تؤشر تطورات الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية في الآونة الأخيرة إلى أن ثمة تغيرات قد طرأت على طبوغرافيا القوى العسكرية في المنطقة، لاسيما ما يخص القدرات التسليحية لواحدة من أهم المؤسسات العسكرية العربية، أي الجيش المصري الذي يعد الأقوى عربياً طبقاً لتنصيف موقع جلوبال فاير Global Fire and Safety لعام 2014، وثاني أقوى الجيوش في الشرق الأوسط، والمصنف رقم 13 عالمياً طبقاً للموقع ذاته.
هناك العديد من الوقائع التي تحمل دلالات مهمة في هذا السياق؛ مثل العمليات العسكرية المتتالية التي يقوم بها الجيش المصري في مواجهة الجماعات المتطرفة في سيناء، إلى جانب الضربة الجوية العسكرية التي شنتها مصر ضد معاقل تنظيم "داعش" الإرهابي في ليبيا رداً على ذبح 21 مصرياً على أيدي مسلحي التنظيم، فضلا عن دعوة القاهرة إلى تكوين قوة عسكرية عربية موحدة سريعة التجهيز لمواجهة الإرهاب.
وفي واقع الأمر، فإن الحديث عن التغيرات في تسليح الجيش المصري قد بدأ في التبلور على خلفية ثورة 30 يونيو 2013، وما ترتب عليها من تحولات في منظومة علاقات مصر الخارجية، انسحبت بدورها على الأبعاد العسكرية؛ الأمر الذي يطرح العديد من التساؤلات حول توقيت هذه التغيرات في القدرات التسليحية للجيش المصري ومبرراتها، فضلا عن أهم ملامحها ودلالاتها.
التوقيت.. الحاجة لتنويع مصادر السلاح
تعتمد برامج التسلح المصري بشكل شبه كامل على التسليح الأمريكي عقب الإحلال والتجديد الذي تم في العقود الثلاثة الأخيرة (التي أعقبت اتفاقية السلام مع إسرائيل)، فالأسطول الجوي المصري يتكون أغلبه من طائرات أمريكية الصنع، كما يعتمد الجيش المصري على مساعدات عسكرية أمريكية سنوية تقدر بمبلغ 1.3 مليار دولاراً سنوياً، وأبرمت مصر عدة صفقات أخيرة مع الولايات المتحدة لشراء الطائرات الهجومية "أباتشي" التي تسلمتها مصر بالفعل وشاركت في عمليات بسيناء.
تذهب غالبية التحليلات إلى الدفع بأن الجهود المصرية الجدية في هذا السياق ظهرت إثر توتر العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر، فقد استنكرت واشنطن الإطاحة بـ“محمد مرسي” في 3 يوليو 2013، كما تدهورت العلاقات المصرية - الأمريكية بشكل واضح في أعقاب فض اعتصام أنصار الإخوان بميداني رابعة العدوية ونهضة مصر في 14 أغسطس من العام ذاته، حيث جمدت أمريكا مؤقتاً ما يعادل 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية السنوية التي تقدمها أمريكا للجيش المصري، من دبابات ومروحيات وصواريخ وطائرات مقاتلة.
وقد عززت هذه الخطوة من قبل الإدارة الأمريكية مواقف الأصوات التي تنادي بضرورة تعزيز الترسانة العسكرية المصرية عبر تنويع مصادر التسليح بهدف إيجاد نوع من الترتيب للطوارئ، بحيث لا يترك الأمر كلياً لضغوط واشنطن، لاسيما أن مصر تواجه تهديدات أمنية من جهات متعددة؛ ففي شبه جزيرة سيناء، يقوم المتطرفون "الجهاديون" بهجمات ضد المنشآت العسكرية والنفطية. ومع سقوط ليبيا في الفوضى باتت الحدود الغربية لمصر مهددة حيث سيطرة الميليشيات المسلحة على ليبيا.
الملامح.. إحياء شراكات قديمة وفتح آفاق جديدة
يمكن تلمس أبرز ملامح التغير في المنظومة التسليحية المصرية خلال الفترة الماضية عبر عدد من التوجهات، من أبرزها:
1 ـ إحياء الشراكة القديمة مع روسيا:
طرحت موسكو نفسها كأنسب بديل لمصر لتنويع مصادر التسليح في الفترة الراهنة، وهو ما بدا متوافقاً مع توجهات القيادة المصرية في تلك اللحظة، فظهرت عد أحداث 30 يونيو العديد من التقارير التي تتنبأ بتوقيع صفقات أسلحة روسية لمصر بنحو أربعة مليارات دولار.
وفي سبتمبر 2014، تم الإعلان عن صفقة وقعت بالأحرف الأولى بين مصر وروسيا لتزويد الأولى بأسلحة دفاعية بقيمة 3.5 مليارات دولار، وذكرت وسائل إعلام حكومية روسية، أن "الصفقة تتضمن مجموعة من الأنظمة الصاروخية الخاصة بالدفاع الجوي وتحديداً منظومات إس ـ 300، إضافة إلى مختلف أصناف المدفعية".
وقد ظهرت العديد من التوقعات تشير إلى أنه قد يعقب شراء منظومات "إس ـ 300" توقيع عقود أخرى مع مصر لتوريد مقاتلات "ميج 29 إم" و" ميج 29 إم 2"، ومنظومات " تور" و" بانتسير" للدفاع الجوي، ومنظومات "كورنيت" المضادة للدبابات، وكذلك مروحيات "مي 17" و" مي 35". وهذا ما تأكد خلال زيارة وزير الدفاع المصري، صدقي صبحي، في نهاية فبراير الماضي، إلى موسكو لإتمام صفقة الطائرات ميج 35، فضلا عن زيادة أوجه التعاون في نقل وتبادل الخبرات والتدريب العسكري.
2 ـ فتح آفاق جديدة مع شركاء جدد:
في إطار سعي مصر للدخول إلى أسواق جديدة لشراء الأسلحة، توقع البعض أن تكون ألمانيا مصدراً مهماً لتنويع السلاح المصري، بيد أن تطورات الأحداث خلال الفترة السابقة أبرزت دوراً أكبر لدولتي الصين وفرنسا؛ إذ أكد كثيرون أن الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للصين في ديسمبر 2014 هدفت لوضع الأساس للتعاون العسكري بين الجانبين. وبرغم تحفظ البلدين عن الإعلان بصورة صريحة عن أي صفقات جديدة، يلفت المراقبون الانتباه إلى كثافة الزيارات العسكرية رفيعة المستوى خاصة في مجالات التصنيع المشترك والتدريب المهني؛ إذ قام وفد عسكري مصري رفيع المستوى بزيارة إلى الصين سبقت زيارة السيسي، كما أن رئيس هيئة الأركان الصيني "هو شو سن" زار القاهرة أواخر مايو الماضي.
تجدر الإشارة إلى أن التعاون العسكري بين الجانبين يدور في مجالات الدفاع الجوي من رادارات وأنظمة صاروخية وطائرات، حيث تسعى مصر للحصول على نسخ مطورة من الصواريخ المضادة للطائرات، وأسلحة أخرى يتم وضعها على المروحيات القتالية، فضلا عن المقاتلة "جيان إف- 10 إي"، إضافة إلى دفع التعاون في مجالي التصنيع المشترك والتدريب.
أما فيما يخص فرنسا، فقد جاءت التطورات سريعة؛ إذ وقعت مصر وفرنسا رسمياً في منتصف فبراير الماضي 2015، اتفاقيات تعاون عسكري، تقضي بشراء القاهرة أسلحة متطورة من باريس، تضم فرقاطة متعددة المهام من طراز “فريم” وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى من طراز “ام بي دي ايه”، فضلا عن 24 طائرة “رافال”، وهي طائرة مقاتلة متعددة المهام من الجيل “الرابع والنصف” تتمتع بإمكانيات متطورة، إذ يمكنها حمل صواريخ اعتراضية مضادة للطائرات وصواريخ لضرب الأهداف الأرضية، وحمل أسلحة نووية، كما أنها مزودة برادار ”أر بي إي ـ 2” الذي يستطيع متابعة ثمانية أهداف في وقت واحد.
3 ـ التوجه نحو التعاون مع الدول العربية
يبدو أن التقارب الخليجي مع مصر عقب ثورة 30 يونيو، والذي انعكس بشكل جلي على الصعيدين السياسي والاقتصادي قد امتد للمجال الدفاعي، وهو ما اتضح عبر التصريحات المتبادلة لقيادات دول الخليج ومصر حول أهمية التعاون لضمان الأمن القومي العربي والاستعداد لتقديم الدعم لبعضهم البعض في هذا الصدد.
وتبلور هذا التقارب الخليجي- المصري على الصعيد العسكري بشكل رئيسي مع التدريبات والمناورات المشتركة بين القاهرة وبعض دول الخليج، فمن ناحية أولى انضمت مصر في أبريل 2014 إلى مناورات الربط الأساسي، وهي مناورات جوية مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأربع دول بالخليج العربي، هي: السعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين. وتشمل هذه المناورات تدريبات وأنشطة متعددة تهدف إلى رفع معدلات الكفاءة الفنية والقتالية للعناصر المشاركة في ما يتعلق بالموضوعات العامة والتخصصية والتخطيط المشترك خلال التدريب وصقل المهارات وتبادل الخبرات.
من ناحية أخرى، شهد فبراير 2014 إجراء مناورات مشتركة بين القوات المسلحة الإماراتية والمصرية على الأراضي الإماراتية عرفت باسم (زايد 1)، شملت أحدث نظم التدريب العسكري المتقدم والنظريات القتالية في مختلف صنوف التدريب والأسلحة الحديثة المتطورة. فيما شهد فبراير المنصرم 2015 إجراء مناورات عسكرية مصرية ـ سعودية في البحر الأحمر سميت (مرجان 15)، بمشاركة القوات الخاصة، واستخدام قطع بحرية وطائرات استكشاف ومكافحة الغواصات، بهدف تأمين المياه الإقليمية وحركة النقل البحري والأهداف الاقتصادية في البحر الأحمر وعلى الساحل، فضلا عن البحث عن الغواصات ورصد وتتبع الأهداف الجوية المعادية وتدميرها.
الدلالات.. العوامل السياسية تفرض بصمتها
يمكن من خلال استقراء توقيت وملامح التغيرات في القدرات التسليحية المصرية خلال الفترة الماضية الخروج باستنتاج رئيسي فيما يخص دلالات هذه التغييرات، وهو سيطرة العوامل السياسية التي تشكل العامل المركزي في تشكل هذه التغييرات؛ إذ إن اتجاه مصر نحو تنويع مصادر سلاحها سيخفف من تأثير الولايات المتحدة على مواقف القاهرة الرسمية تجاه مسائل إقليمية ودولية عدة، ويعطي القاهرة فرصة أكبر في المناورة السياسية.
كما أن نوعية الأسلحة التي تحصلت عليها مصر مؤخراً ترتبط كذلك بالتحديات السياسية والاستراتيجية التي تواجهها، وهذا ما يبرز في طبيعة الأسلحة التي حصلت عليها القاهرة من موسكو، إذ يرى الخبراء العسكريون أنه يمكن لمنظومات "إس ـ 300" أن تساعد دفاعياً في حالة افتراضية هي هجوم سلاح طيران إثيوبيا وحلفائها على سد أسوان، كما أن طائرات "مي 35" الهجومية تستطيع أن تصبح وسيلة فعالة في الحرب ضد المقاتلين الإسلاميين في شبه جزيرة سيناء وفي غيرها.
ويبرز تأثير العوامل السياسية مرة أخرى فيما يخص التدريبات المصرية ـ السعودية المشتركة (مرجان 15)، والتي أتت على خلفية تطورات الأوضاع في اليمن مع سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء والعديد من الأراضي في محافظات اليمن المختلفة، وبالتالي زادت تخوفات كل من مصر والسعودية من احتمالية الزحف الحوثي الذي قد يصل إلى الموانئ المصرية والسعودية وإمكانية استيلائهم على “مضيق باب “المندب” الذي يعد ممراً استراتيجياً لحركة النقل البحري للبلدين.
بيد أن أبرز تأثيرات العوامل السياسية في هذا الصدد جاءت مع صفقة الطائرات الفرنسية "رافال" إلى مصر، والتي يرى مراقبون أن العوامل السياسية المرجحة لهذه الصفقة تأتي على حساب المتغيرات الاقتصادية والاستراتيجية. فعلى الرغم من السعر غير التنافسي لهذه الطائرات، والذي أدى لرفض عدد من الدول كالبرازيل والهند والإمارات شرائها، فإن مصر وافقت على شرائها رغم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها.
يذكر أن قيمة صفقة طائرات "رافال" تتراوح بين 5 و6 مليارات يورو، تمول بقرض من باريس للقاهرة حسبما أعلن الرئيس المصري؛ وهو ما يؤكد التفسيرات التي ترى أن الصفقة تحكمت فيها عدد من العوامل أبرزها رغبة مصر في تأييد فرنسا لموقفها من الأزمة الليبية، وحاجة القاهرة لتحقيق توازن معقول مع إسرائيل فيما يتعلق بقدرات سلاح الجو، خاصة بعد إعلان واشنطن تزويد إسرائيل بطائرات إف 35، وهي أحدث طائرات في سلاح الجو الأمريكي.