تتطلع إيران إلى جني أكبر المكاسب السياسية والاقتصادية والأمنية من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وهذه سياسة اعتادت عليها منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان في عام 2001، ثم الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. إذ إن هذه السياسة باتت ثابتاً من ثوابت سياسة طهران الإقليمية والدولية، ولعل مرد ذلك يعود إلى أمرين؛ الأول، "البرجماتية" التي تتسم بها السياسة الخارجية الإيرانية بالرغم من ممارستها أقصى التشدد في الدفاع عن المصالح الإيرانية الكبرى. والأمر الثاني يتعلق بأهمية الموقع الجغرافي لإيران والمصالح الاقتصادية الكبيرة المرتبطة بهذا الموقع، حيث إن ما سبق يعطيها ميزة كبيرة في تشبيك المصالح مع الدول الكبرى، لاسيما خلال الحروب التي لها تداعيات جيوسياسة إقليمية، كما هي حال الحرب الروسية الجارية ضد أوكرانيا.
فرص ذهبية:
انطلاقاً من السياق الاستراتيجي أعلاه، تتطلع إيران إلى أن تكون الرابح الأكبر من الأزمة الأوكرانية، ليست بوصفها حرباً روسية - أوكرانية، وإنما بوصفها أزمة دولية كبرى ستكون لها تداعيات على الملفات الساخنة في العالم، لاسيما تلك المتعلقة بملفات طهران. وعليه تتطلع إيران من الأزمة الأوكرانية إلى تحقيق جملة من الأهداف الاستراتيجية، لعل أهمها ما يلي:
1- توظيف أزمة أوكرانيا لصالح الملف النووي الإيراني: تدرك طهران أن الحرب الروسية على أوكرانيا وفرت فرصة لها لتعزيز موقفها التفاوضي في فيينا؛ فعلى وقع هذه الحرب وانشغال الغرب والعالم بها، لم نعد نسمع تلك الأصوات العالية التي كانت تحذر طهران يومياً وتقول إن ملفها النووي بات أمام الفرصة الأخيرة، وتهددها بالويل ما لم توقع على اتفاق نووي في فيينا يعيدها لاتفاق عام 2015. وعليه، ثمة من يرى أن الحرب الروسية - الأوكرانية قد تدفع بإيران إلى مراجعة حساباتها النووية، وربما تدفعها هذه المراجعة إلى التريث في التوقيع على اتفاق نووي منشود، لتقوية أوراقها، ودفع الغرب إلى تقديم تنازلات كبرى لها. بل ثمة من يرى أن طهران قد تجد في هذه الحرب فرصة ذهبية لإطالة المفاوضات النووية؛ بهدف أساسي وهو إنتاج سلاح نووي، حيث أشارت تقارير غربية وإسرائيلية إلى أن ما يفصل إيران عن تحقيق هذا الهدف ربما لا يستغرق أكثر من شهرين.
ولعل الإحساس بخطورة استغلال إيران للأزمة الأوكرانية لصالح ملفها النووي، هو ما دفع بالخارجية الأمريكية على لسان المتحدث باسمها، نيد برايس، إلى الإعلان في اليوم التالي لبدء الحرب في أوكرانيا، أن الولايات المتحدة ستُبقي اتصالاتها مع روسيا بشأن جهود منع إيران من تطوير أسلحة نووية، مؤكداً أنه "ينبغي ألا يمنح الغزو الروسي لأوكرانيا، إيران الضوء الأخضر لتطوير سلاح نووي".
2- توسيع المواجهة مع "الناتو" من باب تحميله المسؤولية: كان لافتاً في اليوم الأول للحرب الروسية ضد أوكرانيا، الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره الإيراني، إبراهيم رئيسي، وفي هذا الاتصال عبّر رئيسي مبكراً عن الموقف الإيراني الذي حمّل حلف شمال الأطلسي "الناتو" مسؤولية هذه الحرب، عندما قال "إن توسع الناتو يشكل تهديداً خطيراً لاستقرار الدول المستقلة وأمنها في مختلف المناطق. واعتبر الرئيس الإيراني أن "الأعمال الاستفزازية" لحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة هي سبب الحرب الجارية في أوكرانيا، ولعل رئيسي أراد من موقفه هذا ليس الاصطفاف إلى جانب روسيا بقدر ما أراد توجيه رسالة للغرب، وتحديداً واشنطن، مفادها أن إيران لاعب فاعل، وقادر على الضغط والتأثير في الأزمة الأوكرانية، بما يعزز كل ذلك من أوراقها التفاوضية مع الولايات المتحدة، سواء في الملف النووي الإيراني أو غيره من الملفات الكثيرة المتعلقة بطهران وسياساتها الإقليمية.
3- تعزيز الشراكة الإيرانية مع روسيا: إيران في بحثها عن تعزيز مكانتها الإقليمية، ونفوذها في العديد من الدول والمناطق؛ ترى أن الأزمة الأوكرانية الحالية هي أفضل فرصة لتعزيز العلاقة مع موسكو في المجالات كافة، وهي في سيرها نحو ذلك، تدرك مدى حاجة روسيا إليها للوقوف إلى جانبها في الأزمة الجارية مع الغرب، خاصة مع زيادة وتيرة العقوبات الغربية والدولية على روسيا. وأمام نظرة موسكو إلى طهران كجزء من مشروعها في المواجهة مع الغرب، تدرك إيران الأهمية الاستراتيجية لروسيا في العلاقات الدولية بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، وطرفاً أساسياً في مفاوضات فيينا النووية، فضلاً عن الأهمية العسكرية والتجارية والاقتصادية للعلاقات بين البلدين. إذ تتطلع إيران إلى استغلال التطورات الجارية لدفع روسيا إلى التوقيع على اتفاقية الشراكة التجارية والعسكرية المُقترحة بين البلدين لمدة 20 عاماً، وهو ما يعني إطلاق حزمة كبرى من المشاريع الحيوية بينهما في مجالات الطاقة والنقل والسكك الحديدية والسلاح، والأهم ضمان موقف موسكو لصالح طهران في مفاوضات فيينا. ولعل هذا ما يفسر تأكيد وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، خلال اتصال هاتفي مع نظيره الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في 25 فبراير 2022، أن موسكو دعمت دائماً موقف إيران في فيينا.
4- تعزيز موقع طهران في الاصطفافات الإقليمية: دفع التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى عملية فرز لمواقف الدول الإقليمية، إذ وجدت هذه الدول أنها أمام عملية صعبة، تشبه الامتحان لجهة الاختيار بين روسيا وأوكرانيا تأييداً أو تنديداً. وقد رأت إيران أن ما يجري في هذا السياق يصب لصالح علاقاتها مع روسيا في مواجهة الخصوم الإقليميين، لاسيما تركيا وإسرائيل اللتين لهما علاقات قوية جداً مع الحكومة الأوكرانية. وبحكم وقوف كل من تركيا وإسرائيل إلى جانب كييف، فإن طهران ترى أن هذا المعطى الجديد يشكل عاملاً مهماً لاستثماره، لاسيما في الساحة السورية، حيث الحساسية الروسية - الإسرائيلية بسبب عمليات القصف الإسرائيلية للأراضي السورية، بحجة استهداف الوجود العسكري لإيران وحليفها حزب الله. وقد كان لافتاً قبل نحو أسبوعين، قيام القوات الروسية والسورية بمناورة جوية مشتركة بالقرب من المنطقة الحدودية بين سوريا وإسرائيل، وهو مؤشر يُمكن لإيران البناء عليه للاستفادة من الدور الروسي في سوريا في مواجهة إسرائيل، خاصة أن ثمة قناعة سائدة بأن عمليات القصف الإسرائيلية للوجود العسكري الإيراني في سوريا كانت تتم دائماً بالتنسيق مع الجانب الروسي.
ولعل ما ينطبق على جبهة إسرائيل ينسحب على تركيا، حيث التنافس والصراع مع إيران على شمال غرب سوريا، وتحديداً إدلب، قائم على قدم وساق، في وقت يشكل الجانب الروسي الناظم الأساسي للصراع الجاري هناك. وأبعد من ساحة سوريا، تتطلع إيران إلى الاستفادة من الأزمة الأوكرانية لتوسيع دورها في جنوب القوقاز، لاسيما بعد أن نجحت أنقرة في تحقيق خطوات إن لم نقل نجاحات كبيرة على حساب طهران هناك.
5- التطلع إلى تصدير الغاز إلى أوروبا: الحسابات، والتطلعات، والتحديات السابقة، لم تمنع إيران من التفكير بأهمية التحول إلى أحد المُصدرين المُهمين للطاقة وتحديداً الغاز إلى أوروبا. ويمكن استشراف مثل هذا الأمر من آراء وتحليلات العديد من الكتّاب والمحللين السياسيين الإيرانيين المُقربين من السلطة في طهران. فالأخيرة تدرك جيداً أن قطاع الطاقة من روسيا إلى أوروبا، هو أهم قطاع تضرر من الحرب الروسية في أوكرانيا، وأن أوروبا بحاجة ماسة إلى البديل الروسي.
وعليه ترى إيران أن الأزمة الأوكرانية وفرت فرصة مهمة لها لتصدير الغاز إلى أوروبا، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن الطريق إلى ذلك يمر عبر التوصل إلى اتفاق نووي في فيينا، بالرغم من أن ذلك قد يؤثر سلباً على العلاقات الإيرانية - الروسية، لكن إيران "البرجماتية" تعرف جيداً كيف تدور الزوايا، عندما يتعلق الأمر بمصالحها التي لها علاقة بالأمن العالمي. ولعل هذا ما يفسر تصريحات رئيس المجلس الأعلى للقومي الإيراني، علي شمخاني، يوم 24 فبراير 2022، عندما قال "إن عدم الاستقرار وانعدام الأمن في النصف الشرقي من الكرة الأرضية سيلحق أضراراً جسيمة بالمصالح الغربية"، وذلك في إشارة فسرها كثيرون بأنها تشير إلى استعداد إيران لتلبية المصالح الأوروبية من الطاقة بعد تضررها جراء الأزمة الأوكرانية.
تطلعات مرهونة:
إذا كان مفهوماً أن إيران اعتادت على جني المكاسب السياسية والاقتصادية والدبلوماسية من الحروب الإقليمية، كما جرى سابقاً في أفغانستان والعراق؛ فإن تطلعاتها وحساباتها على النحو السابق قد لا تكون دقيقة، خاصة أن أوكرانيا ليست على حدودها الجغرافية، كما أن إيران ليس لها نفوذ وازن في هذا البلد. وعليه، يمكن القول إن النتائج التي سيسفر عنها التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، والتداعيات الإقليمية والدولية التي ستنتج عنه؛ هي التي ستحدد مصير التطلعات الإيرانية، كما أنها ستحدد طبيعة التفاعلات التي لها علاقات مباشرة بالملفات الإيرانية، لاسيما البرنامج النووي الإيراني. وبالتالي، يمكن وضع جملة تصورات بخصوص التفاعلات التي ستنتج عن الأزمة الأوكرانية الحالية على التطلعات الإيرانية، وهي:
1- إن اعتقاد إيران بأن الأزمة الأوكرانية قد وفرت فرصة ذهبية لتعزيز أوراقها في الملف النووي، قد لا يكون دقيقاً أو صائباً؛ بل قد يكون على العكس تماماً، خاصة إذا انتهت الأزمة الأوكرانية بتفاهمات بين روسيا والغرب انطلاقاً من الحديث عن وجود فرصة للحوار بين موسكو وكييف في الأيام المقبلة.
2- إن احتمال توسيع رقعة الحرب، وانتقالها إلى دول أوروبا الشرقية المنضوية في حلف "الناتو"؛ يبقى قائماً في ظل التأهب الأطلسي ورفض الغرب للسياسات الروسية التوسعية. ومثل هذا التطور قد يحتم على إيران الانتقال من موقع الاصطفاف والترقب إلى التخندق والمجابهة لو بشكل غير مباشر، وهو ما يخفف من فرص إيران في تحقيق تطلعاتها.
3- إن سيناريو وضع روسيا اليد على أوكرانيا من دون حدوث مواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب؛ يبقى أحد السيناريوهات المُحتمل حدوثها أيضاً، طالما أن الغرب أعلن مراراً أنه ليس بصدد مواجهة مباشرة مع روسيا. ومثل هذا الأمر في حال حدوثه قد يزيد من القبضة الروسية على الكتلة الأوراسية، وفرض أجندتها على القضايا الإقليمية المثارة، وقد يشمل ذلك ضبط الطموحات الإيرانية لاسيما في سوريا التي هي نقطة تقاطع روسية – أمريكية – تركية – إسرائيلية، بدلاً من تفكير طهران في توظيف الأحداث الراهنة لصالح تطلعاتها الإقليمية.