نشب توتر جديد بين الصين وتايوان، بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، لتايوان ومقابلتها مؤخراً عدداً من المسؤولين التايوانيين، حيث أثار الأمر غضب بكين، واعتبرته انتهاكاً لسيادتها على الجزيرة، وتصاعدت التكهنات أيضاً بشأن احتمال اتخاذ بكين إجراءات تصعيدية أخرى كمحاصرة تايوان أو غزوها، وهو ما يثير مخاوف عالمية بشأن اضطراب الاقتصاد التايواني والقطاعات الحيوية بالجزيرة، خاصة صناعة الرقائق الإلكترونية.
هيمنة عالمية:
تعتبر تايوان مركزاً عالمياً رئيسياً لصناعة الرقائق الإلكترونية، حيث تسيطر "شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة" (TSMC) على حصة سوقية عالمية بأكثر من النصف، الأمر الذي يأتي وسط نمو الطلب العالمي على السلع التكنولوجية، ويتضح ذلك كالتالي:
1- حصة مسيطرة: تعتبر الشركة التايوانية السابقة الأكبر في صناعة الرقائق الإلكترونية على المستوى العالمي، وتستحوذ على حوالي 53.6% من السوق خلال الربع الأول من عام 2022، وتورد منتجاتها إلى العديد من الشركات الكبرى عالمياً في صناعة السيارات، والأجهزة التكنولوجية والهواتف. وبلغت أرباح الشركة خلال عام 2021 نحو 11.4 مليار دولار.
2- نمو الطلب العالمي: ازدهرت أسواق أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية في ظل التوجهات العالمية نحو تبني التكنولوجيا الرقمية، ونمو الذكاء الاصطناعي، وانتشار ثقافة العمل عن بعد. وشهدت الرقائق الإلكترونية نمواً في حجم المبيعات بما يزيد على 20% لتصل إلى حوالي 600 مليار دولار في عام 2021، وفقاً لتقديرات شركة "ماكينزي".
مآلات الصراع:
اتخذت الصين إجراءات عقابية فورية ضد تايوان كرد فعل على زيارة بيلوسي للجزيرة. وعلى الرغم من ذلك، فمن المستبعد أن تؤثر التوترات المحدودة الحالية بين الصين وتايوان على الوضع الراهن لصناعة الرقائق الإلكترونية عالمياً، طالما أن الصين لم تلجأ لخيار استعادة الجزيرة عسكرياً، أو فرض حصار عليها، ويمكن تفصيل ذلك على النحو التالي:
1- تهديد ضئيل للمصانع: أرسلت الصين طائرات مقاتلة إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية، وقامت بإجراء مناورات عسكرية مكثفة وإطلاق صواريخ حول المنطقة البحرية لتايوان، من دون أن يؤثر ذلك بشكل فعلي على النشاط الاقتصادي، أو مصانع الرقائق الإلكترونية.
2- استبعاد العقوبات المباشرة: سارعت الصين إلى تطبيق قيود على تصدير بعض المنتجات التايوانية إلى السوق الصيني، وتتضمن هذه المنتجات السلع الزراعية والمواد الغذائية والأسماك والرمال الطبيعية. وعلى الرغم من ذلك، فإن العقوبات الصينية، استبعدت فرض عقوبات على الرقائق الإلكترونية بشكل مباشر. وجدير بالذكر، أن بكين تعتمد على الواردات التايوانية لتغطية 40% من احتياجاتها من الرقائق.
3- قيود على المواد الخام: فرضت بكين حظراً على تصدير الرمال الطبيعية إلى تايوان، والتي تدخل في صناعة الرقائق الإلكترونية، إذ تستهلك تايوان ما يقارب 90 مليون طن متري من الرمال سنوياً، ويأتي ثلثها من خلال الواردات الصينية. وسيزيد ذلك من أسعار توريد الرمال لتايوان من مصادر أخرى بعيدة جغرافياً عنها.
4- زيادة التكاليف: من المتوقع أن تساهم التوترات الحالية في رفع أسعار الرقائق الإلكترونية نتيجة زيادة تكاليف المواد الخام والنقل والتأمين على الشحن البحري للموانئ التايوان، خاصة إذا ما استمرت الأنشطة العسكرية الصينية قرابة تايوان.
وحتى قبل التوترات الأخيرة، كانت شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) تخطط لرفع الأسعار بحوالي 5 – 8% اعتباراً من العام المقبل 2023.
تبعات سيناريو الغزو:
تسيطر حالة من التباين على وجهات نظر المحللين بشأن احتمالية قيام الصين بغزو تايوان، تستبعد بعض التقديرات هذا السيناريو، باعتبار أن بكين لن تجر نفسها لحرب تؤثر سلباً على أوضاعها الاقتصادية الداخلية، بينما، تشير تقديرات أخرى إلى أن الصين قد تُقدم على قرار الغزو ولن تخشى العقوبات الغربية باعتبارها ستؤثر على اقتصادات الدول الغربية أيضاً وليس الاقتصاد الصيني فحسب؛ نظراً لقوة الاقتصاد الصيني واندماجه في الاقتصاد العالمي، وسيترك ذلك تداعيات خاصة على صناعة الرقائق الإلكترونية على النحو التالي:
1- تعطيل مصانع الرقائق الإلكترونية التايوانية: سيترتب على الغزو الصيني للجزيرة أو حتى محاصرتها بحراً وجواً تعطل واضح، ولو كان مؤقتاً، في أنشطة مصنعي الرقائق في تايوان، نتيجة تراجع تدفقات الطاقة، والمواد الخام والسلع الوسطية الأخرى. وقد حذر رئيس شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) من أن القوة العسكرية الصينية أو الغزو سيؤدي لتوقف مرافق الشركة عن العمل.
2- نقص الإمدادات العالمية: من المحتمل أن يؤدي تصاعد التوترات بين الصين وتايوان ونشوب حرب مباشرة بين الطرفين إلى أزمة كبيرة في سوق الرقائق الإلكترونية عالمياً، حيث ستتقلص إمدادات تايوان للاقتصاد العالمي والصناعات المختلفة من الرقائق الإلكترونية.
3- قفزة في أسعار الرقائق: سترتفع أسعار الرقائق بشكل كبير في الأسواق العالمية في حالة حدوث أي نقص محتمل في إنتاج الرقائق، مع الأخذ في الاعتبار أن بعض الشركات المصنعة للرقائق عالمياً تتوجه بالفعل نحو رفع الأسعار لتغطية ارتفاع تكاليف المواد والخدمات اللوجستية المتزايدة. وتشير تقديرات الخبراء إلى احتمالية ارتفاع أسعار الرقائق المستندة إلى العقود بمعدلات تتراوح بين 15 – 20%.
4- الإضرار بكثير من الصناعات: تأثرت حوالي 169 صناعة حول العالم، في السابق، بسبب نقص الرقائق عالمياً عقب جائحة كورونا، وفقاً لتقديرات "جولدمان ساكس"، حيث تستخدم الرقائق في عمليات تصنيع عدد كبير من المنتجات كالسيارات والهواتف الذكية وحتى الأسلحة المتطورة. وتتمثل أبرز الصناعات المتضررة في التالي:
أ- صناعة السيارات: تشكل الصناعة حوالي 8% من الطلب على أشباه الموصلات في عام 2021، ومن المرجح أن تمثل حوالي 13 – 15% من الطلب بحلول نهاية العقد الجاري. ومن المتوقع أن يؤدي النقص المحتمل في إنتاج الرقائق إلى تعطيل إنتاج السيارات لدى كثير من الشركات، مع ملاحظة أن بعض الشركات قد خفضت بالفعل من أحجام إنتاجها؛ نتيجة لنقص الرقائق، ومنها شركة "تويوتا"، والتي أعلنت عن خفض إنتاجها بنحو 100 ألف سيارة ليصل إلى حوالي 850 ألف سيارة شهرياً في المتوسط خلال الفترة من يونيو إلى أغسطس 2022.
ب- صناعة الاتصالات اللاسلكية: تأثرت صناعة الهواتف المحمولة بنقص الإمدادات العالمية من الرقائق في الفترة الأخيرة، إذ تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 90% من العلامات التجارية للهواتف الذكية قد تأثرت بسبب النقص العالمي في الرقائق.
وبالتالي، فإن حدوث أي نقص متوقع في الرقائق نتيجة للصراع بين الصين وتايوان قد يؤدي لتضرر عمليات إنتاج الهواتف وارتفاع أسعارها، ومنها الهواتف التي تصنعها شركة "آبل" (Apple) الأمريكية، والتي تعتمد بشكل كبير على الرقائق الإلكترونية المصنوعة في تايوان، حتى أن حوالي 26% من إيرادات شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) تأتي من شركة "آبل" الأمريكية وحدها.
خطوات غربية:
تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا تعزيز البنية الإنتاجية للرقائق الإلكترونية بأسواقها المحلية، وذلك على النحو التالي:
1- استثمارات تايوانية بالخارج: تعتزم شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC) بناء مصنع لها في ولاية أريزونا الأمريكية بتكلفة تصل لنحو 12 مليار دولار؛ بهدف تنويع طاقتها الإنتاجية من ناحية، واستجابة لطلب الولايات المتحدة بتصنيع بعض الرقائق محلياً من أجل استخدامات تتعلق بالأمن القومي من ناحية أخرى.
كذلك، أعلنت شركة "جلوبال ويفرز" التايوانية لتصنيع الرقائق عن تخطيطها لبناء مصنع بالولايات المتحدة، مما يسهم في تهدئة المخاوف بشأن تأثير الاعتماد الأمريكي على تايوان في هذه الصناعة على الأمن القومي الأمريكي.
2- تحالف الرقائق للدول الأربع (Chip 4): طرحت الولايات المتحدة الأمريكية مقترحاً لتعزيز الشراكات والتعاون بينها وبين كل من تايوان واليابان وكوريا الجنوبية في مجال الرقائق الإلكترونية، وهو ما اعتبرته بكين مؤامرة ضدها وتهدف إلى استبعادها من سوق أشباه الموصلات والرقائق.
3- حوافز أمريكية وأوروبية للشركات: مرر مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً قانون الرقائق الإلكترونية، ويقدم دعماً بحوالي 52 مليار دولار لتعزيز صناعة الرقائق في الولايات المتحدة الأمريكية، مع تخصيص حوالي 39 مليار دولار لبناء مصانع للرقائق بالأراضي الأمريكية. ويلزم هذا القانون الشركات المتلقية للتمويل بعدم زيادة إنتاجها من الرقائق المتقدّمة في الصين، ومن ثم يستهدف الحد من القدرات الصينية في هذه الصناعة.
وتشير بعض التقديرات إلى أن الإعانات التي سيقدمها هذا القانون للمصنعين قد تكون في شكل منح لا تزيد على 3 مليارات دولار، ومن ثم فهي غير كافية لتحفيز صانعي الرقائق على تحويل سلاسل التوريد الخاصة بهم. كما يحاول الاتحاد الأوروبي جذب الشركات التايوانية للاستثمار في دوله، ويخطط لاستثمار حوالي 30 مليار يورو؛ لرفع حصة القارة الأوروبية في سوق الرقائق العالمية لتبلغ 20% بحلول 2030.
وقد تسفر هذه الجهود والاستثمارات المزمعة عن نتائج ملموسة في الأجل المتوسط أو الطويل، ولكنها لن تمكن الاقتصادات الكبرى من تحقيق الاكتفاء الذاتي في صناعة الرقائق، أو بالأحرى حماية نفسها حال وجود اضطراب تلك الصناعة بتايوان على الأجل القصير، خاصة أن الشركات التايوانية لن تقوم بنقل التقنيات الخاصة بتصنيع الرقائق كافة إلى الخارج، فهي تدرك أن صناعة الرقائق تعد عنصر حماية لها في مواجهة التهديدات الصينية.
وفي الختام، يمكن القول إن أي اضطراب ستتعرض له صناعة الرقائق الإلكترونية في تايوان، سيكلف الاقتصاد الصيني ذاته والاقتصادات الكبرى خسائر فادحة تضاف إلى أعبائه الحالية الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، وهو ما يدعو البعض للتأكيد على استبعاد احتمالية مغامرة الصين بغزو تايوان. وعلى الرغم من ذلك، فإنه في كثير من الأحيان تتغلب الاعتبارات السياسية والأمنية على الاعتبارات الاقتصادية.