عندما تم الإعلان عن بدء عملية عسكرية روسية تجاه أوكرانيا بدأت الدول الغربية تستعد لهذه العملية قبل إتمامها بحوالي شهرين، وذلك بالنظر إلى عملية انتشار القوات الروسية وطبيعة الحشد العسكري الروسي قرب الحدود الأوكرانية، والتي قدرتها الدوائر الغربية المعنية العسكرية والاستخبارية بحوالي 150 ألف جندي روسي، ومعدات ضخمة لا تكفي لعملية عسكرية محدودة، وقدرت أن العملية العسكرية الروسية ستكون على اتساع أوكرانيا.
حلف شمال الأطلنطي والحرب الأوكرانية:
بدأت دول حلف شمال الأطلسي، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا بالدرجة الأولى، الاستعداد لمواجهة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فقامت حسب التقارير الاستخباراتية التي ظهرت لاحقاً بعمليات تدريب واسعة لمجموعات عسكرية أوكرانية على أسلحة مضادة للدبابات والطائرات، وتم نقل معدات عسكرية من حلف الأطلسي عبر بولندا وسلوفاكيا بالتحديد إلى داخل أوكرانيا استعداداً لهذه العملية.
وعندما بدأت العملية العسكرية الروسية، كما وضح من سير العمليات في الأسابيع الثلاثة الأولى، كان هناك انتشاراً واسعاً واندفاع للقوات من ناحية الشرق والجنوب وكذلك الشمال باتجاه العاصمة كييف. بعد الأسبوع الثالث بالتحديد أدركت روسيا أنها لا تحارب أوكرانيا وحدها، وإنما تحارب حلف شمال الأطلنطي بأكمله والذي تتوقف قواته عند الحدود الأوكرانية حتى لا يحدث التصادم المباشر بين الطرفين وتعطي مبرراً لروسيا لاستخدام ما لوحت به من أسلحة دمار شامل، ورفع درجة التوتر العالمي بصورة كبيرة. لكن هذه الفترة استمر نقل الأسلحة الأكثر تطوراً في العالم من دول حلف شمال الأطلنطي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى داخل أوكرانيا.
وتمثلت هذه الأسلحة في قاذفات الصواريخ المضادة للدبابات والدروع من طراز جافلين (النسخة الأمريكية الأحدث)، وكذلك القاذفات المضادة للدبابات التي أنتجتها بريطانيا بالتعاون مع السويد، وهو الصاروخ الأكثر تطوراً في العالم، إذ أنه قادر على تدمير الدبابات الأكثر تدريعاً وقوة. وقدرت مصادر أخرى أن عدد الصواريخ المضادة للدبابات والدروع التي قدمت الى أوكرانيا قد تجاوز ثلاثون ألف صاروخ، إلى جانب صواريخ ستينجر المضادة للطائرات، ولم تكتف دول حلف الأطلنطي بذلك ولكنها قدمت الطائرات المسيرة الأمريكية من طراز سويتش بليد 30 وسويتش بليد 60، والتي تسمى بالطائرات المسيرة الانتحارية.
وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك تعاوناً استخباراتياً وعسكرياً كبيراً، فقد قامت أجهزة الاستخبارات العسكرية في حلف شمال الأطلنطي وبريطانيا والولايات المتحدة برصد كل التحركات الروسية والقيام بعمليات اختراق لشبكات التواصل العسكري بين الوحدات العسكرية الروسية، وهو ما مكّن القوات الأوكرانية من توجيه بعض الضربات المؤثرة وآخرها ضرب الطراد موسكوفا أهم قطعة بحرية روسية في البحر الأسود. واستمر تدفق الأسلحة من حلف شمال الأطلنطي إلى أوكرانيا عبر السكك الحديدية بين أوكرانيا ودول الجوار، وهو ما تحاشت روسيا توجيه ضربات إليه، خاصة أنه يمكن أن ترتب خسائر مدنية كبيرة للأوكرانيين الذين يتجهون للجوء إلى دول الجوار.
وهدفت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول حلف شمال الأطلنطي لاستنزاف القوة الروسية بتحويل أوكرانيا لنموذج أشبه بأفغانستان، ومع إدراك روسيا لهذا الهدف وتعديل أهدافها، تطور الهدف ليكون استنزاف القدرات العسكرية المتطورة مثل الصواريخ الفرط صوتية التي اضطرت روسيا لاستخدامها، ويرتبط بهذا أهداف أخرى مثل تقليص قدرة روسيا على بيع الأسلحة والتي تعد أحد المصادر الأساسية لروسيا، بالإضافة لإضعاف روسيا كحليف للصين القوة الصاعدة في مواجهة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الدفع في اتجاه روسيا للتخلي عن حلم تحولها لدولة كبرى والارتضاء بكونها قوة متوسطة.
تطور الخطة الروسية: الدوافع والكيفية
سارت الخطة العسكرية الروسية التي بدأت في محاولة لتغيير نظام الحكم في أوكرانيا رغم أنها لم تعلن عن ذلك متجهة في محاور متعددة كان أهمها المحور المار بمدينة خاركيف وصولاً إلى كييف ولكنها بعد الأسبوع الرابع توقفت، ورصد وجود قافلة طولها أكثر من 40 كيلو مترًا من المدرعات والدبابات الروسية التي توقفت لمدة ثلاثة أسابيع قبل التقدم إلى منطقة كييف، وفسرت دوائر عسكرية متعددة ذلك بالاعتبارات التالية:
1. توقف هذه القافلة يعني أن هناك تراجعاً في الخطة العسكرية الروسية لاحتلال كييف
2. أن هناك إدراكاً روسياً أن عملية استنزاف يجري الترتيب لها من جانب حلف شمال الأطلنطي وبأسلحة متطورة لاستنزاف القوات التي تدخل العاصمة كييف، وهو ما دفع الحملة العسكرية إلى التوقف، ولكنها عكست في ذات الوقت أن استمرار الحملة لمدة أكثر من ثلاثة أسابيع في العراء دون أن تتعرض لضربات جوية يعكس أنها نجحت في تدمير القوات الجوية الأوكرانية بصورة شبه تامة.
في هذه المرحلة شهدت العملية العسكرية نوعاً من التوقف ثم بدأ ملامح لتغيير الخطة والتراجع عن التقدم نحو العاصمة، وتجميع القوات، والاتجاه مرة أخرى إلى منطقة الجنوب. وتزامن مع ذلك أخبار أشارت إليها مصادر استخبارية غربية بأن هناك تغييرًا في القيادات العسكرية والاستخبارية في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ارتبطت بعوامل متعددة من بينها أن هناك عملية اختراق تمت من أجهزة استخبارية لبعض الدوائر العسكرية والاستخبارية نقلت خطط وخرائط التمدد العسكري للعملية، وعكست أيضاً محاسبة لقيادات عسكرية فشلت في تنفيذ الأهداف المحددة، والتي كانت حددتها للقيادة السياسية الروسية.
وانتقلت القوات الروسية بعد ذلك إلى تجميع قواتها في منطقة الشرق والجنوب وإعادة نقل الذخيرة والعتاد وتحسين أوضاعها التكتيكية للتركيز على المنطقة الجنوبية والشرقية التي تتضمن طبقاً للهدف الاستراتيجي السيطرة على الجمهوريتين الانفصاليتين دونيتسك ولوهانسك، وكذا طرد القوات الأوكرانية التي كانت تتركز في بعض المناطق التابعة للإقليم أو محاصرتها أو تدميرها، ثم محاصرة منطقة ماريوبول أهم ميناء عسكري على البحر الأسود في منطقة بحر آزوف، وهو الميناء الأساسي لتصدير الحبوب الأوكرانية لمنطقة آسيا والشرق الأوسط.
وقد تقوم روسيا في إطار هذا الهدف بالتمدد إلى أوديسا بهدف استراتيجي محدد هو تجزئة أوكرانيا وحرمانها من أي إطلالة على البحر الأسود وإفقادها أي موانئ بحرية، وهو ما تستعد له القوات الروسية الآن. وحشدت لذلك مجموعات عسكرية كبيرة، إلا أنها لا تزال توجه عمليات قصف لأهداف بصواريخ أكثر دقة، وخاصة صاروخي كاليبر وإسكندر والصواريخ فرط صوتية إلى مناطق متعددة من بينها مدينة دنيبرو وخاكريف ثم لفيف منذ يومين وكذا داخل العاصمة كييف. وتستهدف الضربات الجوية الحالية بالدرجة الأولى استمرار تشتيت القوات الأوكرانية وعدم توجيه قوات دعم لمنطقة العمليات القادمة في الشرق والجنوب وحرمان أوكرانيا أيضاً من تقديم أي دعم للقوات الموجودة في ماريوبول.
وبإحكام السيطرة على ماريوبول تقريباً، تنتقل العمليات العسكرية الروسية إلى المنطقة التي تليها في ميكولايف وصولاً إلى أوديسا، وستكون هذه المعركة القادمة. أما الضربات التي توجه إلى مدينة لفيف كانت تستهدف إعطاء إشارة لمسار القوات والأسلحة التي تدخل عبر بولندا بأن روسيا يمكن أن تضرب هذه الحملات التي تنقل الأسلحة، وهو ما أعلنته صراحة.
وتركز العقيدة الروسية في تقدير الكثيرين على مبدأ التصعيد من أجل احتواء التصعيد، وبالتالي هناك تركيز على أن تصعد العمليات في منطقة الشرق، نظراً لأنها خطوط الإمداد قريبة من الأراضي الروسية وغير معرضة لضربات أوكرانية، ونجحت هذه الخطة في الاستيلاء على ماريوبول لتصبح هي أول مدينة استراتيجية تم الاستيلاء عليها منذ بداية الحملة العسكرية حتى الآن، وهو ما يمكن أن يعطي لروسيا زخماً أن تقول إنها حققت نوعاً من الانتصار، خاصة أن المقاتلين في ماريوبول كانوا فوج الحرس الوطني الذي تتهمه روسيا بأنه القوات النازية، وبالتالي القضاء على هذ الفوج يصبح ورقة في يد روسيا تقول للداخل إنها حققتها.
كما أن السيطرة على بحر آزوف يعني انتهاء الاحتكاك الذي كان قائماً بين روسيا وأوكرانيا في هذا البحر، وتأمين منطقة القرم، وتوفير الامتداد الارضي لجزيرة القرم إلى روسيا، وهي كلها مكاسب يمكن أن تزايد القيادة السياسية الروسية بعد الفشل في تحقيق الأهداف الرئيسية التي كانت تستهدفها من تغيير النظام في أوكرانيا والوصول إلى العاصمة، حيث إنها لم تجد تأييداً شعبياً لذلك.
وقد أدت العملية في مجملها في النهاية إلى إذكاء الروح الوطنية الأوكرانية عكس ما كان تتصور روسيا، ولكن سيبقى النجاح الأبرز لروسيا في الدونباس، إذ سيكون من الصعب على الجيش الأوكراني نقل إمدادات كافية لمواجهة العملية العسكرية في الشرق والجنوب وبالتالي ستكون هناك فرص لتحقيق القوات الروسية نوعاً من الإنجاز في هذا الميدان العسكري، وربما تستمر المعارك حسب التقديرات لعدة شهور قادمة.
وإذا نجحت روسيا في التمدد إلى أوديسا، وهو أمر مشكوك فيه، في ظل تقديم مساعدات عسكرية غربية مكثفة في الاسابيع الأخيرة إلى أوديسا وتحويلها إلى مدينة يمكن استنزاف القوات الروسية داخلها، ولكنها يمكن أن تسمح بالذهاب إلى مفاوضات ستكون صعبة ولن يتحقق فيها الإنجاز بصورة سريعة.
الخلاصة:
إن الحرب الروسية طالت لأسباب متعددة من أهمها نجاح قوات حلف شمال الأطلنطي والولايات المتحدة وبريطانيا بالتحديد في الاستعداد لتلك الحرب وترتيب عملية استنزاف القوات الروسية، والقوات الروسية انتبهت لذلك مؤخرًا بعض مضي شهر تقريبا فأعادت تغيير استراتيجيتها لتلك العملية وبدأت التركيز على منطقة الجنوب والشرق كهدف رئيسي ووحيد في الوقت الحالي، إلا أنها لا تزال تقوم بعمليات ضربات لمدن مثل خاركيف؛ لأنها تحتوي على مصانع لإعادة تصنيع وتجميع الدبابات والتركيز على ماريوبول باعتبارها ميناءً حيوياً وبها أكبر مصنع فولاذ في أوروبا يمكن بالاستيلاء عليها يعطي روسيا ثقلا في تسويق الفولاذ، وموقفاً دولياً كبيراً على حساب أوكرانيا.
في التقدير أن روسيا لم تحقق أهدافها العسكرية التي كانت ترجوها مع بداية العملية العسكرية سوى الاتفاق على عدم انضمام أوكرانيا الى حلف الاطلنطي في الوقت الحالي وعدم امتلاكها لسلاح نووي. إلا أن من النتائج غير المتوقعة للعملية العسكرية أنها أعادت تماسك حلف شمال الأطلنطي بصورة غير مسبوقة، فقد كان الرئيس الفرنسي صرح قبل بداية مثل هذه العمليات أن حلف الأطلنطي يعاني من أزمة دماغية، إلا أنه الآن أكثر تماسكًا.
ودفعت العملية العسكرية في آثارها الجانبية أيضًا إلى مزيد من تسلح الدول الأوربية وبخاصة ألمانيا التي زادت من اعتماداتها للتسليح، واستفادت من ذلك كل مصانع السلاح الأمريكية والبريطانية بالدرجة الأولى من خلال مليارات متدفقة عليها، والأكثر من ذلك أن الحلف تمدد عسكريًا في الدول المجاورة لروسيا بصورة غير مسبوقة من خلال تمركز قوات أمريكية وقوات للحلف في هذه الدول، وأكثر من ذلك دفع دول كانت محايدة مثل فنلندا والسويد إلى بحث تقديم طلب للانضمام إلى حلف الأطلنطي، وهو ما يعني تطورات ليس في صالح روسيا.
كما أن العقوبات المفروضة على روسيا غير مسبوقة وتعطي نتائج سيئة للاقتصاد الروسي ربما تؤدي إلى ضعف شعبية النظام إذا لم يحقق إنجازًا ما يقدمه إلى الداخل، ومن هنا كان تركيزه الواضح في العملية العسكرية على دونباس ومرورًا بماريوبول، وإغلاق بحر آزوف ومحور إسناد خريسون وميكولايف وصولًا إلى أوديسا كهدف استراتيجي أكثر تحديدًا وقابلية للتنفيذ حتى يتم تسويقه كإنجاز عسكري داخلي، في مواجهة العقوبات الاقتصادية الغربية.