بدأت أوكرانيا، في 6 سبتمبر 2022، هجوماً مباغتاً ضد المناطق الخاضعة لسيطرة روسيا في إقليم خاركيف، وتمكنت من استعادة السيطرة على أغلب مناطقه بحلول 12 سبتمبر، وذلك على الرغم من أن هجومها العسكري ضد إقليم خيرسون في جنوب أوكرانيا، والذي بدأ في 29 أغسطس، لم يلق نجاحاً مماثلاً، في حين أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في 12 سبتمبر، أن الهجوم المضاد الذي تشنّه أوكرانيا على القوات الروسية لايزال في مراحله الأولى، وهو ما يثير التساؤل حول نجاح القوات الأوكرانية في تحقيق تقدم عسكري إضافي.
تطورات عسكرية متزامنة:
شهدت خطوط القتال بين روسيا وأوكرانيا خلال الفترة الممتدة من 28 أغسطس وحتى 15 سبتمبر التطورات التالية:
1- تقدم عسكري في خاركيف: رصدت القوات الأوكرانية نقطة ضعف في الخطوط الدفاعية الروسية بالقرب من مدينة بالاكليا، التي كانت في أيدي الروس منذ 2 مارس 2022، ولذلك قام بشن هجوم عليها، كما تقدمت القوات الأوكرانية شرقاً عبر فولوخيف يار وشيفتشينكوف وأخيراً نحو مدينة كوبيانسك، وهي مركز رئيسي للسكك الحديدية، والتي كانت تستخدم لتزويد القوات الروسية في الدونباس بالأسلحة والمعدات.
وعقد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اجتماعاً مع أعضاء مجلس الأمن في موسكو، روسيا في 9 سبتمبر، والتي أعلنت روسيا في أعقابها عن سحب القوات الروسية بالقرب من مدنيتي بالاكليا وإيزيوم في إقليم خاركوف شرق أوكرانيا في اتجاه إقليم دونيتسك، وذلك بهدف منع تقدم الجيش الأوكراني عبر هذه الجبهة. وانسحبت القوات الروسية من مناطق سيطرتها في خاركيف إلى شرق نهر أوسكيل، وهو ما يمد الجيش الروسي بخطوط دفاع طبيعية، إذ إنه يمكنها من رصد وصد أي محاولات للجيش الأوكراني لعبور النهر. وسبق وأن قام الجيش السوفييتي باستخدام المدفعية والقنص على الجبهة الشرقية من النهر لإبطاء تقدم الجيش النازي باتجاه موسكو أثناء الحرب العالمية الثانية.
2- خسائر أوكرانية جديدة في دونيتسك: لم يقتصر الهجوم الأوكراني على خاركيف، بل تم فتح جبهة أخرى في دونيتسك، وذلك عبر شن هجوم على مدينة ليمان، وتمكنت القوات الأوكرانية من دخول ضواحي المدينة، واشتبكت مع القوات الروسية، والتي قامت بالدفاع عنها، كما أرسلت موسكو إمدادات عسكرية ضخمة إلى المدينة في 14 سبتمبر، وذلك لمنع سقوطها في الجيش الأوكراني، وإحباط الهجمات الأوكرانية في هذا الاتجاه، فضلاً عن مواصلة الجهود الرامية لتحرير باقي أراضي إقليم دونيتسك.
وعلى الجانب الآخر، تمكنت القوات الروسية من السيطرة على مناطق جديدة في إقليم دونيتسك، إذ إنه في يومي 14 و15 سبتمبر، سيطرت القوات الروسية والقوات المتحالفة معها على بلدة "مايورسك" الواقعة شمال قرية "غورلوفكا"، وذلك بعد سيطرتها على بلدتي "نيكولايفكا" و"نيكولايفكا فتورايا" الواقعة بالقرب من مدينة أرتيوموفسك (التي تسمى بالأوكرانية – باخموت)، كما صرح رئيس جمهورية دونيتسك الشعبية بأن قوات التحالف سيطرت على ضواحي أرتيوموفسك، وهو ما ينذر بإمكانية سقوطها قريباً.
3- استمرار الجمود العسكري في خيرسون وزابوروجيا: أعلنت أوكرانيا تحقيق انتصارات عسكرية محدودة في خيرسون وزابوروجيا، غير أن بعض هذه الانتصارات فندها الجيش الروسي، بينما صدت القوات المسلحة الروسية وقوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين إنزالاً للقوات المسلحة الأوكرانية من البحر الأسود باتجاه خيرسون، في يومي 14 و15 سبتمبر، وهو ما يؤشر إلى محاولة القوات الأوكرانية للالتفاف على القوات الروسية من جهة البحر الأسود، إلى جانب الهجوم الذي يتم شنه من جهة ميكولايف.
وأكدت إدارة مقاطعة خيرسون، المدعومة من روسيا، في 14 سبتمبر، أن الوضع في المنطقة مستقر، والمنطقة محمية بشكل قوي من قبل القوات الروسية، لذلك فإن محاولات قوات كييف للتقدم في اتجاه خيرسون مستحيلة، وفقاً له.
ومن جهة أخرى، أكد رئيس جمهورية الشيشان رمضان قديروف، أن وحدات النخبة من القوات الخاصة الشيشانية، عادت بقيادة آدم ديليمخانوف، إلى منطقة العمليات العسكرية الخاصة في أوكرانيا بعد قضاء فترة راحة في مؤشر على استعدادها لتنفيذ عمليات عسكرية جديدة، كما أشار قديروف إلى أن المواقع الاستراتيجية في مقاطعة زابوروجيا جنوب أوكرانيا تخضع لسيطرة تامة من قوات "أحمد" الشيشانية الخاصة، وهو ما يكشف عن استعداد روسيا لصد أي هجمات أوكرانية هناك.
أسباب النجاح المفاجئ لكييف:
من مراجعة مجمل ما نشر عن العملية العسكرية الأوكرانية الأخيرة في خاركيف، يمكن القول إن النجاحات الأخيرة التي حققها الجيش الأوكراني تعود إلى التالي:
1- خداع الجيش الأوكراني: أعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في 23 أغسطس، أن الحرب بدأت بشبه جزيرة القرم وستنهي بها، متعهداً باستعادة شبه الجزيرة التي ضمتها روسيا، بينما بدأت التحركات العسكرية الأوكرانية باتجاه خيرسون، والتي تقع في طريق القرم، في 29 أغسطس. ودفع ذلك الوضع الجيش الروسي إلى سحب أغلب قوات النخبة، وإعادة نشرها إلى الجنوب، وذلك لمنع الجيش الأوكراني من تحقيق أي تقدم على هذه الجبهة.
2- الدعم الأمريكي والبريطاني: اعترف مسؤولون أمريكيون لصحيفة نيويورك تايمز أن الاستخبارات الأمريكية قدمت المشورة لسلطات كييف بخصوص الهجوم المضاد على خاركيف، كما أقر مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي بأن الهجوم المضاد للقوات الأوكرانية تم نتيجة للتعاون مع الاستخبارات الأمريكية والبريطانية.
وتشير وسائل الإعلام الروسية إلى وجود دور نشط لمرتزقة من الولايات المتحدة وبولندا، وعن مشاركتهم في الجهود الأوكرانية الأخيرة لاستعادة السيطرة على خاركيف.
3- اتباع تكتيكات حلف الأطلسي: قامت القوات الأوكرانية بشن هجوم متزامن على أكثر من جبهة من خاركيف والدونباس، وصولاً إلى زابوروجيا وخيرسون، وذلك في محاولة لتحديد نقاط الضعف في الدفاعات الروسية، وشن جوم ضدها، ثم استخدام الصواريخ الغربية دقيقة التوجيه، على غرار راجمة الصواريخ الأمريكية هيمارس، وضربات المدفعية لتدمير مستودعات الذخيرة الروسية والقواعد اللوجستية، ومراكز القيادة خلف الخطوط الأمامية للقوات الروسية.
أهداف السيطرة على خاركيف:
سعت كل من الولايات المتحدة وأوكرانيا إلى استثمار التطورات الأخيرة لتحقيق الأهداف التالية:
1- التأكيد على إمكانية نجاح الهجوم المضاد: سعى الجيش الأوكراني من خلال الانتصارات العسكرية في خاركيف إلى التأكيد على قدرته على القيام بعمليات هجومية ضد الجيش الروسي، وتحقيق انتصارات ميدانية، وذلك بعدما ظل طوال الفترة الماضية في وضع دفاعي.
2- تأكيد معقولية الأهداف الأمريكية: تعلن الولايات المتحدة أن أحد أهدافها من مساندة أوكرانيا عسكرياً هو طرد روسيا من كامل الأراضي الأوكرانية، وكانت الدول الأوروبية تعتقد أن مثل هذا الهدف غير واقعي، وأنه يمكن التوصل إلى حل وسط للأزمة عبر التفاوض المباشر مع روسيا. وبعد الانتصارات الأخيرة لكييف، سوف تسعى واشنطن إلى التأكيد على معقولية أهدافها في أوكرانيا، وأنها قابلة للتحقيق.
كما أنه من جهة ثانية، سوف تسعى إدارة بايدن لتوظيف الانتصار العسكري لكييف لدعم شعبيتها قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر 2022، خاصة في ظل تردي شعبية بايدن بسبب ارتفاع التضخم وتراجع الأوضاع الاقتصادية.
3- الضغط على الدول الأوروبية: سوف تسعى أوكرانيا والولايات المتحدة إلى تكثيف الضغط على الدول الأوروبية لتقديم مزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا على أساس أن مثل هذا الدعم سوف تنتج عنه إمكانية هزيمة روسيا في أوكرانيا، وهو هدف رئيسي لكل من الولايات المتحدة وأوكرانيا وبعض دول شرق أوروبا، مثل بولندا ودول البلطيق.
استمرار المسار العسكري:
يلاحظ أنه على الرغم من النجاحات الأخيرة للجيش الأوكراني، فإنها لن تمهد الطريق للجلوس على طاولة المفاوضات، بل ستدفع روسيا إلى التصعيد، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- إخفاق التكتيكات الأوكرانية في أماكن أخرى: على الرغم من نجاح تكتيكات الجيش الأوكراني في جبهة خاركيف، فإنها لم تنجح في الجبهات الأخرى، وهو ما يكشف أن العامل الحاسم الذي ساعد الجيش الأوكراني على التقدم في خاركيف هو سحب الجيش الروسي التشكيلات النظامية ذات الكفاءة العالية من خاركيف لإعادة نشرها في خيرسون، وهو ما ترك جبهة خاركيف من دون حماية كافية، وهو ما يعني أن الانتصارات الأوكرانية في خاركيف غير مرشحة للتكرار في مناطق أخرى.
2- رفض المطالب الألمانية: طالب المستشار الألماني، أولاف شولتز، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 14 سبتمبر، بالعودة إلى المفاوضات مع أوكرانيا، في أقرب وقت ممكن. ووفقاً لنص نشرته الحكومة الألمانية للمكالمة، فإن شولتز طالب بوتين "بالعثور على حل دبلوماسي، يتضمن وقفاً لإطلاق النار، والانسحاب الكامل للقوات الروسية"، غير أن الرئيس الروسي رفض هذه المطالب مؤكداً استمرار العمليات العسكرية حتى تحقيق أهدافها المعلنة، والتي تتمثل في تحرير الدونباس، وذلك كحد أدنى.
3- تهديد روسي بالتصعيد: أعلن وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، أن احتمال إدخال صواريخ زيركون المتطورة المعركة قريباً، وهو ما يعد مؤشراً على إمكانية اتجاه روسيا للتصعيد عسكرياً عبر توظيف منظومات عسكرية أحدث، كما حذرت الخارجية الروسية، في 15 سبتمبر، الولايات المتحدة من توريد صواريخ طويلة المدى إلى أوكرانيا، مؤكدة أنها بذلك سوف تعبر الخط الأحمر، وتصبح طرفاً مباشراً في الصراع. وتهدف موسكو من هذه التصريحات إلى وضع حد للدعم الأمريكي، كما أنها قد تنذر بخطوات تصعيدية رداً على الدعم الأمريكي لكييف.
4- طرح مسودة ضمانات أوكرانية: نشر مكتب زيلينسكي، في 13 سبتمبر، مسودة بشأن الضمانات الأمنية لأوكرانيا. وفي الوثيقة، تقدم كييف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا وتركيا كضامن. وتنص الوثيقة على الاستثمار الأجنبي في القاعدة الصناعية العسكرية في أوكرانيا، ونقل الأسلحة على نطاق واسع، وتدريب القوات العسكرية في البلاد بمشاركة مدربين ومستشارين أجانب.
ورفضت موسكو هذه الوثيقة على أساس أنها تهدف إلى نقل البنية التحتية العسكرية للدول الغربية إلى الحدود الروسية، ومن ثم تسهم في إشعال الحرب، وليس وقفها على أساس أن السبب الرئيسي للحرب هو محاولة أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، وأن المسودة المطروحة من أوكرانيا ما هي إلا محاولة لإعادة إنتاج هذا الهدف، ولكن بصورة أخرى.
وفي الختام، يمكن القول إنه على الرغم من الانتصارات العسكرية الأوكرانية الأخيرة، فإن الجيش الروسي لايزال يسيطر على حوالي 20% من مساحة الأراضي الأوكرانية، كما أن موسكو لم تتخل بعد عن هدفها العسكري في أوكرانيا، والذي يتمثل في حده الأدنى في السيطرة على الدونباس بشكل كامل. ولا شك أن إخفاق اتصال شولتس ببوتين، يعني أن روسيا سوف تواصل التعويل على العامل العسكري لتحقيق أهدافها، وذلك بالتزامن مع محاولة الغرب تكثيف دعمه العسكري لأوكرانيا.