أعلنت الحكومة المالية، في 20 يونيو 2022، مقتل نحو 132 مدنياً في هجوم إرهابي استهدف وسط البلاد، في أحد أكثر الهجمات دموية في البلاد، وهو ثاني هجوم إرهابي تشهده باماكو خلال الأسبوع الأخير، وجاء ذلك التطور بالتزامن مع انسحاب القوات الفرنسية من ميناكا بشمال شرق مالي.
تصعيد إرهابي حاد:
تشهد مالي منذ مطلع 2022 تصاعداً كبيراً في وتيرة الهجمات الإرهابية، والتي بلغت ذروتها في يونيو، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- هجوم حاد بالقرب من بانكاس: أصدرت الحكومة المالية بياناً، في 20 يونيو الجاري، أعلنت خلاله مقتل نحو 132 مدنياً، في ثلاث قرى، هي دياللاساغو وديوالي وديساغو، في بلدة بانكاس، بمنطقة موبتي، وسط مالي، فيما رجحت بعض المصادر المحلية الأخرى أن عدد القتلى يتخطى العدد المعلن بكثير، وربما يصل إلى حوالي 200 قتيل، وفقاً لبعض المصادر.
واتهمت باماكو كتيبة ماسينا بزعامة أمادو كوفا، والتابعة لتنظيم القاعدة، بالتورط في الهجوم، وهو ما لم ينفه الأخير، فقد أصدر كوفا، بياناً، في 23 يونيو، اعتبر فيه الهجوم رداً على قيام قوات الجيش المالي المدعوم من عناصر فاجنر الروسية بارتكاب انتهاكات كبيرة ضد المدنيين في قرية مورا نهاية مارس 2022، واستهداف العناصر التابعة لكتيبة ماسينا في هذه المنطقة. وتوعد الجيش المالي، في 23 يونيو الجاري، بإطلاق ضربات جوية موسعة ضد الحركة بوسط البلاد.
2- تجدد العنف بشمال مالي: عادت التوترات الأمنية للتصاعد في شمال مالي، فقد أعلنت الشرطة هناك مقتل نحو 20 مدنياً، في منطقة انشاودج على تخوم مدينة غاو، فيما أشارت حركة تحرير أزواد إلى مقتل حوالي 22 مدنياً في بلدة "إيزينغاز" بمنطقة ميناكا.
وأعلنت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما" أن أحد جنود قوات حفظ السلام التابعة لها قد قتل بعد انفجار عبوة ناسفة. وربطت بعض التقارير هذه الهجمات بشمال مالي بتنظيم داعش في الصحراء الكبرى، والذي ينشط في هذه المنطقة. وشهدت الأشهر الأخيرة مقتل المئات من المدنيين ونزوح الآلاف في منطقتي ميناكا وغاو.
3- إدانة دولية وإقليمية واسعة: لاقت الهجمات التي شهدتها شمال ووسط مالي إدانة دولية وإقليمية واسعة، حيث أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بالإجماع أدان خلاله العمليات الإرهابية التي شهدتها باماكو. كما أدانت العديد من الدول العربية هذه الهجمات الإرهابية، على غرار مصر ودولة الإمارات العربية والسعودية والكويت والبحرين والجزائر والأردن.
استمرار التهديدات الإرهابية:
تعكس وتيرة الهجمات المتصاعدة التي تعانيها مالي جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- هشاشة أمنية: تعاني منطقة شمال ووسط مالي أوضاعاً أمنية متفاقمة منذ عام 2012، عندما انتفض متمردو الطوارق الانفصاليون ضد الحكومة في باماكو، الأمر الذي استغلته الحركات الجهادية لشن هجمات موسعة، بلغت حد تهديد العاصمة المالية باماكو في الجنوب، قبل أن تتدخل القوات الفرنسية في عام 2013 لتصد هذه الهجمات.
وكانت الحكومة المالية قد وقعت اتفاقاً مع الانفصاليين الطوارق في عام 2015، في إطار اتفاق الجزائر، بيد أنه حتى الآن لم يتم تنفيذ بنوده، مما جعل الحكومة المالية تشن حرباً مزدوجة ضد الحركات الجهادية والانفصاليين في الشمال.
وأشار تقرير الأمم المتحدة الصادر في يونيو الجاري إلى أن الحكومة المالية لم تعد تسيطر سوى على حوالي 10% فقط من شمال البلاد، ونحو 21% من منطقة الوسط. واستغلت الجماعات الإرهابية والميليشيات المحلية هذا الفراغ الأمني لتوسيع رقعة انتشارها.
2- الانسحاب الفرنسي: تتزامن الهجمات الإرهابية في مالي مع مغادرة القوات الفرنسية القاعدة العسكرية في ميناكا بشمال مالي، منتصف يونيو الجاري، في خطوة مثلت المرحلة ما قبل الأخيرة في انسحاب قوة برخان الفرنسية من مالي، حيث يفترض أن تغادر القوات الفرنسية من قاعدة "غاو" مع نهاية أغسطس 2022.
وتظهر روسيا حرصاً على تعزيز حضورها في مالي، حتى مع انشغالها بالحرب الأوكرانية. ويبدو أن باريس سعت للرد على ذلك، هو ما وضح في الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون إلى العاصمة الأوكرانية، كييف، لتأكيد دعمه العسكري لها، وذلك بعد يومين فقط من انسحاب قواته من قاعدة ميناكا في مالي.
3- تهديدات متعددة: تواجه القوات المالية في الشمال تصاعد واضح في وتيرة الهجمات التي يشنها تنظيم "داعش في الصحراء الكبرى"، بينما تواجه باماكو تحديات أمنية متزايدة في منطقة الوسط جراء الهجمات التي تشنها كتيبة "ماسينا"، الذراع المحلية لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، الموالية لتنظيم القاعدة.
وترتبط العملية الإرهابية الأخيرة التي قامت بها الكتيبة بمحاولة الانتقام من المدنيين المتعاونين مع القوات الحكومية. فقد أشارت بعض التقارير المحلية في مالي بأن الأسبوعيين الماضيين كانا قد شهدا وقوع اشتباكات بين قوات الجيش المالي وعناصر المجموعات الجهادية، مما دفع هذه المجموعات إلى حشد أعداد أكبر والعودة للانتقام من المدنيين الذين دعموا القوات الحكومية. وترتبط العمليات الإرهابية في وسط مالي بالصراعات العرقية، خاصةً بين الفولاني والدوغون، إذ تتهم الفولاني بالتحالف مع داعش، في مقابل دعم الدولة المالية للدوغون.
انعكاسات داخلية وإقليمية:
تثير العمليات الإرهابية التي تشهدها مالي وجود عدد من التداعيات، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- خلاف حول دور مينوسما: جاء مقتل أحد عناصر قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في إطار الجدل الراهن بشأن تمديد مهام هذه القوات، خاصةً في ظل الخسار المتكررة التي باتت تتكبدها، والتي بلغت أكثر من 270 من عناصرها البالغ عددهم نحو 13 ألف جندي، وذلك منذ عام 2013، حيث قتل ثلاثة جنود خلال الشهر الجاري فقط.
وتتصاعد وتيرة هذا الجدل قبل أيام قليلة من التصويت على قرار تمديد مهام قوات مينوسما من قبل مجلس الأمن، في 29 يونيو الجاري، وعلى الرغم من إجماع أعضاء مجلس الأمن على أهمية تجديد عمل هذه القوات، فإن هناك خلافات حادة بشأن مستقبل الدور الفرنسي في باماكو، حيث تدعم باريس تمديد مهام البعثة الأممية في مالي، مع اقتراح استمرار تقديم الدعم الجوي الفرنسي لها، وهو ما ترفضه باماكو.
وفي هذا السياق، طرح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، مؤخراً فكرة قوة أفريقية مميزة ذات تفويض هجومي أكثر من مينوسما، وذلك للتعامل مع الوضع الأمني المأزوم في مالي، وذلك على غرار تلك القوة التي كانت قد دعمت مهام حفظ السلام للأمم المتحدة في كينشاسا.
2- تنامي الاستقطاب الروسي – الغربي: تبدي الولايات المتحدة قلقاً من تمدد عناصر فاجنر الروسية في مالي، خاصةً بعدما عمدت هذه العناصر إلى الانتشار في القاعدة العسكرية ببلدة ميناكا، التي غادرتها القوات الفرنسية، وتسعى واشنطن للتأكيد أن انتشار عناصر فاجنر سيفاقم الأوضاع الأمنية في مالي، ولن يساعد في مكافحة الإرهابيين هناك.
وفي المقابل، أعلنت فرنسا، في 15 يونيو الجاري، إلقاء القبض على القيادي البارز بتنظيم داعش في مالي، أمية ولد البقاعي، بالقرب من الحدود بين مالي والنيجر، ويعد البقاعي رئيس داعش في الصحراء الكبرى، خاصة منطقتي لغورما في مالي، ولودالان في شمال بوركينا فاسو. وكان مرشحاً لخلافة الأمير السابق للتنظيم، عدنان أبو وليد الصحراوي، وهي خطوة سعت من خلالها باريس لتأكيد محورية دورها في مكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي، وصعوبة استبدالها بأي فاعل أخرى.
3- انفراجه في علاقة مالي بالإيكواس: يأتي هذا التصعيد الأرهابي في مالي بالتوازي مع بعض التقدم في الحوار الراهن بين المجلس العسكري الحاكم في مالي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، حيث قام وسيط المجموعة، الرئيس النيجيري السابق، جودلاك جوناثان، بزيارة غير معلنة إلى باماكو خلال الأسبوع الماضي، وذلك قبيل القمة المقبلة للإيكواس، والمقررة في 3 يوليو 2022، حيث تتوقع بعض التقديرات أن تشهد هذه القمة رفع جزئي لبعض العقوبات المفروضة على مالي منذ يناير 2022.
وفي المقابل، أصدرت الحكومة المالية، في 24 يونيو الجاري، مرسوماً أقرت خلاله قانوناً انتخابياً جديداً، وذلك بالتزامن مع الإعلان، في 6 يونيو الجاري، عن الجدول الزمني الجديد مدته عامين لإجراء الانتخابات يبدأ من مارس 2022، بعدما كانت هذه المدة المقترحة تبلغ نحو خمسة سنوات.
ويرتبط تراجع التوتر بين الحكومة المالية والإيكواس بالتحديات الأمنية المتصاعدة في الساحل الأفريقي، خاصةً بعد قرار باماكو الانسحاب من مجموعة الساحل، ويبدو أن هناك محاولة لإقناع مالي بالعودة عن قرارها للانسحاب من المجموعة مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية عليها.
وفي الختام، تزداد الأوضاع الأمنية تأزماً في مالي، في ظل تعدد الأطراف التي تواجهها الحكومة المالية، سواء كانت تنظيمات إرهابية منتشرة في منطقة الساحل، أو بعض المجموعات المحلية الانفصالية، في الوقت الذي تزداد فيه حدة المنافسة بين روسيا والقوى الغربية، خاصة فرنسا هناك، الأمر الذي ينذر بمزيد من التحديات الأمنية خلال الفترة المقبلة.