مازالت العمليات العسكرية التي باشرتها القوات الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، تطرح مزيداً من التساؤلات بشأن أهدافها، وانعكاساتها على الأمن الأوروبي، وعلى مستقبل النظام الدولي بشكل عام. وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعة أشهر على بدء هذه الحرب التي ربطتها موسكو بالسعي إلى الحد من القدرات العسكرية لأوكرانيا والقضاء على "التوجهات النازية" بها، على حد وصفها، فإن تطور الأحداث بشكل متسارع يبرز أن المعركة لم تُحسم بعد، بفعل التضامن الغربي الواسع مع كييف، في مقابل إصرار موسكو على تحقيق أهدافها، حتى في ظل كل العقوبات والضغوطات التي تواجهها في هذا الصدد.
وجاء إعلان الرئيس فلاديمير بوتين ضم أربعة أقاليم أوكرانية هي لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون إلى السيادة الروسية، ليخلط الأوراق من جديد، وليعمّق الأزمة أكثر، وليثير مزيداً من الترقب وكذا الأسئلة المقلقة بشأن مشروعية هذا السلوك الروسي، ودلالاته الاستراتيجية، وردود الفعل المنتظرة بشأنه، وصولاً إلى السيناريوهات المُحتملة لمصير الحرب الجارية.
جدل المشروعية:
قبيل الإعلان عن قرار الضم، شهدت هذه الأقاليم الأربعة تنظيم استفتاء حول الانضمام إلى روسيا خلال شهر سبتمبر 2022، وقد جاءت النتائج - بحسب معطيات رسمية- مؤيدة للانفصال، وتراوحت النسبة فيها بين 87,05% في خيرسون، و93,11% في زاباروجيا، و98,42% في لوغانسك، و99,23% في دونيتستك.
وأثار هذا التوجه الانفصالي مجموعة من النقاشات السياسية والأكاديمية حول توقيته، والخلفيات والدوافع الحقيقية المتحكمة فيه، ومدى شرعيته في ضوء المقتضيات الدستورية لأوكرانيا، ومبادئ القانون الدولي فيما يتعلق بحماية سيادة الدول ووحدتها. فالأمر يتعلق بوضع اليد بالقوة على أراضي دولة مستقلة وذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة، وذلك في تجاوز لعدد من مبادئ القانون الدولي المتعلقة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والامتناع عن استخدام القوة أو مجرد التهديد بها في العلاقات الدولية، وتسوية المنازعات بشكل سلمي.
ويترتب على قرار الضم جعل هذه المناطق، التي تمثل ما يناهز 20% من المساحة الإجمالية لأوكرانيا، جزءاً لا يتجزأ من التراب الروسي، وخاضعة للضوابط الدستورية والقانونية والسيادية لموسكو. وتعتبر روسيا أن قرارها هذا تم بإرادة سكان الأقاليم أنفسهم عبر استفتاءات حرة وديمقراطية، اختاروا بموجبها أن يصبحوا مواطنين روس. فالأمر يمثل، من منظورها، شكلاً من أشكال حق شعوب شرق أوكرانيا في تقرير مصيرها.
وضمن رؤية تكرس الأمر الواقع، دعا بوتين، في خطابه بشأن قرار الضم، إلى الانصياع لما سماه "إرادة الشعوب"، ووقف كل العمليات العسكرية، والجلوس إلى مائدة التفاوض، مُلوحاً بإمكانية اللجوء إلى الخيار النووي لصد أي اعتداء لتغيير الواقع الذي رتبت له موسكو واقعياً و"قانونياً"، ومؤكداً أن أي عمل عسكري يستهدف هذه الأقاليم الأربعة هو بمنزلة عمل يمس وحدة وسيادة الأراضي الروسية ويبرر ممارسة الدفاع عن النفس بكل السُبل والوسائل.
وهنا فإن الإشكال الكبير الذي يُطرح في هذا الصدد هو مدى مصداقية وشرعية هذه "الاستشارة الشعبية" التي تمت تحت صوت القنابل والرصاص والطائرات، وذلك ربما في تجاوز واضح لإرادة وسيادة دولة مستقلة هي أوكرانيا، ولضوابطها الدستورية واختياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ومن جانبه، قام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، فور الإعلان الروسي عن ضم الأقاليم الأربعة، بتوقيع طلب يقضي بالانضمام السريع إلى حلف "الناتو"، وهو الطلب الذي يمثل رسالة مزدوجة تهدف إلى إحراج الحلف ومحاولة إخراجه من موقفه الحيادي من جهة، وابتزاز روسيا ودفعها إلى مراجعة حساباتها، من جهة أخرى. وفي مقابل التصعيد الروسي، والدعوة إلى الجلوس إلى مائدة الحوار، عبر الرئيس زيلينسكي عن رفض كييف التفاوض مادام بوتين على رأس قيادة روسيا.
فيما تراوحت المواقف الدولية إزاء ضم موسكو الأقاليم الأوكرانية الأربعة بين رفض الاعتراف بهذا الواقع الجديد، وإدانته، وتحفظ العديد من الدول عن الإدلاء بمواقف واضحة. إذ أكد الاتحاد الأوروبي أهمية احترام سيادة أوكرانيا وحقها المشروع في الدفاع عن أراضيها، مشيراً إلى أن روسيا تعرّض بسلوكها الأمن العالمي للخطر. أما بريطانيا فقد أعلنت عن رفضها للاستفتاء ولقرار الضم الناجم عنه، واعتبرت هذا الأخير عملاً غير قانوني. بينما لوّحت الولايات المتحدة الأمريكية باللجوء إلى مزيد من العقوبات لدفع روسيا إلى التراجع عن قرارها، ونبهت إلى إمكانية لجوء مجموعة السبع لفرض عقوبات مختلفة على أي دولة تؤيد هذا الضم. ومن جانبه أيضاً، اعتبر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، قرار الضم عملاً تصعيدياً خطيراً، مشيراً إلى أن التلويح باللجوء للسلاح النووي محاولة لابتزاز المجتمع الدولي.
بينما كان موقف الصين مُلتبساً، ففي الوقت الذي أكدت فيه بكين احترام سيادة أوكرانيا، عبّرت من جانب آخر عن ضرورة "مراعاة الهواجس الأمنية لأية دولة أخرى". أما مجلس الأمن الدولي، فقد حاول إصدار قرار يدين هذه الخطوة، ويقر بعدم قانونيتها، غير أن روسيا أحبطته باستخدام حق النقض "الفيتو".
أبعاد استراتيجية:
هناك عدد من الدلالات المهمة التي ينطوي عليها قرار روسيا بضم الأقاليم الأربعة، ومنها الآتي:
1- الأهمية الاستراتيجية للأقاليم الأربعة: تحظى الأقاليم المعنية بالضم الروسي بأهمية استراتيجية كبيرة، بالنظر للروابط العرقية والحضارية والتاريخية التي تجمعها مع موسكو، فضلاً عن موقعها الجغرافي الذي سيدعم حماية روسيا من جهة الشرق. علاوة على ذلك، فهي تضم عدداً من المناجم والموانئ المهمة، كما أن إقليم زاباروجيا يضم إحدى أهم المحطات النووية، فيما يتميز إقليم خيرسون بإمكانياته الزراعية الكبيرة.
2- تغير واقع الأهداف الروسية: اُتخذ قرار الضم في الوقت الذي تلقت فيه القوات الروسية ضربات متتالية داخل أوكرانيا المسنودة بدعم تقني وعسكري واقتصادي غربي، فالأمر يتعلق هنا بحجم الإرهاق الذي أصاب القوات الروسية التي لم تفلح في تحقيق أهدافها الاستراتيجية بعد أكثر من سبعة أشهر من التدخل العسكري. ويشير السلوك الروسي إلى خطة استراتيجية تقضي بحماية حدودها، طالما لم تستطع تحقيق أجندتها الكاملة داخل الأراضي الأوكرانية، خاصةً فيما يتعلق بإسقاط نظام زيلينسكي، واختيار رئيس موالٍ لها، أو تحطيم القدرات العسكرية لكييف.
3- إتاحة أوراق تفاوضية قوية لموسكو: يبدو أن الأمر يتعلق بمحاولة روسية لتحويل النزاع من طابعه الإقليمي إلى مواجهة مباشرة ومفتوحة مع الغرب، وتوفير شروط إجراء مفاوضات مستقبلية من موقع أفضل. فهذا الخيار يوفر لموسكو وضعاً تفاوضياً مستقبلياً مناسباً وبأوراق قوية، ويمكن أن يسمح لها بتحقيق مجموعة من المكتسبات الاستراتيجية، سواء فيما يتعلق بدفع حلف "الناتو" إلى الكفّ عن التمدد في محيطها، أو بتمكينها من لعب أدوار أكثر قوة داخل نظام دولي تعدّدي إلى جانب الولايات المتحدة والصين.
4- استعراض القدرات الروسية: يمثل قرار الضم فرصة جديدة بالنسبة لروسيا لاستعراض قوتها من خلال التهديد بالخيار النووي، ولبعث رسائل مضمرة وعلنية تصب في اتجاه رفض التوجهات الغربية، حيث لم يتوقف الرئيس بوتين منذ اندلاع الحرب عن تأكيد رفض النظام الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة والغرب منذ نهاية الحرب الباردة، وعن انتقاد ما اعتبره خططاً استعمارية أمريكية جديدة، مع توضيح أن بلاده لن تخضع "للقواعد الدولية المزورة"، على حد وصفه، التي أرساها الغرب في هذا الخصوص. وهذا ما دفع عدداً من الباحثين إلى التساؤل حول ما إذا كان الأمر يعبر عن رغبة بوتين في إحياء أمجاد الاتحاد السوفييتي.
مساران مُحتملان:
يحيل الضم الروسي للأقاليم الأوكرانية إلى سيناريوهين مُحتملين مستقبلاً، هما كالتالي:
1- سيناريو متفائل: يحمل هذا السيناريو قدراً من التفاؤل على اعتبار أن الأزمة الغربية – الروسية وصلت إلى مرحلة الذروة، بعد التلويح الروسي بإمكانية استخدام السلاح النووي للدفاع عن السيادة الروسية التي أصبحت تضم بحكم الواقع أقاليم كانت حتى وقت قريب جزءاً من التراب الأوكراني، والتهديد الأمريكي بردّ نووي صارم في حال استهداف أي عضو في دول حلف شمال الأطلسي، وبروز أزمات فرعية لا تخلو من مخاطر، كما هي الحال بشأن أزمتي الطاقة والغذاء، ومحاولة تدمير خط أنابيب "نورد ستريم" الذي يربط بين روسيا وأوروبا. وهو الوضع الذي قد يدفع الأطراف المعنية إلى الجلوس إلى مائدة التفاوض، كل من موقعه وبأوراقه الضاغطة التي يمتلكها في مواجهة الآخر، والبحث عن حلول استراتيجية، تحفظ ماء وجه الجميع، وتدفع الأطراف المعنية إلى تقديم تنازلات تتيح فرصاً حقيقية للسلام.
وقد ينتج عن المفاوضات تقديم ضمانات بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، وإعلان حيادها، مع رفع العقوبات الصارمة التي فرضها الغرب على روسيا، في مقابل تراجع الأخيرة عن قرارات الضم ووقف العمليات العسكرية داخل الأراضي الأوكرانية. وهو السيناريو الذي تدعمه الرغبة المتزايدة التي عبرت عنها موسكو في وقف العمليات التي يبدو أنها أرهقتها ولم تتح لها تحقيق أهدافها في هذا الشأن. كما يمكن أن يساند الغرب هذا السيناريو نتيجة التخوف من تنامي المعضلات الاقتصادية في ظل تهديد أمن الطاقة والغذاء الناجم عن هذه الحرب، أو خروج الأمور عن نطاق التحكم باندلاع حرب نووية تأتي على الأخضر واليابس.
2- سيناريو متشائم: يشير هذا المسار إلى إمكانية حدوث مزيد من التصعيد بين أوكرانيا المُصرّة على استرداد أراضيها، مدعومة في ذلك بمساعدات غربية مختلفة ودعم دبلوماسي واسع من جهة، وروسيا المُصّرة على ضم الأقاليم الأوكرانية، وعلى تحقيق أمنها وتأمين محيطها، من جهة أخرى، بما يعنيه ذلك من استمرار العمليات العسكرية الميدانية المحدودة، دون تجاوز "الخطوط الحمراء" التي يمكن أن تؤدي إلى مواجهة نووية مباشرة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا.
وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية كثيرة بالنسبة للأطراف المتصارعة وعلى السلم والأمن الدوليين، بل ويمكنه الإسراع بانهيار عدد من المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة التي كشفت هذه الحرب حجم الاختلالات التي تطبع أداءها.
ختاماً، يمكن القول إن قرار الضم الروسي للأقاليم الأوكرانية ربما يمثل نقطة فارقة في مسار الحرب الروسية - الأوكرانية، حيث إنه قد يدفع إلى إنهاء الأزمة بشكل يحقق أهدافاً مُرضية للطرفين، أو يؤدي إلى تصاعد الأزمة على النحو الذي يتسبب في تداعيات سلبية على العالم ككل في ظل الأزمات التي يعانيها حالياً، وسيكشف المستقبل القريب عن أي المسارين ستتجه إليه الأزمة.