تفاءل عدد من المراقبين بشأن تبني حركة "طالبان" مواقف أكثر اعتدالاً تجاه العديد من القضايا بعد عودتها للسلطة عام 2021، ولكن الواقع الفعلي يكشف عن عودة الحركة لنهجها المتشدد، حيث أعادت القرارات الصادرة عن حركة طالبان من جديد الصورة الذهنية عن النمط الصارم لحركة طالبان على غرار فترة حكمها الأولى خلال نهاية التسعينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من الوعود التي أطلقتها حركة طالبان في بداية حكمها بشأن تخفيف القيود على النساء، فإنها سرعان ما نقضتها من خلال فرضها قيوداً صارمة على بعض حقوق النساء التي اكتسبنها خلال العقدين الماضيين.
نكوص طالبان عن وعودها:
تبلور خلال الأسابيع الماضية عدد من الدلائل بشأن نكوص حركة طالبان عن تعهداتها الدولية في مقابل الحصول على الاعتراف الدولي، والتي يمكن توضيحها كالآتي:
1- فرض البرقع على المرأة: فرضت طالبان مؤخراً قواعد صارمة على النساء الأفغانيات، حيث أعلنت الحركة عن قرار يقتضي بالتزام النساء على المستوى الوطني بارتداء البرقع في الأماكن العامة، مع دعوتهن لعدم مغادرة منازلهن إلا للضرورة. كما أشار القرار كذلك إلى توقيع عقوبات على أصحاب العائلات الذين لا يلزمون نساء العائلة بارتداء البرقع.
وترتب على هذا الأمر اندلاع تظاهرات متعددة من قبل النساء الأفغانيات في كابول وعدد من المدن الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أن الحركة في بداية حكمها قد فرضت على النساء ارتداء الحجاب فقط.
وأسفر هذا القرار عن عقد مجلس الأمن، في 12 مايو، جلسة طارئة أعرب خلالها المجلس عن قلقه العميق من السياسات الجديدة التي تنتهجها طالبان تجاه تقييد حقوق النساء.
2- منع السفر من دون محرم: أعلنت الحركة في نهاية مارس عدم السماح للنساء بالصعود إلى الطائرة من دون محرم، وقد تضمن هذا القرار الرحلات الداخلية والدولية.
وأفادت بعض المزاعم بشأن إصدار حركة طالبان تعليمات شفهية للمسؤولين في مدينة هرات لبعض المدربين داخل مدارس تعليم قيادة السيارات بعدم إصدار تراخيص للنساء، وذلك من دون وجود تعليمات رسمية معلنة بشأن منع النساء من القيادة بالمدينة.
وجاءت تلك التعليمات المزعومة في مدينة تٌعتبر من المدن المتقدمة بأفغانستان، والتي عادة تشهد قيادة النساء بشوارعها في الفترات الماضية.
3- إغلاق مدارس الفتيات: أعلنت حكومة طالبان عن خطة لإعادة فتح المدارس الثانوية للبنات في مارس 2022، وهو ما لاقى ترحيباً من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، غير أن طالبان تراجعت في قرارها بشأن فتح المدارس للفتيات فوق الصف السادس.
وترتب على هذا الأمر تعليق البنك الدولي 600 مليون دولار مخصصة لأربعة مشاريع في الصحة والتعليم والزراعة بعد هذا القرار، فضلاً عن قيام الجانب الأمريكي بإلغاء الاجتماع الذي كان مقرراً عقده في مارس بين ممثلين عن الولايات المتحدة وحكومة طالبان.
4- وضع قيود على الحياة العامة: أصبحت اللوائح المنظمة للحياة العامة أكثر صرامة، فعلى سبيل المثال، فرضت حكومة طالبان الفصل بين الجنسين خلال التجول في الحدائق العامة، وذلك من خلال تحديد أيام معينة لزيارة النساء تختلف عن الأيام المحددة للرجال، وذلك على غرار ما تم تطبيقه في مدينة "هرات". كما من المتوقع أن يتم فرض اللحية على الرجال كذلك.
5- وضع قيود على وسائل الإعلام: ذكر تقرير صادر عن البنتاجون أن سلطات طالبان واصلت جهودها لتقييد وسائل الإعلام باحتجاز الصحفيين.
وأشار التقرير إلى مسح أجرته منظمة مراسلون بلا حدود وجمعية الصحفيين الأفغان المستقلين إلى أنه بنهاية عام 2021، تم إغلاق 231 وسيلة إعلامية من إجمالي 543. كما انخفض عدد الأفراد العاملين في وسائل الإعلام من 10,790 إلى 4360.
تحديات جسيمة أمام طالبان:
تواجه حركة طالبان عدداً من التحديات المتتالية، التي تجعلها في أمس الحاجة إلى الاعتراف الدولي، والتي أصبحت بعيدة المنال في المدى القريب، نظراً للقيود التي فرضتها سالفة الذكر، لذلك تتمثل أبرز التحديات في التالي:
1- تفاقم الأزمات الاقتصادية والإنسانية: أدى استيلاء طالبان على أفغانستان وما نتج عنه من قطع في المساعدات الدولية إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، وفقاً لأحدث تقرير صادر عن هيئة رقابية في البنتاجون، حيث يحتاج أكثر من 24 مليون شخص الآن إلى مساعدات إنسانية في أفغانستان، ارتفاعاً من حوالي 18.4 مليون العام الماضي.
ومن جهة أخرى، حذر برنامج الأغذية العالمي من أن نصف سكان أفغانستان يعانون "انعدام الأمن الغذائي"، مع ما يقرب من 9 ملايين شخص يواجهون ظروفاً شبيهة بالمجاعة. وأشارت وزارة الصحة العامة الأفغانية إلى أن أكثر من 13 ألف طفل ماتوا بسبب سوء التغذية هذا العام بالفعل. وحذرت الأمم المتحدة من أن مليون طفل قد يموتون جوعاً.
وأسهم هذا الأمر في إطلاق الأمم المتحدة أكبر نداء لها على الإطلاق لدولة واحدة، على أمل جمع 4.4 مليار دولار. وتم الالتزام بحوالي 13% فقط من المبلغ المطلوب بحلول 31 مارس.
كما كشفت إحصائيات وزارة الخارجية الأمريكية عن أن حوالي 70% من الأسر عاجزة عن تغطية الاحتياجات الغذائية وغير الغذائية الأساسية، مما يعكس تراجع دخل الأسر الأفغانية. وأشارت منظمة العمل الدولية إلى أن إجمالي الخسائر في الوظائف منذ استيلاء طالبان على السلطة في أغسطس سيصل إلى 900 ألف بحلول منتصف هذا العام، مع تضرر النساء بشكل خاص، حيث أجبرتهن حركة طالبان على ترك العمل.
وتوقع التقرير الصادر عن البنتاجون تفاقم الأوضع الاقتصادية في أفغانستان مع معاناة البلاد من أسوأ موجة جفاف منذ ثلاثة عقود، فضلاً عن الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية، إثر الحرب الروسية ضد أوكرانيا.
2- تصاعد وتيرة الأعمال الإرهابية: تصاعدت أعمال العنف في أفغانستان بعد تسعة أشهر من انسحاب الولايات المتحدة، وسيطرة طالبان على السلطة، مما أثار مخاوف من أن تصبح البلاد مرة أخرى بؤرة لعدم الاستقرار والإرهاب في منطقة جنوب ووسط آسيا.
وساهمت العديد من العوامل في تحوّل أفغانستان مرة أخرى إلى دولة مصدرة للإرهاب، وذلك وفقاً لبعض التحليلات، من بينها الانهيار الاقتصادي، وتراجع الأمن في جميع أنحاء البلاد، حيث تصاعدت الهجمات الانتحارية لداعش خرسان، والتي تستهدف الأقليات العرقية مثل الهزارة الشيعة.
وشهدت أفغانستان تزايد وتيرة الهجمات الإرهابية خلال الأسابيع الماضية، كما في الهجوم على مسجد مولوي سكندر في قندوز في 22 أبريل، الذي أسفر عن مقتل 25 شخصاً، فضلاً عن استهدف حافلتين صغيرتين في مزار شريف في 28 أبريل، والذي أسفر عن مقتل 9 أشخاص.
ولم يتوقف الأمر عند حد التفجيرات الإرهابية ضد المواطنين الأفغان، ولكن امتدت استراتيجية تنظيم داعش نحو استهداف البنية التحتية، حيث استهدف برجين للكهرباء في محافظة باروان في شمال أفغانستان، مما أدى إلى انقطاع الكهرباء عن حوالي 11 إقليم في نهاية أبريل.
وامتدت الهجمات الإرهابية لتنظيم داعش للدول المجاورة كذلك، على غرار باكستان وأوزباكستان. ففي هذا الصدد، أعلن تنظيم داعش خراسان في مقطع فيديو، إطلاق 10 صواريخ على قاعدة عسكرية في أوزبكستان.
3- بروز معارضة مسلحة: تدعي "الجبهة الوطنية للمقاومة" بقيادة أحمد مسعود أنها أحرزت تقدماً في استعادة السيطرة على العديد من المقاطعات الشمالية الشرقية في أفغانستان. وتكتسب المقاومة المسلحة ضد طالبان زخماً في عدد من المناطق، حيث تقوم الميليشيات التي يديرها قادة سياسيون وعسكريون سابقون بتجنيد وتسليح المقاتلين، لا سيما من صفوف قوات الأمن التابعة للحكومة السابقة التي دربتها الولايات المتحدة.
وأفادت بعض المزاعم غير المؤكدة بشأن مقتل ما بين 40 و 200 مقاتل من حركة طالبان في وادي بنجشير خلال اشتباكات في نهايات مارس الماضي. ويلاحظ أن بعض الدول الإقليمية قد تكون لها مصلحة في إضعاف حكم طالبان، على غرار الهند وإيران، ولذلك قد تتجه بعض الدول الإقليمية لدعم المعارضة المسلحة ضد حكومة طالبان.
ولكن على الجانب الآخر، يفتقر قادة جماعات المعارضة المسلحة إلى الوحدة، إذ ينظرون إلى بعضهم البعض على أنهم خصوم أكثر من كونهم رفاق، وهو ما يعني أنه من غير المرجح في الوقت الحالي أن يحرزوا تقدماً كبيراً في طموحهم المشترك للإطاحة بحكومة طالبان، وهو ما ينذر بإمكانية سقوط البلاد في حرب أهلية ممتدة.
وفي الختام، وضعت حكومة طالبان من خلال قراراتها الأخيرة عقبات في سبيل حصولها على الاعتراف الدولي، بما يستتبعه ذلك من تراجع الدعم الاقتصادي لها. وسوف يؤدي استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية إلى غرق أفغانستان في سيناريو الحرب الأهلية، خاصة مع تنامي نفوذ داعش واتجاه الجبهة الوطنية للمقاومة لشن هجمات لمنازعة طالبان سيطرتها على أفغانستان.