة أسباب تقف وراء فوز التحالف اليميني بقيادة جيورجيا ميلوني، والذي يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- التوافق حول مرشح واحد: نجحت أحزاب اليمين المتطرف في التوافق على مرشح واحد، مما أدى إلى فوزهم في الانتخابات التشريعية بزعامة ميلوني، وذلك في الوقت الذي لم يتمكن خصومهم من أحزاب اليسار والوسط من الاتفاق على مرشح واحد؛ حيث ظلوا منقسمين حتى موعد الانتخابات.
2- التصويت العقابي للأحزاب التقليدية: تعتبر نتائج الانتخابات الأخيرة بمنزلة تعبير عن تصويت عقابي من الإيطاليين للأحزاب التقليدية التي حكمت إيطاليا خلال السنوات الأخيرة، ولم تتمكن خلالها من إنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة، مما أدى إلى تنامي حالة الاستياء بين المواطنين، وهو ما انعكس أيضاً في تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات، حيث وصلت نسبة المشاركة إلى 63,9% فقط، وذلك أقل بتسع نقاط مئوية عن انتخابات 2018.
3- تحسين صورة ميلوني: نجحت ميلوني في جعل حزبها مقبولاً كقوة سياسية، وذلك عبر طرح القضايا التي تشغل اهتمام المواطنين، وخاصة الطبقة الوسطى الأقل ثراءً، إذ أكد حزبها مراراً وتكراراً أهمية تقديم الدعم المالي للأسر التي تواجه صعوبات اقتصادية، وذلك باعتبارها أولوية يجب أن تقوم بها الحكومة الجديدة، فضلاً عن مساندتها لأوكرانيا في حربها مع روسيا.
وبالإضافة إلى ما سبق، خففت ميلوني انتقاداتها للاتحاد الأوروبي، لتظهر بوجه أكثر اعتدالاً وقبولاً، خاصة أنها تطمح لأن تحصل على دعم مالي جديد من الاتحاد الأوروبي، قد تصل قيمته لنحو 200 مليون يورو، وذلك للحد من آثار جائحة كورونا، وارتفاع أسعار الطاقة الناجمة عن الأزمة الروسية – الأوكرانية.
عقبات قائمة أمام ميلوني:
على الرغم من الانتصار الذي حققته ميلوني وحزبها، فإنه من المُرجح ألا يكون الطريق يسيراً أمامها، ويرجع ذلك إلى عدة تحديات رئيسية، والتي يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:
1- مواجهة الأزمة الاقتصادية: تتولى ميلوني السلطة في وقت يتباطأ فيه نمو الاقتصاد الإيطالي؛ إذ تشير وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني إلى أن الاقتصاد الإيطالي سينكمش بنسبة 0,7% في عام 2023، بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والتضخم المصاحب لها، بينما وصل حجم الدين العام نحو 145,4% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الرغم من وعود ميلوني بخفض الضرائب لتحفيز النمو الاقتصادي، فإن هذه السياسة من شأنها أن ترفع مستويات العجز لمستويات أعلى، وبالتالي يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن الحل الوحيد هو أن تسير ميلوني في المسار الاقتصادي الذي حدده دراجي، وإلا ستواجه رد فعل سلبي للغاية من الأسواق المالية.
ففي حالة اتباع ميلوني سياسة متشددة تجاه الاتحاد الأوروبي، فإنها سوف تخسر المنح والقروض المقدمة من الاتحاد، والتي تبلغ قيمتها مائتي مليار يورو، وتهدف لمساعدة روما على تحقيق التعافي الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، ستفقد ميلوني دعم العديد من أصحاب المصالح التجارية اليمينية الثرية في إيطاليا، والذين يفضلون إقامة علاقة مستقرة مع الاتحاد الأوروبي لتعزيز استثماراتهم. ولكن على الجانب الآخر، ستواجه ميلوني ضغوطاً من جانب ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة، الذي يدعو إلى تجاهل مطالب الاتحاد الأوروبي الاقتصادية.
2- تحالف غير موحد: تشير التقديرات إلى أن تحالف ميلوني ليس موحداً، حيث إن شركاءها لديهم مواقف متباينة بشأن العديد من القضايا، بما في ذلك الحكم الذاتي الإقليمي والمعاشات التقاعدية، فبينما تعهدت ميلوني، على سبيل المثال، بإلغاء الرعاية الاجتماعية للعاطلين عن العمل، يريد حلفاؤها تعديلها دون إلغائها.
3- تعقيدات التشكيل الحكومي: يتوقع حلفاء ميلوني في التحالف الحصول على مناصب وزارية رئيسة مقابل دعمهم لها. وعلى سبيل المثال، يريد سالفيني العودة إلى منصب وزير الداخلية، حتى ينفذ أجندته المناهضة للهجرة. ولكن نظراً لأنه يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة احتجاز المهاجرين في الخارج أثناء توليه هذا المنصب سابقاً، فمن غير المرجح أن يوافق الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، على ذلك، وهو ما قد يشكل إحدى العقبات أمام تشكيل الحكومة.
4- إدارة العلاقة مع بروكسل: رحب زعماء المجر وبولندا بنجاح ميلوني، غير أن فرنسا وألمانيا تبديان حماسة أقل لها، إذ إنهما، والأوروبيون بوجه عام، ينظرون بشك وريبة تجاه سياسات ميلوني المستقبلية، نظراً لأنها كانت من المتشككين في جدوى عضوية الاتحاد، وقد تحدثت خلال مؤتمراتها الانتخابية بشكل متكرر عن كون إيطاليا مضطهدة من قبل أعضاء الاتحاد الأوروبي الأكبر.
وعلى الرغم من عدم مطالبتها بخروج بلادها من منطقة اليورو أو الاتحاد الأوروبي، يُعتقد أنها سوف تتحالف مع دول داخل الاتحاد ترى بروكسل أنهم تسببوا في مشكلات له، مثل المجر وبولندا، لاسيما فيما يتعلق بقضية الهجرة.
مخاوف قائمة:
على الرغم من أنه قد يحدث تغير في سياسة روما تجاه الاتحاد الأوروبي وقضاياه الرئيسية، فإنه لا يتوقع أن تتغير سياستها تجاه الشرق الأوسط، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تغيير السياسية الإيطالية: تتخوف بعض دول الاتحاد الأوروبي من أن تتبنى ميلوني، عند توليها منصب رئيسة الوزراء، سياسة غير منحازة لأي من الطرفين، سواء الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين من جهة، أو روسيا من جهة أخرى، وذلك على غرار كل من بولندا والمجر، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصاعد التوترات في القارة الأوروبية خلال الفترة المقبلة.
2- صعود اليمين المتطرف: حقق سياسيون أوروبيون من اليمين المتطرف انتصارات تاريخية هذا العام في كل من فرنسا والنمسا وفنلندا وإستونيا والسويد. وتُتوج هذه الانتصارات بوصول ميلوني ذات الخلفية الفاشية إلى السلطة.
ومن المتوقع أن يمهد فوز ميلوني الطريق لتنامي نفوذ تيارات اليمين المتطرف في أوروبا، وهو ما وضح في احتفال جورج سيميون، زعيم الحزب اليميني المتطرف في رومانيا بفوز ميلوني، قائلاً "إنه من المرجح أن يسير حزبه على خطاها"، فضلاً عن تغريدة مارين لوبن، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا، والتي عبرت فيها عن سعادتها بفوز ميلوني قائلة "قرر الشعب الإيطالي أن يأخذ مصيره في يده من خلال انتخاب حكومة وطنية وذات سيادة".
ويُرجح المحللون السياسيون أن تتجه إسبانيا العام المقبل إلى الانتخابات وسط تراجع شعبية رئيس الوزراء الاشتراكي، بيدرو سانشيز، في مقابل صعود حزب فوكس الإسباني اليميني المتطرف، بقيادة سانتياجو أباسكال، والذي علّق على فوز ميلوني قائلاً "إنها أظهرت الطريق لأوروبا حرة وفخورة، وبها دول ذات سيادة لتكون قادرة على التعاون من أجل الأمن والازدهار للجميع".
3- سياسة متشددة تجاه الهجرة: كانت ميلوني من أكثر المنتقدين لسياسة الهجرة الإيطالية خلال السنوات الماضية، إذ وصفتها بأنها "سياسة متساهلة للغاية"، وأدت إلى تحويل البلاد إلى "مخيم للاجئين في أوروبا"، كما دعت مراراً إلى ضرورة فرض "حصار بحري" على البحر الأبيض المتوسط؛ لوقف المهربين ومافيا الإتجار بالبشر.
ولذلك يرى المراقبون أن ميلوني ستعمل على إغلاق أبواب الهجرة إلى بلادها، وقد تدعم تولي سالفيني منصب وزير الداخلية، وهو المنصب، الذي شغله سابقاً من يونيو 2018 إلى سبتمبر 2019، وتبنى خلالها سياسات متشددة تمنع استقبال المهاجرين الذين يصلون إلى الشواطئ الإيطالية.
4- سياسات شرق أوسطية مستقرة: لا شك أن مصالح إيطاليا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ثابتة ومتجذرة، ولا يمكن أن تنهار في ظل حكومة ميلوني، إذ لا يمكن أن تنسحب إيطاليا من المنطقة، وعلى وجه الخصوص ليبيا، حتى لا تترك فراغاً لتنامي النفوذ الفرنسي هناك.
كما من المتوقع أن تحافظ على اتفاقيتها مع الجزائر في مجال الطاقة، كي تزود الأخيرة إيطاليا بكميات إضافية من الغاز، والتي يفترض أن تصل إلى 3 مليارات متر مكعب بنهاية 2022. ولذلك، فإن كل هذه المعطيات تؤكد أن اليمين المتطرف لن يهمل مصالحه مع دول الشرق الأوسط.
وفي الختام، يمكن القول إن فوز ميلوني في انتخابات 25 سبتمبر سيبقى رهناً بكيفية نجاحها في تشكيل الحكومة واختيار كفاءات تقود وتدير علاقات إيطاليا الخارجية وأزماتها الداخلية، وذلك لضمان نجاح استمرار حكومتها. ولذلك، فإن اختيار النهج الوسطي لميلوني قد يكون الأنسب لبقائها في السلطة فترة أطول، وإلا سيعجل الصدام برحيلها.