شهد العراق على مدار الأيام الماضية تطورين على درجة كبيرة من الأهمية، وهما ظهور عدة تسريبات لرئيس الحكومة العراقية الأسبق وزعيم ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، في 13 و16 يوليو، والذي هاجم فيها عدة أطراف، بدءاً من مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، وصولاً إلى الحشد الشعبي وانتهاءً بالقوى السياسية العراقية، بالإضافة إلى حدوث تظاهرات من قبل أنصار التيار الصدري في 15 يوليو.
قراءة في التسريبات:
يمكن توضيح أبعاد التسريبات المنسوبة للمالكي، وأبزر المواقف الصادرة حيالها على النحو التالي:
1- فضح صحفي عراقي التسريبات: قام الصحفي علي فاضل، وهو رئيس المنظمة الأمريكية – العراقية لمكافحة الفساد بنشر التسريبات المنسوبة للمالكي. ويلاحظ أن فاضل هو ناشط سياسي غير محسوب على القوى السياسية الشيعية، ومقيم في الولايات المتحدة. كما أعلن فاضل أن لدية العديد من التسجيلات سوف يقوم بنشرها خلال الأيام القادمة.
وتثير تلك التسريبات العديد من التساؤلات حول كيفية تسجيلها لاجتماع دار بين نوري المالكي وبعض المقربين له داخل الإطار التنسيقي ولمدة ساعة كاملة، وهل تم التسجيل من خلال جهاز تنصت تم وضعه في مكان الاجتماع من قبل أجهزة الاستخبارات العراقية، أو أي جهاز أمني آخر، أم أنه تم تسجيله من خلال هاتف أحد الحاضرين، ثم تم إرساله إلى فاضل.
2- هجوم طائفي ضد "خصوم الشيعة": يلاحظ أن الخطاب الذي اتبعه المالكي كان طائفياً، إذ إنه هاجم خصومه السياسيين كافة بالارتكان لمنطلقات طائفية، فقد اعتبر مقتدى الصدر "قاتلاً" و"جاهلاً"، وأنه يقود مشروعاً بريطانياً لإنهاء التشيع في العراق.
وشن المالكي هجوماً كذلك في التسريبات على غالبية القيادات السنية، واصفاً إياهم بالحاقدين عليه وعلى الدولة العراقية ومؤسساتها. كما اتهم رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، بأنه سعى إلى ضرب الشيعة، عبر احتضان النازحين من السنة، وكذلك قياداتهم، مؤكداً أن بارزاني، سعى من وراء ذلك لتدشين زعامة مذهبية لسنة العراق مع ضم مقتدى الصدر لذلك المحور كممثل وحيد عن الشيعة.
واستمراراً لهذه المواقف الطائفية، دعا المالكي إلى منع وجود أي تحالف بين التيار الصدري مع القوى السنية والكردية، حيث أشار "إذا استطعنا أن نسقط توجهات مقتدى والحلبوسي والبارزاني، إذا أسقطنا مشروعهم نجح العراق، وإن لم نستطع فالبلد تسير نحو الدائرة الحمراء، وأنتم يجب عليكم أن تستعدوا".
ولم يكتف المالكي بمهاجمة خصومه طائفياً، بل كشفت التسريبات عن مساعيه لتسليح نحو 15 مجموعة، ليكونوا مستعدين للمرحلة القادمة، إذا تطلب الأمر التدخل، في مؤشر على إعداده لمواجهات مسلحة ضد أنصار التيار الصدري، بالإضافة إلى مهاجمته لفصائل الحشد الشعبي، واتهامها بالجبن، وهو ما قد يكون مرتبطاً برفضهم مناصرته. كما أكد المالكي في هذه التسريبات أنه أراد "جعل الحشد الشعبي مشابهاً للحرس الثوري الإيراني"، في محاولة لاسترضاء إيران على ما يبدو.
3- انتقاد الصدر المالكي: شن الصدر هجوماً على المالكي، إذ طالب باستنكار ما ورد في هذه التسريبات، سواء من قبل قيادات الكتل المتحالفة معه ضمن الإطار التنسيقي، أو من عشيرته، كما نصح الصدر المالكي باعتزال العمل السياسي. ويبدو أن الصدر يهدف من ذلك الهجوم إلى إثبات صحة تسجيلات المالكي، وهو ما سوف يمكن الصدر من إبعاد أحد خصومه عن تولي رئاسة العراق.
4- تزامن التسريبات مع تظاهرات الصدر: جاء التسريب الصوتي الأول لنوري المالكي قبل يومين من موعد صلاة الجمعة الموحدة التي دعا إليها التيار الصدري في 15 يوليو الماضي، والتي شهدت مشاركة عشرات الآلاف من أنصار الصدر، وتزامنت مع الذكرى الرابعة والعشرين لأول صلاة جمعة أقامها والده، آية الله محمد محمد صادق الصدر.
ووضع الصدر خلالها عدة شروط للموافقة على تشكيل أي حكومة جديدة، ومنها الالتزام بإخراج ما تبقى من القوات الأجنبية، ومحاسبة الفاسدين، وحصر السلاح بيد الدولة، وحل الفصائل المسلحة، وإعادة تنظيم الحشد الشعبي، والتحذير من إعادة تشكيل الحكومة من قبل أشخاص تمت تجربتهم سابقاً، في إشارة إلى المالكي.
ويلاحظ أن هذه التظاهرات هدف من خلالها إما إجهاض تشكيل الحكومة العراقية، وذلك عبر فرض مطالب تبدو، في بعض جوانبها، تعجيزية، أو سعى من خلالها إلى التأكيد على استمراره كطرف مؤثر في العملية السياسية من خلف الستار، وذلك من خلال الضغط على التنسيقي لاختيار رئيس للوزراء غير معادٍ له، فضلاً عن الحفاظ على حصة الصدر في الحكومة القادمة، سواء في المناصب الوزارية، أو في الوظائف الحكومية.
تراجع حظوظ المالكي:
يمكن استعرض عدد من الانعكاسات لتسريبات المالكي، وذلك على النحو التالي:
1- إضعاف فرص المالكي: يبدو أن الهدف من هذه التسريبات هو إضعاف فرص نوري المالكي في الترشح لرئاسة الوزراء، خاصة أنه هاجم قيادات الحشد الشعبي، إلى جانب مقتدى الصدر، بالإضافة إلى وجود تكهنات بأن التسريبات القادمة ستطال رجال الدين في النجف، وهو ما سوف يمثل خصماً من شعبية المالكي في الشارع العراقي، كما أنه سوف يعزز المرشحين الآخرين لرئاسة الوزراء داخل الإطار التنسيقي، والذي بلغ عددهم حوالي عشرة مرشحين.
ومن جهة أخرى، فإن التسريبات كشفت عن تبنيه لسياسات طائفية ضد جميع القوى السياسية من السنة والأكراد، وهو ما يجعل من الصعب عليهم القبول به، خاصة أنه عمد في السابق إلى تقديم تعهدات للسنة والأكراد للفوز برئاسة الحكومة العراقية في 2010، ثم ما لبث أن نكص عنها، بل وسعى لإقصاء القيادات السنية عبر اتهامها بدعم الإرهاب، فضلاً عن فرض حصار مالي على إقليم كردستان العراق. ولاشك أن هذه التسريبات تؤكد أن المالكي لا يزال يتبنى سياسات طائفية، وهو ما سوف يعقد أي مفاوضات له قادمة مع السنة والأكراد لتشكيل الحكومة العراقية القادمة، في حالة نجاحه في الفوز بترشيح التنسيقي.
وما يؤكد ذلك الاستنتاج أن التسريبات جاءت متزامنة مع عقد رئيس البرلمان محمد الحلبوسي اجتماعاً داخل مبني البرلمان مع رؤساء الكتل النيابية لتحديد موعد انتخاب رئيس الجمهورية حيث تم تحديد اجتماع آخر لرؤساء الكتل النيابية يوم الخميس الموافق 21 يوليو لبحث ما توصَلت إليه القوى الكردية بهذا الصدد، وصولاً إلى اختيار رئيس الحكومة المقبلة مع بداية الفصل التشريعي الجديد للبرلمان.
2- اتساع هوة الخلافات الشيعية: يلاحظ أن انتقاد المالكي لبعض القيادات في الحشد الشعبي قد توسع مساحات الخلاف بينه وبين ميليشيات الحشد الشعبي، وكذلك بينه وبين القوى الأخرى المنضوية داخل التنسيقي. فقد تعرضت بعض مقرات حزب الدعوة، التي يشغل المالكي فيها منصب الأمين العام، لهجمات مسلحة في البصرة وكربلاء والنجف، كما أظهرت بعض الصور ومقاطع فيديو تم نشرها إغلاق مقر حزب الدعوة في الزعفرانية جنوبي بغداد، مع كتابة عبارة "مغلق باسم الحشد".
ومن جهة أخرى، سرت تكهنات بإمكانية انسحاب عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة، وحيدر العبادي، زعيم النصر من الإطار التنسيقي الشيعي، وهو ما ينذر بتراجع تماسك التنسيقي، بما ينذر في النهاية بانهياره.
3- تراجع محتمل للدعم الإيراني: تدرك إيران الداعم الرئيسي للتنسيقي أهمية أن يكون رئيس الحكومة المقبل مقبولاً دولياً وداخلياً، لاسيما من التيار الصدري حتى لا يتم تحريك الشارع ضده، خاصة بعد تظاهرات الصدر الأخيرة. ومن جهة أخرى، فإنه من الصعب الترويج للمالكي باعتباره شخصية مقبولة خارجياً، وهو يتبنى أجندة طائفية تهدف إلى إقصاء السنّة والأكراد.
4- استمرار الخلافات الكردية: لايزال الخلاف الكردي قائماً حول منصب رئاسة الجمهورية، مع إخفاق عدة وساطات وكانت آخرها إيرانية، ومحاولة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، للتوفيق بين الحزبين الكرديين الرئيسيين للتوصل إلى مرشح تسوية للمنصب، وهي جملة من العوامل التي قد تزيد من تأزم المشهد الراهن.
5- تصعيد قضائي محتمل ضد المالكي: تفتح تلك التسريبات المجال أمام بعض القوى السياسية، لاسيما من القوى المدنية، للجوء إلى القضاء والادعاء العام لفتح تحقيق موسع بشأن ما جاء فيها من تهديد للأمن وتحريض على الاقتتال، وهو ما سيؤثر سلباً على المستقبل السياسي للمالكي.
وفي الختام، يكشف ما سبق استمرار تأزم المشهد السياسي العراقي، وفشل تشكيل حكومة جديدة على الرغم من مرور تسعة شهور على إجراء الانتخابات، غير أن التسريبات الأخيرة قد تدفع لتجاوز المالكي لرئاسة الوزراء، والبحث عن مرشح آخر يكون مقبولاً داخلياً، خاصة من التيار الصدري، وكذلك إقليمياً ودولياً، لاسيما مع إدراك مختلف التيارات والأجنحة السياسية أن نوري المالكي يمثل عبئاً في ضوء التسريبات الأخيرة له.