يبدو أن الحرب الروسية - الأوكرانية قد دخلت مرحلة تجاوز الخطوط الحمراء والتي يمكن أن تنقل المشهد الميداني والعسكري لمساحات أكثر تعقيداً وتشابكاً. فوفقاً لحسابات كييف، يعد إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضم أربع مناطق أوكرانية إلى روسيا تجاوزاً لا يمكن الصمت عليه، وهو ما عبّر عنه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، والذي تعهد برد قوي على إجراءات الضم. في الوقت ذاته، تنظر الأوساط الروسية لمشهد تفجير جسر "كيرتش" الرابط بين شبه جزيرة القرم والأراضي الروسية يوم 8 أكتوبر 2022، كونه انتكاسة عسكرية كبيرة تحتاج لرد فعل حاسم يُعيد رسم الخطوط الحمراء لأوكرانيا مرة أخرى. وبالفعل شنت روسيا بداية من يوم 10 أكتوبر الجاري هجمات صاروخية مكثفة على العاصمة كييف ومدن أوكرانية أخرى.
تفجيرات متكررة:
اتسمت التفاعلات الأخيرة في الساحة الأوكرانية بالغموض الواضح، وارتبط هذا النهج بتطورين لافتين دارت التفاعلات فيهما حول البحث عن المستفيد في ظل عدم الإعلان عن الفاعل، حيث أثارت تفجيرات خطي "نورد ستريم" في شهر سبتمبر الماضي حالة من الجدل بعدما تبادلت روسيا والغرب الاتهامات بوقوف الآخر وراء هذه التفجيرات، ومحاولة كل منهما إثبات مصلحة الثاني في وقوعها وعرقلة إمدادات الطاقة.
من ناحية أخرى، جاء تفجير جسر القرم يوم 8 أكتوبر الجاري ليُضفي بُعداً جديداً على مشهد الحرب، فعلى الرغم من اتهام روسيا المباشر لأوكرانيا بالوقوف وراء التفجير، فإن كييف لم تعلن مسؤوليتها، بل أنها قامت بالتشكيك في الرواية الروسية، معتبرة أن هذا التفجير قد يكون جزءاً من الصراع الداخلي بين قوات الأمن الروسية، وهو ما عبّر عنه مستشار مدير مكتب الرئيس الأوكراني، ميخايلو بودولياك، حيث أشار إلى أن التفجير يعتبر "مظهر ملموس للصراع بين جهاز المخابرات الداخلية الروسية ومقاولين عسكريين خاصين، مثل مجموعة فاجنر من جهة، ووزارة الدفاع، وهيئة الأركان العامة للاتحاد الروسي من جهة أخرى".
وبغض النظر عن الفاعل والمستفيد، فإن تفجيري نورد ستريم وجسر القرم يعتبران من التحولات الفارقة التي تشهدها الحرب الروسية - الأوكرانية في شهرها الثامن، فالأول يمكن أن يفاقم من أزمة الطاقة التي تعيشها أوروبا وسط مساعي دولها لتوفير بدائل عن الغاز الروسي لمواجهة الشتاء القادم، بينما تفجير جسر القرم يمكن أن يؤدي إلى توسيع وإطالة الحرب الحالية في ظل رغبة موسكو في إثبات قدرتها على إلحاق الضرر بأوكرانيا، وأنها لا تزال – بالرغم من بعض التراجع العسكري مؤخراً - تمتلك زمام الأمور وبإمكانها تحويل مسار الوضع الميداني.
وقد حمّل الرئيس بوتين أجهزة الاستخبارات الأوكرانية المسؤولية عن تفجير جسر القرم. وخلال اجتماعه مع رئيس لجنة التحقيق الروسية بشأن تفجير جسر القرم، ألكسندر باستريكين، أكد بوتين أن "السلطات الروسية ليس لديها شك في أن حادث جسر القرم كان هجوماً إرهابياً ضد البنية التحتية المدنية في روسيا". وكرد فعل مباشر على هذا الهجوم، وقّع بوتين مرسوماً يقضي بتعزيز الدفاعات لوصلات النقل والبنية التحتية للطاقة في القرم، كما تم الإعلان عن حالة الطوارئ في القرم ورفع درجة التأهب القصوى ضد الإرهاب.
دلالات تصعيدية:
اعتبر نائب رئيس مجلس الدوما، أوليغ موروزوف، أن تفجير جسر القرم بمنزلة إعلان حرب، وبحسب لجنة التحقيق الحكومية التي شكلتها موسكو لبحث أسباب الهجوم وملابساته، فإن الحريق اندلع نتيحة تفجير شاحنة مفخخة، ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وإشعال النيران في صهاريج وقود أحد أجزاء الجسر. وفي هذا السياق، يمكن الوقوف على جملة من الدلالات على خلفية التفجير الأخير ومجمل التحولات الميدانية التي تشهدها الحرب الأوكرانية في الوقت الراهن، وذلك على النحو التالي:
1- مضاعفة الخسائر العسكرية لموسكو: يزيد تفجير جسر "كيرتش" معاناة روسيا الميدانية ويضاعف خسائرها، فعلى الرغم من استمرار سيطرتها على نحو 15% من الأراضي الأوكرانية، فإن الوضع الميداني خلال الأسابيع الماضية يشهد "صحوة أوكرانية" ملحوظة مقابل تراجع للقوات الروسية، حيث حققت القوات الأوكرانية عدداً من المكاسب العسكرية في شرق البلاد وجنوبها، ما خصم من نفوذ موسكو في تلك المناطق. وخلال الأسبوع الأول من أكتوبر 2022، تمكنت القوات الأوكرانية من استعادت 400 كيلو متر مربع من منطقة خيرسون في الجنوب، كما نجحت في السيطرة على نحو 2434 كيلو متراً و96 منطقة سكنية في شرق البلاد منذ نهاية سبتمبر الماضي، وفقاً لتصريحات الرئيس زيلينسكي يوم 8 أكتوبر الجاري.
وسبق ذلك، إحكام القوات الأوكرانية سيطرتها على منطقة خاركيف في منتصف سبتمبر الماضي. كما جاء سقوط مدينة ليمان في مطلع أكتوبر ليعكس النزيف الميداني والخسائر التي تتعرض لها روسيا بصورة غير مسبوقة منذ بداية الحرب، خاصةً أن هذه المدينة تُعد محوراً استراتيجياً لتقديم الدعم اللوجيتسي والعملياتي للعناصر الروسية في منطقة دونيتسك.
2- قطع شريان الإمدادات والدعم: كان استهداف الجسور وخطوط الإمداد ضمن استراتيجية أوكرانيا منذ بداية الحرب، إذ أكد قائد القوات الأوكرانية، دميتري مارشينكو، في يونيو 2022، أن جسر "كيرتش" يعتبر الهدف الأول لقوات بلاده. وعلى المنوال ذاته، استهدف الجيش الأوكراني جسراً استراتيجياً فوق نهر "دنيبرو" في خيرسون خلال أغسطس الماضي، ما يشير إلى قناعة القيادة الأوكرانية بأهمية استهداف الجسور لشل حركة القوات الروسية، وقطع الإمدادات، وعرقلة أية مساعي للتقدم في المحاور الاستراتيجية للقتال.
ومع أن أوكرانيا تنفي ضلوعها في تفجير جسر القرم، فإن تأثيراته قد تصيب القوات الروسية بصدمة كبيرة، سواء من الناحية المعنوية والنفسية أو على الصعيد العملياتي، حيث قد يضع التفجير قيداً على حركة المرور وقدرة موسكو على توسيع هجماتها في الجنوب الأوكراني ما لم يتم استعادة العمل به سريعاً، خاصةً أنه يعتبر محوراً استراتيجياً لربط روسيا بشبة جزيرة القرم. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن تدمير الجسر – ولو جزئياً - سيؤثر على روسيا بشكل كبير، على اعتبار أنها ستعاني فيما يتعلق بالخدمات اللوجستية وعمليات نقل الأسلحة والذخيرة، ما سيُضعف قدراتها على مواجهة أية هجمات مضادة في ظل رغبة أوكرانيا في استغلال اللحظة الراهنة لبسط نفوذها على مزيد من الأراضي.
3- ضرب رمزية ومكانة القرم: يحظى جسر القرم بمكانة كبيرة لدى الروس والرئيس بوتين على وجه التحديد، حيث يُنظر إليه باعتباره رمزاً للرئيس الروسي ودليلاً على قدرته الفائقة على تنفيذ مشاريع بنية تحتية كبيرة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. ومنذ تدشين هذا الجسر، تم التعامل معه كخطوة في طريق استعادت المكانة الروسية المفقودة، خاصةً أن دخوله حيز النفاذ كان يعني تعزيز قبضة روسيا على شبة جزيرة القرم. وخلال مشاركته في افتتاح الجسر عام 2018، وصف بوتين إتمام المشروع بـ "المهمة التاريخية والإنجاز العظيم". ومن هنا تبرز أهمية جسر "كيرتش" ليس فقط لربطه روسيا بالقرم، بل لأنه يحتل مكانة خاصة لدى الروس بأكملهم، وعليه فيعتبر التفجير الأخير هزة عنيفة لرمزية ومكانة الجسر، كما أنه يشكك في قدرة روسيا على تأمين وحماية موقع استراتيجي مهم يخدم جهودها الحربية واللوجستية ضد أية هجمات أوكرانيا محتملة، خاصةً أن تعطيله قد يؤثر على تقديم الدعم في منطقتي خيرسون وزاباروجيا التي أعلنت موسكو ضمهما مؤخراً.
4- تجاوز الخطوط الحمراء: يظل الاقتراب من القرم أو محاولة اقتحامها من القوات الأوكرانية ضمن الخطوط الحمراء التي قد تدفع روسيا للتعاطي معها بعنف في حال إذا ما قررت أوكرانيا القيام بهجمات هناك. ومن ثم فقد يشير تفجير جسر القرم إلى أن تطورات الحرب أفضت إلى تجاوز الخطوط الحمراء، فلم تعد القوات الأوكرانية – بالرغم من عدم تبنيها الهجوم الأخير- تتوقف عند ما يمكن اعتباره خطاً أحمر، فخلال شهر أغسطس الماضي أعلن الرئيس زيلينسكي أن الحرب يجب أن تنتهي بتحرير القرم. وعلى الرغم من صعوبة تخلي موسكو عن مكاسبها التي حققتها منذ عام 2014، واستبعاد نجاح القوات الأوكرانية في استعادتها لاعتبارات ترتبط بالنفوذ الروسي والتمركزات العسكرية الكثيفة عبر أسطولها في البحر الأسود، فإن تفجير جسر "كيرتش" كان مدفوعاً برغبة كييف في إرباك المشهد واستهداف الروح المعنوية للقوات الروسية وإيصال رسالة بقدرتها على استهداف أكثر القواعد الروسية تحصيناً، وهو المشهد الذي تكرر خلال الفترة الماضية في العديد من المناسبات، ومنها استهداف مقر الأسطول الروسي في البحر الأسود بطائرات مُسيّرة خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين.
مسارات محتملة:
على الرغم من قدرة روسيا على استعادة العمل جزئياً في جسر القرم في أعقاب الهجوم الأخير، فإن تبعات هذا التفجير قد تكون مكلفة حتى وإن كان استهدافه لم يتجاوز نطاق الرمزية ولم يؤثر على مجريات المشهد الميداني بصورة كبيرة حتى الآن، حيث إن التفجير يمكن أن يفتح الباب أمام تحولات قادمة قد تشهدها الحرب في أوكرانيا، وهو ما يمكن الوقوف عليه فيما يلي:
1- توسيع الهجمات الصاروخية الروسية: يُرجح أن تستمر القوات الروسية في تكثيف هجماتها الصاروخية على عدد من الواقع الحيوية ومراكز القيادة الأوكرانية لردع قواتها، وهو ما بدا واضحاً عبر تنفيذ هجمات صاروخية واسعة النطاق صباح يوم 10 أكتوبر 2022، والتي وصفت بأنها "الأوسع والأكثر شدة" منذ بداية الحرب. إذ أعلن القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية أن روسيا أطلقت نحو 75 صاروخاً على العاصمة كييف وعدد من المدن الأوكرانية، ما تسبب في الحاق إضرار بـ 11 منشأة حيوية في 8 مناطق مختلفة بالبلاد، وفقاً لرئيس الوزراء الأوكراني. وعليه قد يكون توسيع الهجمات الصاروخية وتوظيف الطائرات من دون طيار أحد الخيارات الروسية في المرحلة المقبلة للتعاطي مع التقدم الميداني للقوات الأوكرانية ورداً على استهداف جسر القرم.
2- مزيد من التصعيد العسكري بداعي "الحرب ضد الإرهاب": يمكن أن تلجأ روسيا لهذا الأمر على المدى البعيد، إذا ما زادت خسائرها الميدانية أكثر منذ ذلك، وفي حال حدوث تغيرات عسكرية كبيرة لصالح أوكرانيا، خاصةً في المناطق التي تعتبرها روسيا ضمن سيادتها، ما قد يدفع موسكو إلى تصعيد هجماتها العسكرية وتبرير ذلك بأنه يأتي في إطار الدفاع عن أراضيها. بيد أن هذا الأمر قد يقابله عدد من القيود، ومن أبرزها أن التحول إلى حرب شاملة ومكثفة ضد الإرهاب، وفقاً لرؤية موسكو، قد يحتاج إلى مزيد من التعبئة، الأمر الذي قد يثير حفيظة الداخل الروسي، خاصةً بعد الانتقادات التي واجهت إعلان التعبئة الجزئية مؤخراً.
3- الاندفاع نحو الخيار النووي: في أعقاب إعلان روسيا ضم أربع مناطق من أوكرانيا، هدد الرئيس بوتين ضمنياً باستخدام السلاح النووي، حيث أشار إلى أن كل الوسائل متاحه أمامه للدفاع عن مصالح روسيا وشعبها. وتزامن ذلك مع تحذيرات واشنطن من نهاية العالم، في حال إذا ما لجأت موسكو للسلاح النووي، حيث أكد الرئيس جو بايدن أن بوتين لا يمزح عندما يتحدث عن استخدام أسلحة نووية. وعليه تشير بعض التقديرات إلى إمكانية استخدام موسكو سلاحاً تكتيكياً للتأثير على مناطق محددة. ومع ذلك، لا يُرجح الاندفاع نحو توظيف السلاح النووي، إلا في حالة تغير موازين القوى وإلحاق الهزيمة بالقوات الروسية، وحينها قد تجد موسكو في الخيار النووي ملاذاً لتجنب الهزيمة. أما في حال استمرار الوضع على ما هو عليه، فقد يتراجع هذا المسار التصعيدي في ظل ارتفاع التكلفة المتوقعة للسلاح النووي، علاوة على أن ذلك من شأنه أن يجر العالم إلى مرحلة خطيرة للغاية لا ترغب فيها روسيا على الأقل في الوقت الحالي. وبالتالي قد لا يخرج التلويح باستخدام السلاح النووي عن كونه ورقة ضغط ومحاولة ردع من جانب روسيا لأوكرانيا والغرب.
ختاماً، يمكن القول إن التصعيد بين الجانبين الروسي والأوكراني في الحرب الجارية، قد يعتمد على مسارات رد الفعل الروسي بعد التفجيرات الأخيرة، وما إذا كانت أوكرانيا ستقوم بعمليات مماثلة ضد القوات أو البنية التحتية الروسية في الفترة المقبلة. وربما تركز موسكو خلال هذه المرحلة على الحفاظ على مكتسباتها الميدانية المتحققة حتى الآن، وتأمين المناطق الأوكرانية التي أعلنت ضمها، مع العمل على وقف الهجمات المضادة في عدد من الجبهات. وأيضاً، قد يشهد التكتيك العسكري الروسي تغيراً في ظل تعيين قائد جديد لقيادة "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا، وهو الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي يتمتع بخبرات ناجمة عن مشاركاته السابقة في مثل تلك العمليات العسكرية، كما هي الحال في حرب الشيشان الثانية في مطلع الألفية الثالثة، والتدخل العسكري الروسي في سوريا منذ عام 2015.