قُبيل شهور قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية في تركيا المقرر لها يونيو القادم، يسعى الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بعد وصوله إلى مقعد الرئاسة في أغسطس 2014، إلى استمرار سياساته ونهجه نحو مزيد من السلطوية والتفرد بالحكم.
وبالفعل قطع "أردوغان" وحزب العدالة والتنمية خلال الفترة الماضية خطوات كبيرة في هذا الاتجاه، من خلال إضعاف حكم القانون، والحد من استقلالية القضاء، والتستر على الفساد، والسيطرة على وسائل الإعلام والإنترنت، وإسكات المنتقدين والمعارضين والمحتجين، وغيرها من الإجراءات القمعية التي تكشف الوجه الحقيقي لأردوغان وحزبه الحاكم، وتعكس طموحاته للإمساك وحده بمفاصل الدولة، بعيداً عن أي مسارات ديمقراطية يدعيها.
تكريس السلطوية في تركيا
على الرغم من الصلاحيات النظرية والضيقة التي يحظى بها الرئيس التركي وفقاً للدستور، فإن "أردوغان" بعد وصوله إلى سدة الرئاسة أعلن مبكراً تمرده على هذه الاختصاصات، وكشف رغبته في إعادة رسم مشهد السلطة ليناسب طموحاته السياسية، فباعتباره رجل تركيا القوي لن يقبل بأقل من صلاحيات واسعة لهذا المنصب، يمكنه من خلالها الإمساك بمفاصل الدولة وإدارة شؤونها بشكل مباشر في السنوات الأربع المقبلة.
ونحو ترسيخ دعائم حكمه، وسع الرئيس التركي حربه على جماعة الداعية المعارض "فتح الله جولن"، فضلاً عن اعتقال إعلاميين بارزين. وبعد أن كانت "حملة زوار الفجر" محصورة في نطاق رجال الشرطة ونفر من أجهزة الاستخبارات المشكوك في ولائهم لأردوغان، تم توقيف مدير مجموعة "سمان يولو" الإعلامية "هداية كاراجا" بعد وصفه المشهد التركي الراهن بالمخزي، كما شملت الحملة أيضاً "أكرم دومانلي" رئيس تحرير صحيفة زمان.
وفي ذات السياق، برزت تجاوزات "أردوغان" وانحرافه بتركيا إلى السلطوية، في ظل عنف الشرطة المفرط ضد المتظاهرين الأكراد رداً على مجزرة عين العرب "كوباني" التي نفذها "داعش" بحق أكراد سوريا تحت سمع وبصر حكومة العدالة والتنمية من دون أن تحرك ساكناً، فضلاً عن غلق تويتر ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي، وفرض مزيد من القيود على المسرح وبيوت الفن والإبداع.
الصراع بين "أردوغان" والمؤسسة العسكرية
اتسعت الفجوة بين الجيش التركي الذي ظل لأكثر من سبعة عقود حامي العلمانية، و"أردوغان" القابض على حزب العدالة والتنمية، مع مطالبة رئيس الأركان الجنرال "نجدت أوزيل" لحكومة أوغلو باتخاذ تدابير عاجلة لمواجهة خطر التمرد الداخلي الكردي، ووقف مسار المفاوضات مع "أوجلان" ورفاقه في جبال قنديل. فبينما تنظر المؤسسة العسكرية لمنظمة حزب العمال الكردستاني باعتبارها كياناً مارقاً عن الدولة، يراهن "أردوغان" على إنجاز مصالحة تاريخية تُنهي ثلاثة عقود من الصراع مع الأقلية الكردية التي تمثل أكثر من 20% من مجموع السكان.
على صعيد متصل، دخلت الأجواء مرحلة التوتر بين "أردوغان" والمؤسسة العسكرية، بعد إيعاز الأول لحزبه طرح مسودة على البرلمان لتعديل قانون الأمن الداخلي، وتم بموجبه توسيع صلاحيات الشرطة في التوقيف والاعتقال، فضلاً عن انتزاع قوة "الدرك" من يد الجيش التركي، وربطها بالكامل بوزارة الداخلية التي ستكون مسؤولة عن التعيينات والترقيات وتوجيه هذه القوة العسكرية. ويهدف هذا التعديل إلى استخدام عناصر "الدرك" في العمليات السرية لأجهزة الاستخبارات، فيما يتعلق بالشأن السوري، من دون إطلاع الجيش على الأمر.
وعلى الرغم من أن قوة "الدرك" تعمل على الحدود وفي مناطق تخرج عن سيطرة الشرطة، فإن هذه الخطوة تأتي في سياق تقليص صلاحيات الجيش، وإمساك الحكومة وحدها بمفاصل المشهد على الحدود، خاصةً السورية والعراقية، حيث ينشط تنظيم "داعش" ورقة أنقرة الرابحة والضاغطة في العلاقة مع واشنطن، والباب الخلفي لإعادة تقسيم المنطقة وفقاً للمصالح التركية.
وتكشف الأزمة السورية عن عمق الهوة بين الجيش التركي و"أردوغان"، ففي الوقت الذي ألمح فيه الرئيس إلى سيناريو الاشتباك أو الصدام المباشر مع الأزمة السورية، رفضت المؤسسة العسكرية التدخل في أي عملية برية محتملة داخل الأراضي السورية، خشية سوء الأوضاع من جهة، ومن جهة ثانية لعدم ثقة الجنرالات في "أردوغان" الذي ربما يقدمهم كبش فداء حال فشلهم أو الاستثمار السياسي لمصلحته حال انتصارهم.
وبشيء من الإيجاز، يمكن القول إن سلوك "أردوغان" باتجاه تعزيز قبضته على المشهد قد ساهم في إشعال جذوة الصراع مع المؤسسة العسكرية، خاصةً بعد إعادة صياغة المادة 35 في قانون عمل الجيش الذي صدر بعد انقلاب عام 1960، وهي تنص على أنه من واجب الجيش "صيانة الجمهورية التركية وحمايتها"، وحددت الصياغة مجال تدخل القوات المسلحة بـ"الدفاع عن المواطنين الأتراك ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج والردع الفاعل والمشاركة في العمليات الخارجية التي يقرها البرلمان".
الطريق إلى الحكم المُطلق
نظراً لأن طموح الرئيس التركي "أردوغان" لا يعرف حدوداً، فقد قرر أن يقود الحملة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو المقبل، وذلك لضمان إنجاز الأغلبية العددية وتسهيل فرص تحول نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي تضمن له صلاحيات واسعة.
وفي هذا السياق، يدور حديث داخل كواليس الحزب عن دفع الرئيس "أردوغان" بمقربين منه للترشح في الانتخابات النيابية، ومن بينهم رئيس الاستخبارات "هاكان فيدان" وابنته سمية التي تعمل مستشارة له منذ سنوات، ويحرص على تصديرها في المشهد العام أو على الأقل ضمن مكوناته.
كما أن جهود "أردوغان" لتمرير النظام الرئاسي، لم تمنعه من مخالفة الدستور الذي ينص على وجوب أن يكون الرئيس مُحايداً ولا علاقة له بأي حزب، وألا يشارك في أي حملة انتخابية، ناهيك عن دعمه حملة "التخوين" التي يقودها النائب المستجد في حزب العدالة والتنمية "شامل طيار" والمقرب منه، ضد من أسماهم "النواب الخونة" في الحزب الذين صوتوا في البرلمان نهاية يناير الماضي لمصلحة محاكمة 4 وزراء سابقين طالتهم فضيحة الفساد التي كُشف النقاب عنها في 17 ديسمبر 2013، مخالفين بذلك تعليمات الرئيس.
السيطرة على القضاء
تتكامل عمليات الاعتقال واحتكار السلطة في تركيا بإمساك "أردوغان" مفاصل الجهاز القضائي، وهو ما كشفته انتخابات الهيئة العليا للقضاء في أكتوبر 2014، وفوز اللائحة التي دعمتها حكومة "أوغلو"، إلى جانب تشويه الصورة الذهنية لشيوخ القضاء، وفي مقدمتهم "هاشم كيليش" رئيس المحكمة الدستورية الذي وصفه أردوغان "بالخائن" بعد تذكيره الرئيس بوعده خفض العتبة الانتخابية المقدرة بـ10% أمام الأحزاب لدخول البرلمان، والذي أدرجه أردوغان في برنامج حزبه عام 2002.
وبعدما كان "أردوغان" يصف "العتبة البرلمانية" بغير الديمقراطية، فإنه بات يعتبر محاولة إلغائها "خيانة"، لعلمه أن ذلك يضع حداً لتفرد حزبه بالسلطة وعودة عهد الحكومات الائتلافية، ويقضي أيضاً على حلمه بالسيطرة على ثلثي مقاعد البرلمان في الانتخابات المقبلة، من أجل تعديل الدستور وتحويل النظام رئاسياً.
دعائم "أردوغان" نحو السلطوية
إن كل سلوكيات "أردوغان" الخشنة التي تنحو للسلطوية، سواء تجاه معارضيه، وحتى أصدقائه المقربين، والسعي للإمساك بمفاصل الدولة، لا تمنع أنه يحظى حتى الآن بشعبية بين قطاعات واسعة من الأتراك، وهو ما يجعله يقترب بخطى ثابتة نحو ترسيخ حكمه السلطوي بأريحية نسبياً، نظراً لعدد من الأسباب، أولها قطع خطوات جيدة على صعيد إنهاء القضية الكردية التي راح ضحيتها نحو 45 ألف قتيل، وهي الأزمة التي طالما أزعجت أنقرة، وزادتها لسنوات انغماساً في همها الداخلي.
وثانيها، الطفرة الاقتصادية التي حققها "أردوغان" طوال السنوات الماضية، فعلى الرغم من تباطؤ معدلات النمو وارتفاع منسوب البطالة بعد خسارة تركيا قطاعاً من الأسواق العربية بعد اندلاع الاحتجاجات العربية وارتفاع حدة التوتر مع الاتحاد الأوروبي، فإن اقتصاد أنقرة يواصل انتعاشه حتى اليوم.
ويرتبط السبب الثالث بعزف "أردوغان" على أمجاد الماضي العثماني، وتسخين المشاعر الدينية وسط مجتمع يميل أكثر من نصفه إلى المحافظة، ولذلك عمل "أردوغان" طوال الفترة الماضية على تعظيم الرموز التاريخية والمناسك الدينية، فعلى سبيل المثال تم إقرار تدريس اللغة العثمانية في المدارس التركية، بالإضافة إلى ارتفاع موازنة رئاسة الشؤون الدينية التي تتجاوز 5.5 بليون ليرة تركية (نحو 2 مليار دولار)، وهي تمثّل نحو ضعف موازنة وزارة الصحة، وتعادل تقريباً مجموع موازنات 7 وزارات، بينها البحث العلمي والاقتصاد والتنمية.
وجدير بالذكر أن رئاسة الشؤون الدينية أنشئت عام 1924 عندما أراد "مصطفى أتاتورك" فرض سيطرة الدولة على الخطاب الديني، وحصر نشاط الجماعات الدينية، واستخدمها العسكريون بعد ذلك في خدمة الغرب أثناء الحرب الباردة.
وعلى الرغم من الهجوم الشرس طوال العقود الماضية على رئاسة الشؤون الدينية من قِبل أنصار الأحزاب الإسلامية، فإن "أردوغان" نجح في توظيفها لخدمة مصالحه السياسية، فعمل على دعمها مالياً وسياسياً، وترقية المقربين داخلها، لتستوعب عدداً ضخماً من خرّيجي المدارس والكليات الدينية التي زاد عددها في عهد الحزب، إذ يتخرّج سنوياً في تركيا حوالي 60 ألف إمام.
بالإضافة إلى كل ما سبق، يراهن "أردوغان" في نهجه السلطوي على استمرار ضائقة المعارضة في الشارع التركي، فعلى الرغم من جهودها المتواصلة لملاحقة نخب الحكم وعائلاتهم بتهم فساد ومحاولات تشويه الصورة الذهنية لأردوغان، فإنها لم تستطع اختراق القواعد الفقيرة والمهمشة لحزب العدالة والتنمية. ويعود فتور المعارضة التركي بالأساس إلى غياب الاشتباك مع قضايا الواقع التركي، وضعف التنسيق فيما بينها، فضلاً عن استمرار التخندق خلف هويتها الأيديولوجية والتحصن وراء نسق القيم والأفكار على حساب البنية التحتية التي تتعلق بالآثار الاقتصادية والاجتماعية.
مجمل القول، إن "أردوغان" مستمر نحو ترسيخ حكمه الفردي، وقد نجح في تطويع أنصاره لهذا التوجه، وعلى الرغم من أن ثمة معوقات أبرزها معضلة التحول إلى النظام الرئاسي، وحالة الاحتقان وسط أعضاء حزب العدالة والتنمية، والانتقادات الغربية لسلوك "أردوغان" السلطوي، فإن ضعف المعارضة وشتاتها، فضلاً عن رهان "أردوغان" على المسحة الدينية قد تنجح في تمرير مشروعه السلطوي، لكن تبقى فرص استمراريته مشكوكاً فيها.