برزت "القيادة الجماعية" باعتبارها من الحلول المُعتمدة لتجاوز إشكاليات الثقة بين الفواعل في دول الأزمات بالشرق الأوسط، وفي هذا الصدد كانت "المجالس الرئاسية" الصيغة الأوضح من ضمن نماذج "القيادة الجماعية" التي تم اللجوء إليها في هذه الدول. ومع إعلان الرئيس اليمني السابق، عبد ربه منصور هادي، في 7 أبريل 2022، تشكيل "مجلس القيادة الرئاسي" لقيادة البلاد في المرحلة الانتقالية، وتصدر "المجلس الرئاسي" هرم السلطة في ليبيا لعدة سنوات، بالإضافة إلى اعتماد السودان ذات النمط المتمثل في "مجلس السيادة" منذ عام 2019؛ تتزايد أهمية البحث في دوافع وأنماط انتشار تلك الصيغة، والفرص والتحديات المتصلة بتبنيها لتجاوز أزمات الانتقال المتعثر في الإقليم.
أنماط متعددة:
تتنوع أنماط "المجالس الرئاسية" في دول الأزمات بالشرق الأوسط، فبعضها وصل إلى السلطة بمسارات انتخابية، فيما تشكل الآخر بطرق غير الانتخاب. وبينما تشكل بعضها من قوى ومكونات مدنية، فإن الآخر يضم مكونات عسكرية، وهناك نوع ثالث يُعد خليطاً بين المكونين المدني والعسكري. وتتضح أبرز أنماط تشكيل "المجالس الرئاسية" في دول الأزمات بالإقليم، في الآتي:
1- التجربة الليبية: تشكل مجلس الرئاسة الليبي الأول بعد اعتماد لجنة الحوار للاتفاق السياسي أو اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، والذي نص على تشكيل "مجلس رئاسة الوزراء"، ليضم 9 أعضاء، هم رئيس حكومة الوفاق آنذاك، فايز السراج (رئيساً)، و5 من نوابه، و3 وزراء (كأعضاء). وكان المجلس يمارس مهام القائد الأعلى للجيش، وتعيين وإعفاء رئيس جهاز المخابرات والسفراء وكبار موظفي الدولة، وإبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وإعلان حالة الطوارئ والحرب.
ومع اعتماد منتدى الحوار السياسي بجنيف خريطة الطريق الأممية بشأن ليبيا في نوفمبر2020، تم انتخاب مجلس رئاسي جديد تسلم السلطة من مجلس رئاسة الوزراء بحكومة الوفاق في 5 فبراير 2021، وضم 3 أعضاء هم محمد المنفي كرئيس للمجلس (الشرق)، وعبدالله اللافي نائباً للرئيس (الغرب)، وموسى الكوني نائباً للرئيس (الجنوب). ويمارس المجلس الرئاسي الحالي السلطات التي أُسندت لمجلس رئاسة حكومة الوفاق السابقة، بالإضافة إلى إطلاق مسار المصالحة الوطنية، والمشاركة في تسمية وزيري الدفاع والخارجية مع رئيس الحكومة.
2- النموذج السوداني: أعلنت القوات المسلحة السودانية، في أبريل 2019، تشكيل "المجلس العسكري الانتقالي" لإدارة البلاد لمدة عامين، وذلك برئاسة وزير الدفاع آنذاك، عوض بن عوف، وعضوية قادة بالجيش والمكونات العسكرية السودانية الأخرى. ومع استمرار الاحتجاجات المُطالبة بتسليم السلطة لقوى مدنية، أصدر المجلس العسكري في أغسطس 2019 مرسوماً دستورياً بتشكيل "مجلس السيادة" لرئاسة البلاد، ويضم 11 عضواً بينهم 5 عسكريين، لتمتد المرحلة الانتقالية نحو 39 شهراً، على أن يتولى الفريق أول عبدالفتاح البرهان رئاسة هذا المجلس (مُمثلاً للمجلس العسكري) لمدة 21 شهراً، ثم يترأسه شخصية مدنية لمدة 18 شهراً. وفي ظل استمرار الأزمات والاحتجاجات في السودان، أصدر الفريق أول البرهان في نوفمبر 2021 مرسوماً دستورياً يقضى بإعادة تشكيل مجلس السيادة الانتقالي، ليضم 14 عضواً بينهم 5 عسكريين.
3- الحالة اليمنية: أعلن الرئيس اليمني السابق، عبد ربه منصور هادي، في 7 أبريل 2022، تشكيل "مجلس القيادة الرئاسي"؛ لاستكمال تنفيذ مهام المرحلة الانتقالية، وفوض للمجلس صلاحياته الرئاسية تفويضاً لا رجعة فيه. ويرأس هذا المجلس رشاد العليمي، ومعه 7 أعضاء يمثلون معظم القوى السياسية والمجتمعية والقبلية المؤثرة في جبهة الشرعية. ولدى مجلس القيادة الرئاسي مهام عديدة، وعلى رأسها توحيد الشرعية، وإدارة الدولة سياسياً وعسكرياً وأمنياً خلال المرحلة الانتقالية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، والتفاوض مع الحوثيين لوقف إطلاق نار دائم، مع وضع الخيار العسكري كبديل للتعامل مع الميليشيا الانقلابية في حالة رفضها الحل السياسي.
دوافع مُركبة:
يمكن تفسير تبني صيغة "المجالس الرئاسية" كآلية لإدارة المرحلة الانتقالية في عدد من دول الأزمات، على غرار ليبيا والسودان ثم اليمن مؤخراً، من خلال مجموعة متنوعة من الأسباب والدوافع، وأبرزها الآتي:
1- تصارع القوى والنخب السياسية: صعدت حركات الاحتجاج الجماهيري من حدة الاستقطاب السياسي في دول الأزمات؛ حيث تنافست النخب والتيارات الصاعدة على النفوذ، بالإضافة إلى الصراع الكامن بين القوى الجديدة ونظيرتها القديمة، ما خلّف سيولة مُزمنة وإشكاليات متفاقمة في هياكل السلطة. ومع تلاشي فرص حسم هذا الصراع، اتجهت تلك النخب للبحث عن صيغ جماعية لإدارة المراحل الانتقالية؛ لتجاوز العراقيل الموجودة، وضمان مشاركتها في السلطة وعدم إقصائها، إلى حين الاتفاق على صيغة نهائية للحكم. وهنا كانت المجالس الرئاسية الصيغة الأكثر ملاءمةً لإدارة هذا التنافس في المراحل الانتقالية العثرة. وكان المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية السابقة أحد نماذج هذا الطرح، حيث توافقت على تشكيله القوى والتيارات المتصارعة في عام 2014، عقب تراجع تيارات الإسلام السياسي مقابل القوى الليبرالية في انتخابات مجلس النواب، وتفجر الأوضاع الميدانية؛ وهو ما مثّل حينها توافقاً مرحلياً في محاولة لإنهاء الانقسام والصراع متعدد الأبعاد.
2- تصاعد الانقسام الجغرافي والمناطقي: قادت هيمنة ممثلي بعض الأقاليم والمكونات الاجتماعية على السلطة، تاريخياً وفي مرحلة ما بعد الاحتجاجات، إلى تشكل حركات وتجمعات مُعبرة عن مصالح المناطق والمكونات المهمشة؛ لضمانة المشاركة وألا تُقصى عن المشهد الجديد، وتعويضها عما تعرضت له من تهميش أو مظالم سابقة، من وجهة نظرها. ومع خصوصية المحددات الاجتماعية والمناطقية في دول الإقليم، مثّلت صيغة المجالس الرئاسية مساراً انتقالياً ربما يُعد مقبولاً من جانب تلك المكونات؛ إذ ضمنت تمثليها في السلطة ولو بشكل مؤقت، وأن تحظى بحصة بباقي هياكل ومؤسسات الدولة. ومثال على ذلك، يُعد مجلس القيادة الرئاسي في اليمن صيغة تمثيلية لمعظم الأقاليم الرئيسية المُعتمدة، ناهيك عن ضمه لممثلين عن الجنوب والشمال. كما تشكل المجلس الرئاسي الليبي لتحقيق التمثيل المتوازن بين الأقاليم الجغرافية التاريخية الثلاثة، برقة شرقاً وطرابلس غرباً وفزان جنوباً، فلكل منها ممثل يُعبر عن مطالبه ويدافع عن أهدافه.
3- مُعضلة إدارة العلاقات المدنية - العسكرية: شهدت العديد من ساحات الأزمات إشكالية مُركبة تتعلق بإدارة أدوار الفاعلين، العسكريين والمدنيين، ونمط مشاركتهم سيطرتهم على إدارة المراحل الانتقالية، خاصة في ظل النفوذ الذي طالما حظيت به المؤسسات العسكرية في هذه الدول، وتقابله طموحات وتطلعات من جانب التيارات المدنية الصاعدة. وقد فاقم ذلك من مُعضلة العلاقات المدنية - العسكرية، وأدى أحياناً إلى وقوع موجات صدام ومواجهات متكررة في بعض الدول، أفضت إلى ضرورة تعديل نمط القيادة السائد في تلك الدول، والذي ربما كان يتمتع فيه العسكريون بحظوظ أوفر في فترات سابقة، ليشمل دوراً موازياً للقوى والتيارات المدنية. ومثّلت صيغة المجالس الرئاسية مخرجاً ملائماً ولو مؤقتاً من هذه المُعضلة. ففي السودان، على سبيل المثال، كان تبني مُقاربة مجلس السيادة مساراً لتخفيض حدة الاحتجاجات والدعوات لتسليم السلطة للمدنيين، وحتى مع إدخال تعديلات على تشكيل مجلس السيادة، ظل تمثيل المكونات المدنية موجوداً فيه، بينما يحتفظ المكون العسكري برئاسة المجلس، ما يجعلها صيغة انتقالية توازن بين تطلعات الحراك وأدوار المكونات العسكرية.
وفي ضوء ذلك، صارت المعطيات السابقة إطاراً حاكماً لتوجهات القوى الفاعلة في أزمات الشرق الأوسط، ما عزز من فقدان الثقة بين الأطراف والقوى الداخلية، وبينما بحث بعضها عن تأمين مواقعه وتحصين مكتسباته، ذهب الآخر إلى فرض وجوده في المشهد وتفويت الفرصة على الراغبين في إقصائه. وهذا ما جعل نماذج القيادة الجماعية، خاصة صيغة "المجالس الرئاسية"، الطرح المؤقت الأكثر قبولاً بين القوى الفاعلة في الأزمات الإقليمية في ظل تعثر محاولات إنهاء المراحل الانتقالية.
فرص مُتاحة:
يعكس الاعتماد المتزايد على صيغة "المجالس الرئاسية"، جُملة من الفرص المُقترنة بهذا النموذج؛ لمحاولة تجاوز تعثر المراحل الانتقالية في دول الأزمات بالإقليم، ومن أبرز تلك الفرص ما يلي:
1- تجاوز إشكاليات التمثيل وتقريب الفرقاء: تُعد "المجالس الرئاسية" حلاً وسطاً قد يخفض حدة أزمة الثقة والحاجة لإنتاج سلطة تقود البلاد خلال المراحل الانتقالية، بالإضافة إلى كونها صيغة ضامنة لتمثيل كل أو على الأقل معظم القوى والمكونات الفاعلة والمتنافسة على حصد النفوذ، علاوة على أنها قد تكون البديل المناسب في ظل اندلاع المواجهات العسكرية في بعض الدول، وما يقترن بها من انسداد للمسارات السياسية. وهذا ما يحقق درجة ملائمة من التقارب بين الفرقاء، يمكن البناء عليها لتحقيق نطاق أوسع من التوافق، والتمهيد لاختراق المعضلات والإشكاليات المُعطلة للتسوية الشاملة وإنهاء الصراعات.
2- الدعم الخارجي لتشاركية القيادة: قد تدعم الفواعل الإقليمية والدولية صيغة "المجالس الرئاسية"؛ حيث إنها ربما تعزز من فرص الحل السياسي للأزمات بعيداً عن ميادين الاقتتال والاحتراب الداخلي، والتي قد تمتد تداعياتها في دول الأزمات إلى الجوار. كما تحقق هذه الصيغة للفواعل الإقليمية والدولية ضمانة لتمثيل القوى والمكونات المرتبطة برؤيتها لمستقبل الأزمة، وتحتفظ لها بتأثير مباشر أو غير مباشر في صياغة الترتيبات والخطط المطروحة للتسوية، فضلاً عن كونها وسيلة مُفضلة لضمان عدم صعود فرد أو قوة للسلطة قد تنفرد بصناعة القرار في تلك البلدان خلال المراحل الانتقالية المهمة والتي تشهد الاتفاق على وضع الدستور وبناء مؤسسات الدولة.
تحديات مُعطلة:
على الرغم مما تمثله "المجالس الرئاسية" من فرص واعدة، فإنها تقترن من ناحية أخرى بمجموعة من التحديات التي ربما تعرقل نجاحها في دول الأزمات بالإقليم، ومن بينها الآتي:
1- إطالة أمد النزاعات والمراحل الانتقالية: تعكس الخبرة الإقليمية لتبني نماذج القيادة الجماعية، تحول أزمات الشرق الأوسط إلى صراعات طويلة المدى، حيث تتبلور لدى الفاعلين - داخلياً وخارجياً - رغبة في الاحتفاظ بالوضع الراهن دون تغيير؛ خوفاً من الارتداد عما جرى إنجازه من تفاهمات وترتيبات قد تكون قد أفضت إلى وقف الاقتتال، وتلافياً لانفراد قوى مناوئة أو منافسة بالسلطة ما يمثل تهديداً لمصالح الآخرين، أو الوقوع في دائرة فراغ السلطة حال عدم الوصول لصيغة إدارة تحقق قبول الأطراف كافة. وهذا ما يفسر مثلاً استمرار الاعتراف الدولي بـ "مجلس رئاسة حكومة الوفاق" في ليبيا حتى عام 2021، بالرغم من انتفاء صفته دستورياً وقانونياً قبل ذلك بسنوات.
2- مأسسة المحاصصة: عززت القيادة الجماعية من مأسسة المحاصصة في هياكل السلطات الوطنية بدول المنطقة، ما يهدد بتصاعد اتجاهات ودعوات التقسيم، اجتماعياً ومناطقياً وسياسياً، حال بروز أية ترتيبات قد تُغير من الوضع القائم. وبذلك، تصبح "المجالس الرئاسية" بمنزلة ضمانة هشة لوحدة الدولة الوطنية، وتخرج عن كونها نموذجاً انتقالياً يقود الدولة من مرحلة الصراع إلى الاستقرار، لتصبح صيغة لتقاسم السلطة والمناصب. علاوة على تجذر فكرة المحاصصة في مؤسسات الدولة، ما يُضاعف مخاطر الانقسام في حال طرح أية مشروعات للتسوية الشاملة، إذا رأى أي طرف أنها ستفقده مكتسباته ونفوذه.
3- عدم الانسجام بين أعضاء المجالس: تستند قوة أية "مجلس رئاسي" إلى مدى تماسكه داخلياً، وقدرته على الموازنة بين اتجاهات الفاعلين في بلاده. ونظراً لكونها في أغلب الحالات تكون مجالس خليطة من القوى السياسية والمجتمعية التي ربما يكون بعضها حديث العهد بالسلطة، أو ممثلة لمكونات وتيارات متنافسة ومختلفة أيديولوجياً؛ قد تصبح "المجالس الرئاسية" أداة معرقلة وليس مساعدة في إدارة المراحل الانتقالية للدول، خاصة إذا انحازت لأحد الأطراف المتنافسة كما حدث في ليبيا إبان عهد حكومة الوفاق السابقة برئاسة السراج. ويُضاف إلى ذلك، إمكانية تصدع هياكل تلك المجالس، في حال ضغط القوى والتيارات على ممثليها للانسحاب منها، أو هيمنة أحد المكونات على بقية الأعضاء، أو استفحال التجاذبات والتباينات في مواقف المجالس.
إجمالاً، يمكن القول إن "المجالس الرئاسية" صارت إحدى الأدوات البارزة في إدارة المراحل الانتقالية في بعض دول الأزمات والصراعات بالإقليم، ولكن تحولها أحياناً لنموذج يستهدف فقط تحصين المواقع والنفوذ بين الأطراف الفاعلة، دون توظيفها كوسيلة لتجاوز الانتقال العثر وتحقيق الاستقرار المنشود؛ قد يُضاعف من مخاطر الارتداد إلى مربع الانقسام والاقتتال، ويقوض فرص التسوية الشاملة في هذه الدول.