قدم أعضاء التيار الصدري البالغ عددهم 73 نائباً في البرلمان العراقي، استقالاتهم من مجلس النواب في 12 يونيو الجاري، وهو ما جاء عقب تلويحه بالذهاب إلى المعارضة، أو الانسحاب من العملية السياسية، كما أعلن رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، قبول طلبات الاستقالات.
قرارات متتالية للصدر:
جاء قرار التيار الصدري مفاجئاً لمعظم أطراف العملية السياسية، لاسيما أنه جاء بعد ثمانية أشهر من حالة الانسداد السياسي، غير أنه جاء متزامناً مع عدد من التطورات، والتي يمكن تفصيلها على النحو التالي:
1- انسحاب مرشح رئاسة الحكومة: اعتذر مرشح الكتلة الصدرية، محمد جعفر الصدر، في 13 يونيو الجاري، عن الاستمرار في الترشح لمنصب رئيس الحكومة. وسبق وأعلن تحالف إنقاذ وطن في 23 مارس 2022، ترشيح ريبير أحمد لمنصب رئيس الجمهورية، ومحمد جعفر الصدر لمنصب رئاسة الوزراء، وهو ما يعني تراجع حظوظ الرجلين، وإن مرحلياً، لتولي المنصبين.
2- تحذير الصدر للحشد الشعبي: عاود مقتدي الصدر الحديث مرة أخرى عن بعض المطالب التي سبق وتحدث عنها، من خلال تجديد دعوته إلى ضرورة فصل الحشد الشعبي عن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وهو ما جاء خلال تهنئته بالذكرى الثامنة لتأسيس "الحشد الشعبي". ومنح التيار الصدري الإطار التنسيقي 6 أشهر على الأكثر لحل تلك الفصائل عبر لجنة مشتركة بين وزارة الدفاع وهيئة الحشد.
وجاء ذلك الموقف متزامناً مع اتهامات إقليم كردستان بتورط بعض الفصائل المسلحة، الموالية لإيران، في استهداف القنصلية الأمريكية في أربيل في 8 يونيو الجاري. وسبق وأن طالب الصدر بفصل الميليشيات الولائية المرتبطة بإيران عن الحشد الشعبي، وحصر عمله ضمن ما نصت عليه فتوى تأسيسه، التي أطلقها المرجع الديني الشيعي علي السيستاني، فيما عرف حينها بـ "الجهاد الكفائي" لحمل السلاح ضد تنظيم داعش عام 2014، فضلاً عن مطالبة الصدر بإعادة دمج قوات الحشد الشعبي ضمن الجيش العراقي. كما طالب الصدر بتصفية الحشد الشعبي من العناصر غير المنضبطة، وتقديم الفاسدين إلى المحاكم وعدم تدخل أي طرف سياسي لحمايتهم.
3- إخفاق المباحثات السنية – الكردية: قام رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، ورئيس تحالف السيادة، خميس الخنجر، بزيارة إلى أربيل في 11 يونيو الجاري، حيث التقوا بزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود البارزاني.
وكان من بين أهم أهداف تلك الزيارة محاولة الأطراف الثلاثة البحث في إمكانيات ثني زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، عن اتخاذ أي خطوة باتجاه الانسحاب من البرلمان، أو لعب دور المعارضة، إلا أنه من الواضح أن هذه الجهود لم تلق نجاحاً كبيراً.
دلالات قرارات الاستقالة:
فتحت استقالة نواب الكتلة الصدرية المجال لكثير من التساؤلات حول مدى قانونية تلك الخطوة أو ما ستفرضه من آثار قانونية في المرحلة القادمة. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عدد من المؤشرات:
1- إخفاق تشكيل حكومة الأغلبية: يلاحظ أن الاستقالات جاءت بعد معارضة الكتل الشيعية المتحالفة مع إيران، مبادرة الصدر لتشكيل الحكومة. كما تأتي في الوقت الذي يدرك فيه الصدر أنه لا يستطيع تشكيل حكومة أغلبية وطنية في ظل العراقيل التي نجح الإطار التنسيقي في فرضها عبر توظيف الثلث المعطل.
2- جدل حول عدول النواب عن استقالاتهم: جاءت استقالة نواب الصدر الأخيرة، في 12 يونيو، بعد دخول البرلمان، في 8 يونيو، في عطلته التشريعية لمدة 30 يوماً، والتي من المفترض أن تنتهي تلك العطلة في 9 يوليو المقبل. وأعلن الحلبوسي قبول استقالة نواب الصدر، وأنها باتت سارية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك رأياً قانونياً يرى أنه يمكن لهؤلاء النواب العودة عن الاستقالة، وذلك نظراً لأن هذه المسألة لا يعالجها أي نص قانوني أو دستوري، بل يمكن أن يكون بإجراء إداري، حيث يقدم النائب طلباً إلى رئيس البرلمان للعدول عن استقالته، وأن يوافق الأخير على هذا الطلب.
كما أن هناك رأياً آخر يرى أنهم قدموا استقالاتهم في وقت غير انعقاد البرلمان، ومن ثم لا تعد مقبولة، لحين انعقاد البرلمان من جديد بعد عطلته، وهو ما يفتح الباب أمام الصدر للتراجع عن استقالته.
3- استبدال محتمل لنواب الصدر بالتنسيقي: يلاحظ أن المستقيلين من البرلمان يتم استبدالهم بأعلى الخاسرين عن الدائرة ذاتها، وليس عن الكتلة. كما ينص قانون المحكمة الاتحادية بتفسير المادة 46 من قانون الانتخابات رقم 9 لسنة 2020، وهو ما يعني أنه من المتوقع أن يتولى الشيعة المتحالفون مع إيران هذه المقاعد، إلى جانب بعض المستقلين.
مسارات تشكيل الحكومة:
يلاحظ أن قيام نواب الكتلة الصدرية بتقديم استقالاتهم من البرلمان تفتح المجال أمام العديد من المسارات المستقبلية لتشكيل الحكومة خلال الفترة القادمة، وذلك على النحو التالي:
1- تشكيل حكومة بقيادة التنسيقي: قد يتم استبدال نواب الصدر المستقيلين بنواب آخرين من الذين حصلوا على أعلى عدد أصوات بعد النواب الصدريين في الانتخابات الأخيرة، مما قد يزيد من حظوظ الإطار التنسيقي، حيث إن غالبيتهم ينتمون له، وهو ما قد يرفع عدد مقاعده إلى 120 مقعداً.
وسوف يكون تشكيل هذه الحكومة مقترناً بموافقة الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، أي شريكي الكتلة الصدرية، على الانضمام لحكومة التنسيقي. وأكد التنسيقي استعداده للمضي قدماً في تشكيل الحكومة من دون الصدر، كما قام بالاجتماع في 14 يونيو بتحالف العزم والاتحاد الوطني الكردستاني وبابليون لتدارس خطوات تشكيل الحكومة، وفق ما أعلنه من بيان.
2- إخفاق التنسيقي في تشكيل الحكومة: قد يتجه حلفاء الصدر، وتحديداً الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، إلى جانب المستقلين إلى الثلث المعطل، بما يقف حائلاً أمام نجاح الإطار التنسيقي لتشكيل الحكومة، لتستمر حالة الانسداد السياسي مرة أخرى.
3- سيناريو المواجهات المسلحة: من المرجح أن يلجأ التيار الصدري مرة أخرى إلى الشارع من خلال الدعوة إلى تظاهرات شعبية واسعه على غرار سيناريو اقتحام المنطقة الخضراء في 2016، بما قد يزيد من فرص حدوث مواجهات بين التيار الصدري وبعض الفصائل المسلحة، بما قد يسفر عن مزيد من عدم الاستقرار السياسي خلال الفترة القادمة.
ويعد ذلك السيناريو أحد السيناريوهات المرشحة للحدوث، خاصة في ضوء تحذير الصدر للفصائل الموالية لإيران بتجاوز الجهاد الكفائي، في إشارة إلى توظيفهم في قمع أنصاره في حالة إقدامهم على التظاهر، وقد رد فالح الفياض على الصدر مؤكداً أن "الحشد الشعبي سيدافع عن الدولة ولن نسمح بإسقاط الدولية"، في إشارة ضمنية إلى إمكانية اتجاه فصائل الحشد لمنع أنصار الصدر من التظاهر، وهو ما قد يدفع إلى المواجهات المسلحة بين الفصائل المسلحة التابعة للطرفين.
ولعل ما يحد من هذا السيناريو هو إيران، والتي لا ترغب في أن يحدث اقتتال عنيف بين القوى الشيعية بصورة قد تحد من نفوذها في العراق خلال الفترة المقبلة، خاصة أنه من الصعب تجاوز التيار الصدري في المعادلة السياسية العراقية، حالياً، أو مستقبلاً.
4- تراجع الصدر عن الاستقالة: يلاحظ أن هذا الخيار يعد خياراً قائماً، إذ إنه من الممكن أن يتراجع الصدر عن الاستقالة، غير أن المشكلة سوف تكون في مدى قدرة الصدر على تشكيل حكومة أغلبية من جديد، أو فرص قبوله بحكومة توافقية.
وفي الختام، يمكن القول إن دعوة الصدر لنواب كتلته في البرلمان إلى تقديم استقالاتهم تفتح الباب أمام مرحلة جديدة ومفصلية في تاريخ العراق، إذ إن الإطار التنسيقي قد يتجه لتشكيل حكومة تستبعد التيار الصدري. ونظراً لأن السياسيين المرتبطين بإيران لا يحظون بأي شعبية في الشارع العراقي، فإن العراق قد يدخل إلى مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والاحتجاجات، والتي قد تفتح الباب أمام المواجهات بين الفصائل المسلحة التابعة للقوى السياسية المختلفة، وذلك ما لم يقرر الصدر تراجع نوابه عن الاستقالة.