عرض: عبدالمنعم محمد
وضعت الصين هدفاً استراتيجياً يتمثل في بناء جيش عالمي بحلول عام 2049، مع التوسع في الترسانة النووية لديها، ورفض الانخراط في محادثات للحد من التسلح، مما سيدفع النظام العالمي للانخراط في نظام نووي ثلاثي القطبية، أي كسر حاجز التفوق النووي على قوتين عظميين فقط (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا)، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصدع في استراتيجية الردع النووي.
في هذا الإطار، يأتي تحليل أندرو كريبينفيتش في مجلة الفورين أفيرز في عدد مايو /يونيو 2021 تحت عنوان "العصر النووي الجديد: كيف يهدد تنامي الترسانة النووية الصينية استراتيجيات الردع؟. إذ يسلط الضوء على تطورات المشهد العالمي، فيما يتعلق بالتسلح النووي، وما تبعها من تراجع لنظريات الردع التي كانت تتسم بها المنظومة الدولية في صورتها التقليدية إبان الحرب الباردة، والفترة اللاحقة لها.
إعادة التموضع الصيني:
يُمثل التوجه الصيني الراهن لبناء صوامع للصواريخ البالستية العابرة للقارات، نقطة تحول في ميزان القوة النووية العالمية، إذ يحول بكين وضعية الدولة النووية الثانوية إلى منافس نووي عالمي ثالث إلى جانب كلٍ من الولايات المتحدة وروسيا. واتضح توجه الصين إلى تطوير ترسانتها النووية منذ يونيو 2021، من خلال صور الأقمار الصناعية التي رصدت بناء 120 صومعة للصواريخ الباليستية على حافة صحراء جوبي و110 صوامع صواريخ أخرى قيد الإنشاء في هامي بمقاطعة شينجيانغ، وهو ما سيجعل لدى الصين القدرة على مضاعفة ترسانتها لنحو يقرب من أربعة أضعاف بموجب (1000) سلاح نووي خلال عام 2030، وهو رقم سيجعل الصين أعلى بكثير من أي قوة نووية أخرى باستثناء روسيا والولايات المتحدة.
ويُشكِّل حصول الصين على مكان قوة نووية عظمى حالة من الخلل في التوازن الدقيق في النشاط النووي العالمي، ولا يقتصر سعي الصين فقط على بناء الصوامع الخاصة بالأسلحة النووية، لكنها عملت على تطوير صاروخ جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارة، والتي تتصف بالقدرة على التسلح بما يصل إلى عشرة رؤوس حربية نووية من طراز MIRVed، علاوة على تحديث قوتها الصاروخية وأسطولها من القاذفات بعيدة المدى بهدف إنشاء ثالوث قوي من أنظمة التوصيل النووية - البرية والبحرية والجوية - وهي القدرة التي تمتلكها حتى الآن روسيا والولايات المتحدة فقط.
وقد تكون التطلعات الصينية فيما يتعلق بالملف النووي نقطة فاصلة للقوى الأخرى نحو تحرك مماثل لتطوير وتحديث وتوسيع ترسانتهم النووية، وذلك في إطار مواجهة البرنامج النووي الصيني، كما هي الحال بالنسبة "للهند" التي تعمل على زيادة قوتها النووية بشكلٍ كبير. من زاوية أخرى، هناك مساع من جانب باكستان لتطوير ترسانتها النووية، وهو ما قد يفعله حلفاء واشنطن مثل، اليابان وكوريا الجنوبية، ولا شك أن تلك التطورات ستزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار.
توازن القوة النووية:
اتسم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى مدار الحرب الباردة بوضعية من التوازن في القوة النووية رسَّخت خلالها الولايات المتحدة وروسيا مبدأ الردع الموسع تحت المظلة النووية، والتي تقوم على تجنب أي تصور بين الدول بأن قواتها النووية أقل من الطرف الآخر. ففي حين سعى الاتحاد السوفييتي السابق إلى توسيع ترسانته النووية، خاصة فيما يتعلق بالأسلحة النووية الحرارية في الفترة المبكرة للحرب البادرة، كان هناك تحرك أمريكي لإيجاد الطرق الملائمة لتعزيز الردع، وذلك من خلال استراتيجية التدمير المؤكد المتبادل.
ينبع هذا التكتيك من وضعية التقدم في توجيه الصواريخ الباليستية لكلٍ من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، والقدرة على تنفيذ هجوم نووي "مضاد" على الترسانة النووية للطرف الآخر، وبالتالي من المحتمل أن يهدد فعالية أي هجوم بضربة ثانية. وتفاقمت هذه المخاوف من خلال ظهور صواريخ متعددة قابلة للاستهداف بشكلٍ مستقل، مما يعطى ميزة نسبية للطرف المعتدي تُعرف باسم "نسبة تبادل التكلفة"، والتي يحقق من خلالها تدمير العشرات من أسلحة منافسة باستخدام عدد قليل فقط من الأسلحة الخاصة به، وبالتالي تغيير حالة التكافؤ التي كانت موجودة من قبل بشكل كبير.
وفي ضوء اتباع كل من روسيا والولايات المتحدة تكتيك إبقاء بعض قواتهما النووية في حالة تأهب قصوى فيما يُعرف بوضعية "الإطلاق عند التحذير"، فقد أدت حالة الخوف من عواقب الحرب النووية إلى ضبط سياق المنظومة العالمية، والحيلولة دون الانزلاق في حرب نووية، وهو ما أنتج بصورة كبيرة وضعية استقرار للنظام ثنائي القطبية وساعد كثيراً في تجنب نشوب صراع نووي لما يقرب من 70 عاماً.
تداعيات متباينة:
إن وضعية التقدم الملحوظ في الترسانة النووية الصينية يضع العالم أمام تداعيات كثيرة يمكن توضيحها، كالآتي:
- تجاوز النظام النووي ثنائي القطبية: إن امتلاك الصين السلاح النووي وتوسيع ترسانتها من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، من شأنه أن يقلب نظام الطاقة النووية ثنائي القطبية، والذي دام لنحو 73 عاماً من بداية التجربة النووية الأولى للاتحاد السوفييتي لنظام نووي مفتوح، ومن ثٌم قد يُحدث حالة من عدم الاستقرار، وربما الانزلاق لحرب نووية في ضوء تراجع استراتيجيات الردع أمام تنامي القوى النووية، ولعل هذا التعدد سوف يؤدي إلى افتقاد التوازن والتكافؤ النووي العالمي.
- تراجع مصداقية المظلة النووية الأمريكية: إن وضعية المظلة النووية التي كانت تتبعها واشنطن إبان الحرب الباردة والقائمة على تعزيز الدفاع الجماعي وتثبيط الانتشار مع الرد على أي هجوم من جانب موسكو على دول الحلفاء، سوف تشهد حالة من التصدع والتراجع خاصة في ضوء النظام ثلاثي الأقطاب، خاصة أن هناك احتمالية تعرض الحلفاء الرئيسيين مثل: ألمانيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، للضغط من قبل الصين أو روسيا في ضوء تراجع قدرة واشنطن للدفاع عنهم؛ وهو ما سيؤدي إلى مساعي تلك الأقطاب للانخراط في معادلة التسليح النووي، وما قد تنتج عنه من حالة عدم التكافؤ.
- سباق تسلح ذو صبغة نووية: إن التوسعات النووية الصينية وتنافسها مع القطبين الرئيسيين (الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا) تُنذر بحدوث سباق تسلح نووي، خاصة في ضوء تطلع الكثير من الأقطاب الفاعلة على الساحة الدولية لإعادة إيجاد موطئ قدم لها على خريطة الانتشار النووي، الأمر الذي يفتح المجال واسعاً أمام مزيد من القوى النووية؛ مما يُقلص معه فرص الاستقرار والسلام العالمي، وهو ما يؤدي إلى حالة من الإرباك في توازن القوة النووي، وهذا الأمر يتطلب القوة على تقييد امتلاك الأسلحة النووية ليس لخصم واحد بل لطرفين مختلفين.
- خلل في الردع النووي: إن الردع النووي وتوازن القوة النووية كان بارزاً في ظل ثنائية القطبية خلال الحرب الباردة، حيث كان لكل من روسيا (الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت) والولايات المتحدة الأمريكية القدرة على الحفاظ على استراتيجية الردع، فقد قامت القوتان العظمييان ببناء ترسانات نووية تتجاوز 20,000 قطعة سلاح، والتي شهدت انخفاضاً أثناء محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية عام 1969 لتصل لنحو 1550 سلاحاً نووياً، وهو الأمر الذي انعكس على قدرات الدول الأخرى بتخفيص ترساناتها النووية كما هي الحال بالنسبة لكل من (الصين، وفرنسا، والمملكة المتحدة).
ومن ثم فإن هذه الميزة التنافسية الثنائية ساهمت بقدر كبير في خلق حالة من التكافؤ من حيث القدرة على التأثير والحجم المماثل لتعزيز الردع واستقرار الأزمات، بيد أن التطورات التي تشهدها الصين فيما يتعلق بملفها النووي تتطلب قدراً من تحديث الردع النووي والعمل على إيجاد سبل للتفكير حول توازن القوى النووية والحفاظ على السلام النووي، ويقوم الردع هنا على هدفين الأول تثبيط الخصم من اتباع مسار عمل معين، والثاني يتجلى في الإكراه عبر الضغط على الخصم لكي يسلك مسار عمل محدد.
معالجة الانفتاح النووي:
في ظل التعددية الراهنة فيما يتعلق بالدول الساعية لتوسيع ترسانتها النووية، يرى كريبينفيتش أن معالجة هذا الأمر تكمن في العودة لاتفاقيات الحد من التسلح، والتي من شأنها أن تفرض قيوداً منخفضة نسبياً على الأسلحة النووية المنتشرة، كما هي الحال بالنسبة لمعاهدة "ستارت الجديدة"، والتي قد تخفض سقف حواجز الدخول أمام القوى الأخرى التي تسعى للحصول على وضع القوة النووية العظمى. وهنا تواجه الولايات المتحدة التحدي المُتمثِّل في تشكيل رادع نووي فعَّال ليس فقط ضد الترسانات الصينية والروسية ولكن أيضاً ضد ترسانات باكستان أو كوريا الشمالية أو كلتاهما، ويمكن لهذا المسار أن يقوض الانتشار المتنامي للأسلحة النووية.
وتتمثل إحدى الطرق الممكنة لمنع طموحات الصين النووية في تبني روسيا والولايات المتحدة ترسانات أكبر بكثير، لكن مع الحفاظ على مستوى قوة نووية كان أقرب إلى مستوى الاتحاد السوفييتي أو الولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة، بمستوى اتفاقية ستارت الأصلي البالغ 6000 سلاح منتشر، وهو الأمر الذي سينشئ حاجزاً أعلى بكثير للدول الأخرى الساعية للانضمام إليهم.
أيضاً يمكن أن يتم استبدال الصين بروسيا في النظام ثنائي القطبية، وأن تكون وجهاً جديداً، وهذا المسار قد ينجم عن الوضعية الاقتصادية الروسية المتدهورة داخلياً مقارنة بالصين والولايات المتحدة، الأمر الذي يتيح المجال أمام واشنطن وبكين للتحرك إلى مستويات أعلى بكثير من تلك التي تمتلكها روسيا حالياً، مما يجعل موسكو غير قادرة على مواكبة ذلك. في مثل هذه النتيجة، سيتعين على الصين والولايات المتحدة السير في طريقهما إلى توازن جديد ثنائي القطب.
ختاماً؛ يرى كريبينفيتش أن المنظومة العالمية اتسمت بوضعية ثنائية القطبية النووية خلال النصف قرن الماضي، إذ حققت نجاحاً كبيراً في تجنب استخدام الأسلحة النووية، وأسهم هذا الوضع في بناء قدر من الاتزان والمرونة في الحفاظ على الاستقرار في حالات الأزمات الأكثر صعوبة، لكن الوضعية الراهنة والبيئة الاستراتيجية الجديدة وتعددية الأقطاب النووية سوف تؤدي إلى هشاشة المنظومة الدولية، وستتطلب معها إعادة النظر في الخطط الحالية لتحديث الرادع النووي القديم للتصدي للتحديات التي يفرضها سلاح بكين، مع بذل جهد فكري مستدام لإيجاد طرق للتخفيف من عدم الاستقرار المتزايد، وكذلك العمل على إعطاء الأولوية لتحديد طرق تعويض تآكل استقرار خصائص العصر ثنائي القطب، ومنع النظام الثلاثي الأقطاب من التحول إلى نظام أكثر فوضوية من القوى النووية الكبرى المتعددة.
المصدر:
Andrew F. Krepinevich, Jr.. The New Nuclear Age: How China’s Growing Nuclear Arsenal Threatens Deterrence, foreign affairs, Volume 101, Number 3, MAY/JUNE 2022, p – p: 92 – 104.