جرت الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 10 أبريل 2022، حيث تنافس فيها 12 مرشحاً، في أجواء تأثرت كثيراً بنتائج استطلاعات الرأي، وانحسار القوة التمثيلية للأحزاب التقليدية مع تراجع كل من اليمين التقليدي المحافظ ومنافسه التاريخي الحزب الاشتراكي، وأيضاً على وقع تداعيات الحرب الروسية - الأوكرانية التي اندلعت قبل موعد هذه الانتخابات بأقل من شهرين.
دلالات النتائج:
أسفرت نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية، عن بروز الملاحظات التالية:
1- تكرار ثنائية "ماكرون - لوبان": في استعادة لمشهد الانتخابات الرئاسية السابقة نفسه عام 2017، جاء إيمانويل ماكرون في المرتبة الأولى بـ 27.6% من الأصوات، ثم مارين لوبان في المرتبة الثانية بـ 23.4%، ليتأهلا للمنافسة في الجولة الثانية من الانتخابات يوم 24 أبريل 2022، مع ملاحظة بعض الفروقات من حيث تحسين النتائج المسجلة لكلا المرشحين مقارنة بنتائج 2017. كما أن المناظرة المرتقبة بين ماكرون ولوبان لن تتطابق مع المناظرة السابقة، حيث ستحاول زعيمة اليمين المتطرف التركيز على حصاد الولاية الرئاسية الأولى لماكرون، وانتقاد تبنيه رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً.
2- الاتجاه نحو "التصويت المُفيد": تمكن 3 مرشحين (هم إيمانويل ماكرون، مارين لوبان، وجان لوك ميلينشون) من تخطي عتبة الـ 20% من أصوات الناخبين، فيما جاءت أرقام المرشحين التسعة الآخرين تحت عتبة الـ 10% وبينهم مرشح واحد بين الـ 5% والـ 10% هو إريك زمور بحوالي 7%. ويرجع السبب في ذلك إلى جنوح شرائح واسعة من الناخبين إلى استخدام "التصويت المُفيد"، حيث تم رصد 3 اتجاهات لهذا النوع من التصويت؛ أولها من جمهور اليسار والحزب الاشتراكي باتجاه مرشح حزب "فرنسا غير الخاضعة"، جان لوك ميلينشون، باعتباره كان الأقرب من الناحية المنطقية للوصول إلى الدور الثاني في الانتخابات، وهو ما أدى إلى تدهور في حصيلة الأصوات التي نالها الحزب الاشتراكي مقارنة بتلك التي كان ينالها تاريخياً، حيث نالت مرشحة الحزب، آن هيدالغو، نحو 1.7% من أصوات الناخبين.
وتمثل الوجه الثاني من "التصويت المُفيد" في جنوح شرائح كانت تُصوت لحزب الجمهوريين اليميني، في اتجاه التصويت لصالح ماكرون، مما أدى الى تقهقر مرشحة هذا الحزب، فاليري بيكريس، إلى ما دون عتبة الـ 5%، وذلك بحصولها على 4.8%؛ مما قد يعني عدم قدرة حزبها على استرجاع مصاريف حملته الانتخابية. أما الاتجاه الثالث من "التصويت المُفيد"، فتم رصده في الكتلة الناخبة التي كانت تنوي التصويت للمرشح إريك زمور، حيث إن معظم استطلاعات الرأي كانت في بداية الحملة تعطيه أكثر من ضعف الأصوات التي حصل عليها وتُقدر بحوالي 7%، واتجاهها نحو مرشحة التجمع الوطني، مارين لوبان. ويعود أسباب الجنوح نحو هذا النوع من التصويت إلى التغير الذي طرأ على طبيعة الناخبين، حيث أصبحوا أقل التصاقاً بأحزابهم وأكثر تأثراً باستطلاعات الرأي ويدرسون الخيارات الأكثر عقلانية لمنع وصول مرشح يرفضونه بقوة عبر التصويت لمرشح آخر لا يؤيدونه بقوة.
3- توسع الكتلة الناخبة لأقصى اليمين: على الرغم من أن الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية قد شهدت تنافساً قوياً بين مرشحين على أصوات أقصى اليمين، فإن لوبان استطاعت تحسين أصواتها بنسبة 2% عن انتخابات 2017، بالإضافة على حصول منافسها زمور (ضمن نفس الشريحة) على 7% من الأصوات؛ أي أن الكتلة الناخبة لأقصى اليمين قد توسعت وأصبحت تناهز الـ 30% من إجمالي المقترعين. ويعتبر بعض المراقبين أن ترشيح زمور وتبنيه أفكاراً متطرفة، قد سمح لمنافسته لوبان بأن تصبح أكثر مقبولية لدى الرأي العام الفرنسي و"أقل شيطانية".
4- تكريس زعامة "ميلينشون" على اليسار: بالرغم من عدم قدرة ميلينشون على التأهل إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وإخفاقه للمرة الثالثة في هذه الانتخابات؛ فإنه استطاع أن يكرس زعامته على تيار اليسار الذي كان يعاني كثرة الانقسامات والخلافات حول العديد من العناوين. كما تم رفض فكرة الخروج بمرشح واحد يمثل اليسار لتجنب تشرذم الأصوات، ما دفع العديد من الشخصيات الوازنة من الحزب الاشتراكي سابقاً مثل كريستيان توبيرا وسيغولين رويال، إلى تأييد ميلينشون والذي سيحاول بعد هذه النتيجة الجيدة التي حققها وحصوله على المركز الثالث، اللعب على وتر امتلاكه الشرعية لتوحيد اليسار.
5- البدء في حشد أصوات الجولة الثانية: لم تكد تُعلن نتائج الدور الأول للانتخابات الفرنسية، حتى أعلن كل من يانيك جادو (مرشح حزب الخُصر وحصد 4.6% من الأصوات)، وآن هيدالغو (مرشحة الحزب الاشتراكي بـ 1.7%) وفابيان روسيل (مرشح الحزب الشيوعي بـ 2.3%)، وفيليب بوتو (مرشح الحزب الجديد لمناهضة الرأسمالية وحصل على 0.8%)؛ تأييدهم لماكرون في الجولة الثانية، داعين ناخبي أحزابهم إلى قطع الطريق على لوبان، فيما بات يُعرف في أدبيات السياسة الفرنسية بـ "الجبهة الجمهورية" front républicain.
وفي المقابل، دعا كل من زمور (7% من الأصوات) وديبون إينيان (2.1%)، إلى التصويت لصالح المرشحة لوبان، والتي حاولت، في خطابها بعد إعلان النتائج، إغراء ناخبي حزب ميلينشون بالتصويت لها عبر استعمالها أدبيات العدالة الاجتماعية. ولكن سرعان ما أتى الرد عبر ميلينشون الذي لم يدع مناصريه لدعم ماكرون في الجولة الثانية، وإنما شدد عليهم بجملة كررها 4 مرات، قائلاً "يجب ألا نعطي صوتاً واحداً لمارين لوبان".
تأثيرات حرب أوكرانيا:
ثمة تداعيات للحرب الروسية – الأوكرانية ظهرت في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وهو ما يمكن توضيحه في الآتي:
1- الاستثمار في صورة "الرئيس المُؤثر": بالإضافة إلى استفادة الرئيس الفرنسي، ماكرون، من تعاطف بعض وسائل الإعلام العالمية معه، وتصويره "كمنقذ لأوروبا" من قِبل مجلة "الإيكونوميست"، و"القائد الأوروبي" من قِبل مجلة "تايم"؛ فقد أتاحت حرب أوكرانيا فرصة جديدة له من أجل التأثير في الرأي العام الفرنسي خلال الحملة الانتخابية، وذلك عبر التركيز على إظهار نشاطه الدبلوماسي المُفرط والترويج إعلامياً لـ 14 اتصالاً هاتفياً قام بها ماكرون مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال شهر واحد بين منتصف فبراير ومارس 2022، وتأكيده أنه مستعد لفعل أكثر من ذلك في سبيل وقف الحرب.
واستطاع الرئيس الفرنسي الحالي الاستفادة أيضاً من مفهوم "التوحد حول العلم" Rally arround the flag، الذي نظّر له المفكر السياسي الأمريكي جون ميلر John Mueller والذي يفسر لماذا تلتف الجماهير حول رئيسها في وقت الأزمات المفاجئة والحروب. وتمت ترجمة ذلك عبر توسيع ماكرون الفارق مع منافسيه في الأسابيع الأولى التي تلت بداية الحرب في أوكرانيا، حيث أعطته استطلاعات الرأي في الأسبوع الأول من مارس الماضي 33% من نوايا التصويت (8 مارس عبر BFMTV)، وبزيادة 8 نقاط مقارنة بفترة ما قبل الحرب.
2- اهتمام الرأي العام الفرنسي بحرب أوكرانيا: أظهر استطلاع رأي أجرته "ايبسوس سوبرا" ipsos sopra في 5 مارس 2022 حول الحالة الذهنية العامة للفرنسيين، أن الحرب في أوكرانيا تأتي في المرتبة الثانية من ضمن المواضيع التي تقلق الفرنسيين وبنسبة 50% منهم، واعتبر 33% أن الحرب ستؤثر على خيارهم في التصويت بالانتخابات الرئاسية. كما يعزو بعض المرشحين أسباب تراجع نسبة تأييدهم إلى أن حرب أوكرانيا قد غطت على مشاريعهم الانتخابية، حيث اعتبرت مثلاً فاليري بيكريس أن الحرب قضت على حملتها الانتخابية، وأن العناوين الأساسية التي ركزت عليها في برنامجها الانتخابي قد حُجب الاهتمام عنها بفعل الحرب.
3- محاولة إحراج المرشحين المُقربين من "بوتين": تم تصنيف 3 مرشحين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية باعتبارهم مُقربين أو مُتعاطفين مع الرئيس الروسي، بوتين، وهؤلاء هم مرشحو أقصى اليمين، لوبان وزمور، ومرشح حزب "فرنسا غير الخاضعة"، ميلينشون. وأدت الحرب الروسية في أوكرانيا إلى استحضار علاقات هؤلاء بالرئيس بوتين، وتصريحاتهم السابقة التي أبدو فيها تعاطفهم معه؛ وذلك من أجل التأثير على نوايا تصويت الفرنسيين الرافضين لسياسات الرئيس الروسي. إذ يُنسب إلى زمور قوله إنه "يحلم ببوتين فرنسي"، كما تم التركيز على زيارة لوبان لبوتين وحصولها على قرض من بنك روسي. فيما اعتبر ميلينشون، في مقابلة مع "راديو فرانس انتر" في 3 يناير الماضي، أنه ينظر إلى روسيا كشريك. وعلى الرغم من أن جميع المرشحين أدانوا التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا فيما بعد، فإن البعض يرى أن هذه الإدانات هي من "باب التمويه"، حيث يعتبر يانيك جادو (مرشح حزب الخُصر) أن "ميلينشون مستسلم بشكل كامل أمام بوتين، وأنه علناً في لقاءاته الانتخابية يخطب عن ضرورة السلام، فيما هو في السر يعارض العقوبات القاسية ضد روسيا وتسليح المقاومة الأوكرانية".
ويُضاف إلى ذلك، هجوم آن هيداليغو (مرشحة الحزب الاشتراكي) على ميلينشون، حيث وصفته بأنه "مجرد عميل لبوتين ويريد خدمة مصالح روسيا على حساب الشعب الفرنسي"، واعتبرت أن "مطالبته بالخروج من حلف الناتو لا تندرج إلا في إطار محاولة إضعاف الديمقراطيات وجعل فرنسا تحت الوصايتين الروسية والصينية". وجاءت هذه الانتقادات في سياق محاولات تقليل الفارق بين هؤلاء المرشحين مع ميلينشون، حيث إن الثلاثة (أي ميلينشون وجادو وهيدالغو) كانوا يتنافسون على أصوات اليسار.
4- استفادة "لوبان" من التداعيات الاقتصادية للحرب: أضافت التأثيرات الاقتصادية لحرب أوكرانيا مزيداً من الأعباء المعيشية التي يعانيها الناخب الفرنسي جراء جائحة كورونا، خصوصاً فيما يتعلق بارتفاع أسعار المحروقات والطاقة. وأظهرت دراسة انتخابية أجرتها CEVIPOF، في نهاية شهر مارس 2022، أن "الهم الاقتصادي" يأتي على رأس الموضوعات التي تشغل الفرنسيين في الانتخابات الرئاسية، حيث اعتبر 58% من المُستطلعة آراؤهم أن القدرة الشرائية ستكون مُحدداً أساسياً في طريقة اختيارهم للمرشحين، وذلك بزيادة نسبة 6% عن بداية شهر مارس الماضي.
وانخفضت نسبة الفرنسيين المُتخوفين من توسع الحرب في أوكرانيا خلال الفترة نفسها بنسبة 6% (كانت 39% وأصبحت 33%) أو من إمكانية اندلاع حرب نووية بنسبة 7% (كانت 35% وأصبحت 28%)؛ ولكن في المقابل زادت نسبة القلقين من التداعيات الاقتصادية للحرب الحالية بنسبة 13%.
وقد شاءت ظروف المعركة الانتخابية وقبل اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، أن تختار لوبان موضوع تعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين وتضعه في صلب مشروعها الانتخابي، في مقابل تركيز منافسها زمور على قضايا الهوية والهجرة. ونجحت لوبان، بعد اندلاع الحرب وعبر جذب الناخبين المُتضررين من تدهور قدرتهم الشرائية، في تخطي محاولات إحراجها من ناحية إظهار قربها مع بوتين ودعمها له.
ختاماً، يبدو أن الاستعداد للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 24 أبريل الجاري، سيتم على وقع مواجهة مفتوحة عنوانها إقناع الفرنسيين بمن هو صاحب المشروع الحقيقي والأكثر فاعلية لتعزيز قدرتهم الشرائية، حيث من المحتمل أن تصبح هذه القضية هي التحدي الأكبر في المعركة الانتخابية بين ماكرون ولوبان خلال الأسبوعين القادمين، علماً بأن مخزون الأصوات الذي ينطلق منه ماكرون أكبر من ذلك المُتوقع لمنافسته الحصول عليه، إلا في حال نجحت لوبان في كسب الناخبين الذين صوتوا لصالح المرشح ميلينشون، وهو أمر غير مرجح من الناحية النظرية.