شهدت الأيام الأخيرة تصاعداً في وتيرة التعبئة العسكرية في العاصمة الليبية، طرابلس، بالتزامن مع تحركات يقوم بها رئيس حكومة الاستقرار المكلفة من قبل البرلمان، فتحي باشاغا، في غرب ليبيا لحشد مزيد من الدعم العسكري والقبلي، مما يزيد من احتمالات عودة المواجهات المسلحة وتكرار محاولة باشاغا دخول طرابلس.
زخم أمني متصاعد:
كثف باشاغا من تحركاته في غرب ليبيا خلال الأسابيع الأخيرة، ويمكن رصد أبرز تحركاته على النحو التالي:
1- انتقال باشاغا لمصراته: انتقل باشاغا، في 20 يوليو الماضي، من سرت إلى مصراته، والتي تمثل مسقط رأسه ومعقله بغرب ليبيا، واستقر هناك منذ ذلك الوقت، ولم يعد إلى سرت، التي كان قد أعلن قبل بضعة أشهر أنها ستمثل مقر حكومته بشكل مؤقت لحين الانتقال للعاصمة.
وتمكن باشاغا من حشد دعم المجموعات القوية داخل المدينة على غرار لواء المحجوب وكتيبة حطين، وهو ما انعكس في فشل رئيس حكومة الوحدة الوطنية المقالة، عبد الحميد الدبيبة، إلقاء القبض على باشاغا بعد وصوله لمصراته. كما عمدت القوات العسكرية التابعة لباشاغا بالمدينة إلى تنظيم عرض عسكري كبير بمناسبة الذكرى الـ82 لبناء الجيش الليبي، في محاولة لاستعراض قوتها وتأكيد استعدادها دخول طرابلس.
2- تحركات في الزاوية وورشفانة: لم تقتصر تحركات باشاغا على مصراته، لكنه عمد إلى التمدد نحو مدن الغرب الليبي، وفي مقدمتها الزاوية وورشفانة، فقد استطاع باشاغا بناء قاعدة قوية داعمه له هناك، وذلك نتيجة علاقاته القوية السابقة بهما وقت توليه وزارة الداخلية بحكومة الوفاق السابقة، فضلاً عن اختيار باشاغا أحد أبناء الزاوية، وهو عصام أبو زريبة، وزيراً للداخلية في حكومته. وتنامي دعم المدينة لباشاغا بعد قرار الدبيبة إقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، مصطفى صنع الله، وهو ما دفع بعض المجموعات المسلحة من الزاوية للتحرك صوب طرابلس للضغط على الدبيبة، فيما تمكن باشاغا من الحصول على دعم أكبر قوة عسكرية في ورشفانة، وهي الكتيبة 55 بقيادة معمر الضوي.
3- محورية دور الزنتان: تتمتع الزنتان بأهمية استراتيجية، نظراً لوقوعها في جنوب طرابلس، كما تمتلك قوة عسكرية كبيرة. وتدعم ألوية الزنتان القوية بقيادة رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية السابق، أسامة الجويلي، حكومة باشاغا، حيث باتت المدينة ترى أنه يمثل الخيار الأكثر قبولاً، وهو ما يعزز من فرص انخراطها عسكرياً في محاولة باشاغا دخول طرابلس.
ضبابية المشهد الراهن:
عكست التحركات الراهنة التي يقوم بها باشاغا جملة من الدلالات التي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- مساعي تطويق الدبيبة: يسعى باشاغا إلى حصار حكومة الدبيبة داخل طرابلس، من خلال تطويقها من مختلف الاتجاهات، بل أن الأيام الأخيرة شهدت تنامي مستويات التعبئة العسكري للقوات الموالية لباشاغا، حيث وصل بعضها إلى داخل طرابلس، فيما لا يزال البعض الآخر على تخوم العاصمة. وأشارت بعض التقارير إلى خروج بعض القوات من مدينتي مصراته والزاوية صوب طرابلس، وهو ما ينذر باحتمالات التصعيد العسكري وحدوث مواجهات مسلحة خلال الفترة المقبلة.
وألمحت حكومة باشاغا أن الظروف باتت مهيأة لدخول طرابلس بشكل سلمي، من دون تحديد واضح لتوقيت هذه الخطوة، وهو ما يعكس تغيّر التوازن الميليشيوي لصالح باشاغا، باستثناء حالة طرابلس، بيد أن بعض التقديرات الأخرى ترى بأن هذه التصريحات ربما تستهدف فقط الضغط على المجموعات الموالية للدبيبة بالعاصمة الليبية، أو أنها تحاول استنباط الموقف الخارجي من هذه الخطوة قبل المضي قدماً نحوها.
2- انقسام الولاءات المليشاوية: على الرغم من تمكن باشاغا من استقطاب ولاءات العديد من الميليشيات في غرب ليبيا، فإنه لاتزال هناك ميليشيات موالية للدبيبة، فيما أعلنت مجموعات أخرى وقوفها على الحياد، ناهيك عما تتسم به هذه التحالفات من الهشاشة وعدم الاستقرار، مع القابلية للتغير المستمر.
فعلى الرغم من الدعم الذي يحظى به باشاغا في مصراته، فإن هناك مجموعات أخرى داخل المدينة لاتزال تدين بالولاء للدبيبة، لعل أبرزها "قوة العمليات المشتركة"، وكذلك الحال بالنسبة للزاوية التي بات غالبيتها أقرب لدعم باشاغا، لكن لاتزال هناك مجموعات مواليه للدبيبة على غرار "قوة البحث الجنائي". وبينما تكاد تكون مدينتا الزنتان وورشفانة داعمتين بشكل شبه كامل لباشاغا، فإن الدبيبة يحظى أيضاً بدعم من قبل البلديات الأمازيغية بغرب ليبيا، وإن كانت قدراتها العسكرية محدودة، فيما تتبنى صرمان وزوارة وصبراتة موقفاً حيادياً بقيادة، صلاح النمروش.
وبالنسبة لطرابلس، تدين غالبية المجموعات المسلحة هناك، حتى الآن، إلى الدبيبة، على غرار "قوة حماية الدستور"، "وجهاز دعم الاستقرار" بوسط العاصمة، بالإضافة إلى كتيبة "فرسان جنزور" الواقعة في الضاحية الغربية لطرابلس، وكتيبة "رحبة الدروع" بالضاحية الشرقية في تاجوراء، غير أن باشاغا يحظى أيضاً بدعم من قبل بعض المجموعات، أبرزها "النواصي".
3- تحركات موازية للدبيبة: شهدت طرابلس، خلال الأيام الأخيرة، تحركات مكثفة من قبل الميليشيات الموالية للدبيبة، وذلك للتصدي لأي هجوم محتمل من قبل المجموعات التابعة لباشاغا، حيث أقامت ميليشيات الدبيبة بوابات أمنية في عدة ضواحي بالعاصمة، بالإضافة إلى انتشار مجموعات أخرى على حدود ترهونة لصد أي تحركات محتملة من مصراته. وأشارت بعض التقديرات إلى أن الميليشيات التابعة للدبيبة شرعت مؤخراً في إعادة نشر عناصرها داخل العاصمة، بما في ذلك المناطق المحيطة بمطار طرابلس.
4- انحياز أنقرة للدبيبة: اتسم الموقف التركي بحالة من الغموض إزاء الصراع الراهن بين باشاغا والدبيبة، غير أنه في الآونة الأخيرة، شرعت أنقرة في تبني موقف واضح، فقد أكد نائب رئيس جهاز المخابرات التركية، جمال تشاليك، في 19 أغسطس، أن "أمن مدينة طرابلس خط أحمر لا يمكن العبث به"، وأنهم سيتعاملون مع "أي طرف مهاجم بصفته عدواً"، في إشارة إلى رفض أنقرة تحركات باشاغا، وانحيازها في الصراع لصالح الدبيبة.
ارتدادات محتملة:
يمكن رصد عدد من الارتدادات التي يمكن أن تطرأ على المشهد خلال الفترة المقبلة على النحو التالي:
1- استمرار خطر المواجهات المسلحة: تبدو الظروف الراهنة في ليبيا مهيأة لعودة المواجهات المسلحة مرة أخرى، حتى أن بعض التقديرات لم تعد تتحدث عن إمكانية اشتعال الصراع من عدمه، لكنها باتت تناقش البؤرة المرجحة لحدوث المواجهات والشرارة التي ستدفع نحو اشتعال الصراع، في ظل استمرار التعبئة العسكرية في طرابلس، بالتوازي مع حالة الركود التي تسيطر على المسارين الدستوري والسياسي.
2- توافق محتمل على حكومة إنقاذ: رجحت بعض التقديرات وجود توافقات بين القوى الإقليمية الفاعلة في الملف الليبي بشأن تشكيل حكومة جديدة مصغرة لإدارة المرحلة المقبلة. واستندت هذه التقديرات إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، إلى القاهرة، بعد أيام من الزيارة التي قام بها الرجلان إلى تركيا، فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، في 18 أغسطس الجاري، التي ألمح خلالها إلى استعداد بلاده القيام بدور الوساطة بين الأطراف الليبية لمنع اندلاع حرب جديدة.
ويبدو أن هناك توافقات مصرية – تركية لمنع أي تصعيد عسكري جديد داخل ليبيا، والدفع لتشكيل حكومة جديدة تحقق التوافق، وتعد للانتخابات المقبلة، وإن كانت ملامح ذلك ليست واضحة بعد.
3- إشعال السلطة القضائية الصراع: أقرت الجمعية العمومية للمحكمة العليا في ليبيا، في 19 أغسطس الجاري، تفعيل الدائرة الدستورية بالمحكمة للنظر في الطعون والفصل فيها، بعد تعطل دام سبع سنوات، في خطوة أثارت انقسامات داخلية حادة، بين رأي اعتبرها خطوة تسهم في حماية المسار الدستوري من أي خروقات وتفعيل مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، وأنها ربما تسهم في حلحلة الانقسامات الراهنة. فيما اعتبرها البعض الآخر بأنها قد تزيد من حدة الصراع على السلطة، فضلاً عن احتمالية الدخول في صراع بين البرلمان والمحكمة العليا، خاصةً بعد إقدام الأول على تعديل قانون المحكمة العليا، وتعيين 45 مستشاراً جديداً في المحكمة، مما قد يدفع الأخيرة إلى إعادة النظر في قوانين الانتخابات التي كان مجلس النواب قد أصدرها، فضلاً عن القلق من احتمالية أن تقر المحكمة بعدم دستورية الأجسام السياسية الراهنة.
وتختص الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بالفصل في القضايا ذات الأبعاد الدستورية، والخلافات والطعون حول التشريعات والقرارات الصادرة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبالتالي فمن المتوقع أن تشهد الفترة المقبلة الكثير من الطعون من قبل مختلف الأجسام السياسية القائمة، فضلاً عن عودة الصدام السابق بين مجلس النواب والمحكمة العليا في تكرار لسيناريو عام 2014.
وربطت بعض التقديرات بين خطوة تفعيل الدائرة الدستورية وبين وجود محاولات للضغط على الأطراف الليبية المختلفة من أجل التوصل إلى توافقات تنهي الانقسام الراهن، كما أن هذه الخطوة ربما تأتي تمهيداً لاتخاذ إجراءات حاسمة بشأن الأجسام السياسية الحالية، مع إمكانية التخلص من بعضها خلال الفترة المقبلة، لاسيما في ظل الحديث عن احتمالات تكرار الاحتجاجات الشعبية المطالبة بإنهاء وجود الكيانات القائمة.
وفي الختام، تتزايد المخاوف الداخلية والخارجية من احتمالية اندلاع المواجهات المسلحة مرة أخرى في ليبيا، وهناك مؤشرات على وجود وساطة مصرية – تركية لتسوية الخلافات المتعلقة بالمسار الدستوري وتشكيل حكومة إنقاذ جديدة، وإن كان لايزال من المبكر الحديث عن خريطة طريق جديدة واضحة المعالم.