لا يقف الاهتمام الدولي بالرأي العام، عند حدود معرفة مواقفه تجاه القضايا محل الاهتمام ومتابعة اتجاهاته بصورة دورية وإصدار التقارير بشأنه من باب الرفاهية البحثية، فاتجاهات الرأي العام لا تعتبر مجرد أفكار متداولة فحسب، بل تدفع الجماهير نحو ممارسات بعينها، وتجعلهم يتخذون مواقف محددة ذات تأثيرات متباينة. وقد تنبه عالم النفس، جوستاف لوبون، منذ سنوات طويلة لأهمية ذلك، وأسس للطريقة التي نفهم بها سلوكيات الجماهير، أو إذا شئنا، الرأي العام، فقد قال في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" إن دخول الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة يمثلان أكثر الخصائص بروزا لعصرنا.
ونظراً لتأثيرات اتجاهات الرأي العام الملموسة، فثمة تنافس وصراع لا يقل أهمية عن النزاعات السياسية والعسكرية على التأثير في الرأي العام، ودفعه لاتخاذ مواقف محددة تصب في مصلحة أحد الأطراف المتنازعة. وإذا كانت الحرب الروسية – الأوكرانية قد فتحت المجال أمام المحللين لإعادة التفكير في الظواهر المرتبطة بالصراعات، ووصف الحرب الجارية بأنها "حرب هجينة"، فيمكن القول إن أدوات الحرب الهجينة لا تقف عند حدود القدرات العسكرية والعقوبات الاقتصادية والمسارات الدبلوماسية، بل تشمل أيضاً التأثير على مدركات "الجماهير". وتحاول المقالة الحالية الإجابة على السؤال التالي: لماذا يتصاعد اهتمام الأطراف الدولية المتصارعة بالتأثير على الرأي العام الدولي؟
استدراج الجماهير:
ظل علم الاقتصاد لسنوات طويلة قائماً على مبدأ "القرار الرشيد"، والذي يفترض أن قرارات الفرد مدفوعة بالمنفعة، ومن ثم سيذهب الفرد بالضرورة إلى الخيار الذي يحقق أكبر منفعة ممكنة بأقل تكلفة، وبالتالي يصبح التنبؤ بسلوك الأفراد أمراً يسيراً. ولكن هذا لم يحدث في الواقع العملي، وظل التنبؤ بسلوكيات الأفراد أمراً شديد التعقيد، وهو ما دفع لظهور اتجاه جديد في علم الاقتصاد يعرف بالاقتصاد السلوكي، والذي دحض هذا المبدأ الراسخ، وبدلاً منه وضع مبدأ "القرار اللاعقلاني" باعتباره الواقع الفعلي للكيفية التي يختار بها الفرد ويشكل بها قراره، وأكد أن القرارات مدفوعة بالعديد من "الانحيازات"، أي أن الانفعالات العاطفية تؤثر بصورة كبيرة على قراراتنا اليومية أكثر مما تفعله المعايير العقلانية.
وعلى الجانب الآخر، فقد أكد لوبون منذ سنوات طويلة أيضاً على تماهي الفرد مع الجماهير، حتى وإن كانت قناعاته الذاتية بعيدة عن الأفكار المتداولة والشعارات المحيطة به، فقال، ما أن ينضم الفرد للجماهير، تتلاشى خصائصه الفردية وتتلاشى شخصيته الواعية، ويتجه الجميع في اتجاه واحد بسبب عدوى العواطف والأفكار، ويتحرك الفرد بصورة شبه آلية لا تقوده إرادته هو، ويصبح عرضة للتأثر بالكلمات والصور التي تقوده إلى ارتكاب أفعال قد تتنافى مع مصلحته هو بشكل واضح. ولذلك أكد لوبون أن "الجماهير ليست ميالة للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية".
فتشكيل الرأي العام والتأثير فيه ليس صنيعة الصدفة، فهناك آليات وأدوات كثيرة معروفة لدى المتخصصين في هذا المجال، فعلى سبيل المثال من بين أهم الأدوات المشهورة ما يعرف بـ "استدراج الرأي العام"، وذلك من خلال النشر المكثف عن القضية محل الاهتمام وتناولها تحت شعارات براقة تخاطب المشاعر والانفعالات وليس العقول، من بينها شعارات حقوق الإنسان، أو الأزمات الإنسانية، والمظلومية وغيرها... وفي إطار الحالة الرمادية التي أصبحنا نعيش فيها حيث تتماهى الحقائق ويصعب التمييز بوضوح بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين النصر والهزيمة، وبين الغزو والدفاع عن الأرض، وغيرها من المتناقضات، فمن السهل التلاعب بالرأي العام والتأثير فيه، خاصة مع تعدد الأدوات والأساليب للوصول إليه.
أنماط التوظيف:
لا تقف اتجاهات الرأي العام ومواقف الجماهير عند حدود الآراء والتقييمات الأخلاقية والأحكام الكلامية، بل تنعكس، سواء بوعي أو دون وعي، في الكثير من الممارسات والقرارات والأفعال المؤثرة، وهو ما يتم استغلاله بصورة أو بأخرى من قبل بعض أطراف الصراع لتعظيم مكاسبهم وتعظيم خسائر الخصم، سواء على المدى القصير أو البعيد. وفيما يلي بعض مظاهر انعكاسات الرأي العام المرتبطة بالصراعات.
1- العقوبات الاقتصادية "الجماهيرية": لا تقتصر العقوبات الاقتصادية على تلك التي تفرضها الدول الكبرى، أو القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، بل هناك نوع آخر من العقوبات الاقتصادية الطوعية (نظرياً) التي تطلقها حملات المقاطعة الشعبية أو الامتناع الفردي عن شراء منتجات دولة ارتبطت صورتها الذهنية بالحروب أو الفساد أو غيره، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً في هذا المقال عقوبات اقتصادية جماهيرية أو crowd sanctions، فإذا كان الحديث في كثير من الكتابات الغربية عن أهمية التمويل الجماهيري crowd funding، والذي أصبح مصدراً مهماً من مصادر تمويل كثير من المؤسسات، والتي تحاول الترويج لرسالتها وأهدافها وتخلق حولها تعاطف جماهيري يصل لحد دعمها مادياً. فهنا بالمثل يمكن الحديث عن الوجه الآخر لهذا التوجه والمرتبط بالغضب الجماهيري النشط من دولة أو كيان ما لدرجة الابتعاد عن كل أشكال دعمها ووقف شراء منتجاتها. ويتم استغلال هذه التوجهات بالطبع من الأطراف المنتفعة للترويج للبدائل الأخرى.
وظهرت تلك التوجهات في منطقة الشرق الأوسط في مرات عديدة خاصة نحو دولة إسرائيل أو فرنسا بعد حوادث الرسومات المسيئة للرسول، خاصة تلك المرة التي ألمح فيها رئيس الدولة الفرنسية إلى أنها حرية تعبير. وفي إطار الصراع الروسي الأوكراني ظهرت مثل هذه الحملات في الدول الأوروبية، ليس فقط هذا العام، وإنما منذ 2013، مثل حملة "لا تشتري البضائع الروسية" التي نظمتها حركة "فيديسيتش" الأوكرانية والتي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، وتضامن الأمريكيون مع أوكرانيا بحملات مقاطعة "الفودكا" الروسية ومشروباتها الكحولية الأخرى. ومثل هذه الحملات قادرة على تحميل اقتصادات الدول خسائر فادحة، كما حدث في الخبرات السابقة.
ومن ثم يصبح التأثير في اتجاهات الجماهير أداة أساسية في يد الأطراف التي تحاول إلحاق الضرر بالخصوم، وليس من أجل إعلاء قيم الإنسانية أو إظهار الحقيقة بالضرورة. ومن الجانب الآخر، يتراجع الإقبال السياحي على الدول ذات الصور الذهنية السلبية، فتحميل الرأي العام الدولي بمشاعر مضادة لدول بعينها تؤثر على عائداتها من السياحة وبالتالي إلحاق الضرر بها بصورة أخرى.
2- "التطوع المسلح": من التطورات اللافتة التي ظهرت في الصراع الروسي الأوكراني انضمام ما أطلق عليهم لقب "متطوعين" من عدة دول أوروبية، حيث ناشد الرئيس الأوكراني الشعوب الأوروبية الانضمام إلى المقاومة، وأصدر مرسوماً رئاسياً يسمح للمتطوعين الأجانب بالدخول للدولة من دون تأشيرة.
وقد ساعدت مقاطع الفيديو المؤثرة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة كبيرة لمتطوعين أجانب أثناء ترك دولهم للذهاب إلى أوكرانيا على تشجيع آخرين لأن يحذو حذوهم. فقد بلغ التأثير على الجماهير ذروته مع إقناع بعضهم باتخاذ قرار الإمساك بالسلاح لقتل أحدهم، واتخاذ مخاطرة قد تكلفه حياته. وبالطبع لا يمكن إغفال الأبعاد الأخرى التي دفعت بعض المتطوعين للانضمام للصفوف الأوكرانية مثل ميول البعض المتطرفة والباحثين عن إثارة الخطر، ناهيك عن الخلفيات التاريخية والانتماءات السياسية لبعض المقاتلين الكارهين لروسيا.
3- المساعدات الإنسانية "المنحازة": على الرغم من المواقف الإنسانية المحمودة التي اتخذتها شعوب العالم بصفة عامة، والجماهير الأوروبية بصفة، خاصة تجاه الشعب الأوكراني، ومساندة المنكوبين واللاجئين والفارين من أوكرانيا، ظهرت في ثنايا المواقف الإنسانية ممارسات منحازة تماماً ومتأثرة بالرسائل الإعلامية والروايات الغربية حول الحرب الأوكرانية، حيث تأثر الداعمون باعتبارات وانحيازات أخرى لاإنسانية، فقد أعطى بعضهم الأولوية للبيض من الأوكرانيين وامتنعوا عن مساعدة ذوي البشرة السمراء، أو اللاجئين الموجودين في أوكرانيا، بل أننا شاهدنا بعض الأوروبيين مؤيدين لممارسات حكومتهم بتسريح اللاجئين الأفغان من المخيمات الموجود ببعض الدول واستبدالهم بلاجئين أوكرانيين.
وفي كثير من الحالات كان يتم الامتناع عن دعم الأوكرانيين من أصول روسية (المتحدثين بالروسية) بل وتوبيخهم حتى ولو كانوا متضررين أيضاً من جراء الحرب الجارية. وهذه المشاهد تستحق التوقف أمام هذه الازدواجية الإنسانية المتطرفة، وتدل على مدى تأثر حتى الممارسات الإنسانية (السامية) بالحملات الموجهة لتشكيل اتجاهات الرأي العام ومواقف الجماهير.
ولعل ما جرى في أوكرانيا أظهر أيضاً ازدواجية الرأي العام الأوروبي بشأن لاجئي الشرق ولاجئي الغرب. فبعد سنوات من الحملات المضادة للاجئين السوريين والأفارقة وغيرهم، والسعي وراء سن قوانين لمنع دخول اللاجئين لدول أوروبا، فتحت الأبواب على مصراعيها أمام الأوكرانيين الفارين من الحرب، ليس فقط داخل أوروبا بل أن الحملات الإنسانية الأوروبية لدعم الأوكرانيين (المتوفرة فيهم الاعتبارات السابقة) ألقت بظلالها على دول غير أوروبية، فمثلاً ناشدت فروع المدارس والجامعات الأوروبية بدول العالم الأسر من خلال أبنائهم الطلبة لمساعدة الأوكرانيين، سواء من خلال التبرعات المالية أو فتح منازلهم لإيواء أوكرانيين. وكلها تحركات محمودة بالطبع، ولكن ما يثير التأمل دائماً هو مدى تأثر المشاعر الإنسانية السامية بالانحيازات غير الإنسانية.
4- "الضغط" على الحكومات: تراهن الدول الغربية حتى من قبل الدخول الروسي لأوكرانيا على الرأي العام الروسي، واتخاذ الجماهير موقفاً مضاداً للسياسات الروسية تجاه أوكرانيا، ومن ثم النزول في الشوارع للضغط على الرئيس الروسي لتغير موقفه، أو في أفضل الأحوال (بالنسبة للغرب) الإطاحة به. فاستخدام الجماهير للضغط على الحكومات من أهم آليات توظيف "الجماهير" لتحقيق مكاسب سياسية، وحمل الحكومات على اتخاذ مواقف بعينها تصب في مصلحة فاعلين آخرين، حتى لا تحرج أمام جماهيرها.
"لعبة غير سهلة"
على الرغم من السهولة التي تبدو عليها عملية تشكيل الرأي العام والتأثير فيه، فإن توقع مواقف الجماهير وأفعالهم أمر لازال معقداً، والرهان على تحرك الرأي العام في اتجاه محدد ليس بالضرورة رهان رابح. وذلك للاعتبارات التالية:
1- مأزق المزاجية: فالرأي العام في المحصلة الأخيرة مجرد رأي انفعالي، وكما يسهل التأثير فيه وتوجيهه يسهل أيضاً تغييره للنقيض مع التعرض لمواد وعوامل أخرى، خاصة أن القوى الدولية الصاعدة تمتلك اليوم أدوات تأثير، سواء إعلامية رسمية مثل روسيا اليوم، وغيرها أو منصات للسوشيال ميديا مثل تيك توك (الصينية) لكسر احتكار الإعلام الأمريكي والغربي وتوجيه سرديات مختلفة للرأي العام الدولي. ولذلك كان من المفارقات أن الدول المتقدمة التي تروج لحرية التعبير ومحاربة الفكر بالفكر تناشد بحجب تلك المواقع، بل أن بعض الدول أوقفت بث الإعلام الروسي بالفعل لمنع تأثيره على الرأي العام الأوروبي.
2- التقلب الزمني: تعتبر دورة تشكيل الرأي العام سريعة للغاية، فتبني الأفراد اتجاهات معينة بفعل الانفعالات لا تستمر لمدى زمني طويل، ثم تبدأ عمليات التقييم العقلانية للمواقف المأخوذة، ومدى المصلحة التي تعود على الفرد من تلك المواقف. ولذلك فإن السؤال الذي يتصاعد في الحالة الأوكرانية الروسية هو، إلى أي مدى ستظل المجتمعات الأوروبية مرحبة بالمواقف الأوروبية ضد روسيا ومن دون الانقلاب ضد حكومتها مع شدة التأثر بعواقب تلك السياسات؟ فارتفاع الأسعار واختفاء بعض المنتجات واستقبال عدد كبير من الأوكرانيين الذين يمثلون مصادر تهديد اللاجئين الشرق أوسطيين نفسها التي انتفض ضدها الأوروبيون، فالأوكرانيون شأنهم شأن القادمين من شرق أوروبا، يعتبرون عمالة رخيصة الأجر، فسوف ينافس الأوروبيون على فرص العمل، في الوقت الذي تشتد فيه الأزمة الاقتصادية في أوروبا أيضاً.
ولذلك، فإن لعبة الجماهير، قد تبدو سهلة ولكن يخطئ من يتوقع أنه ممسك بخيطي الرأي العام مثل عرائس الماريونت.