لم يكن خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أطلق به عمليات جيش بلاده ضد أوكرانيا في صباح يوم 24 فبراير 2022، مجرد خطاب حرب، يخصها فقط، أو يقتصر عليها في التحضير والتبرير وصناعة المسار، وتحديد بوصلة الاتجاه، ثم تحفيز الذات و"الأنصار" ومخاطبة العالم وإقناعه، والحط من معنويات "العدو"؛ إنما بدا خطاب تأسيس لفصل جديد في العلاقات الدولية.
فبوتين لم يتحدث عن اللحظة الراهنة فحسب، بل عاد إلى الماضي قليلاً، ليوضح للعالم التعسف الذي قُوبلت به موسكو من الغرب عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، فيقول في خطابه: "من المعروف أننا على مدى 30 عاماً نحاول بإصرار وصبر التوصل إلى اتفاق مع دول الناتو حول مبادئ الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا. وفي مقابل مقترحاتنا، واجهنا باستمرار إما الخداع والأكاذيب الساخرة، أو محاولات الضغط والابتزاز، في حين أن حلف شمال الأطلسي، في هذه الأثناء، رغم كل احتجاجاتنا ومخاوفنا، توسع باضطراد. آلة الحرب تتحرك وأكرر أنها تقترب من حدودنا".
وهنا يضع بوتين الإطار الأوسع للحرب، أمام العالم، وأمام الشعب الروسي أيضاً، ليؤكد 5 أمور رئيسية، هي كالتالي:
1- أن الحرب ضرورة، ولا مهرب من خوضها؛ لأنها تتعلق بأهداف أوسع وأعمق كثيراً من مجرد الصراع حول إقليم دونباس بين كييف وجماعات انفصالية تؤيديها موسكو.
2- أن أي تضحيات تقدمها روسيا، سواء في ميدان القتال، أو بفعل العقوبات الاقتصادية التي تُفرض عليها من الغرب، تبدو ضئيلة قياساً إلى التهديدات الجوهرية على مستقبل الاتحاد الروسي برمته، إن تركت أوكرانيا تقوى وتتسلح، وتصبح أشبه بـ "حصان طروادة الغربي في عمق الجسد الجغرافي الروسي". وقد عبّر بوتين عن هذا التقدير حين قال في خطابه: "التطوير العسكري لأوكرانيا هو أمر غير مقبول بالنسبة لنا. النقطة، بالطبع، ليست منظمة حلف شمال الأطلسي نفسها - إنها مجرد أداة للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. المشكلة هي أنه في الأراضي المجاورة لنا، سوف أشير بوضوح، في أراضينا التاريخية، يتم إنشاء كيان مناهض لروسيا، والذي تم وضعه تحت السيطرة الخارجية الكاملة، ويتم تعزيزه بشكل مكثف من قِبل القوات المسلحة من دول الناتو ويتم منحه أحدث الأسلحة".
إن بوتين بهذا القول سعي بوعي إلى نزع أي جوانب أخلاقية أو وطنية عن الجيش الأوكراني ومن خلفه الساسة الموالين للغرب، وبذلك لا يكون هو الجيش الذي يدافع عن وطنه، ويقاتل ويقاوم تحت رايته، إنما هو مجرد "رأس حربة لمشروع غربي"، أي أنه "جيش عميل"، من وجهة نظر بوتين، أو على الأقل جيش متساوق مع أجندة المجموعة السياسية التي تحكم بدعم من الغرب، ولصالحه. وبالطبع فإن الأمر ليس على هذا النحو كلية، لكن بوتين لم يكن معنياً هنا بالحقيقة كاملة، إنما يلتقط طرف خيط منها، ليفت في عضد الجيش الأوكراني، وهو أمر ظهر في حديث الإعلام الروسي، فور دوران عجلة الحرب.
3- هذا الخطاب يقول بوضوح إن الوقت قد حان لإيقاف الغرب عند حده. وهنا كان على بوتين أن يعود إلى الوراء قليلاً، ليبني سردية تظهر بلاده بمظهر البلد المُسالم الصبور الراغب في السلام والبناء، الذي تمادت الولايات المتحدة وحلفاؤها في إيذائه، وفسرت صمته خطأ. وهنا يقول بوتين في خطابه: "أما بالنسبة لبلدنا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مع كل الانفتاح غير المسبوق لروسيا الحديثة الجديدة، والاستعداد للعمل بصدق مع الولايات المتحدة والشركاء الغربيين الآخرين، وفي ظروف نزع السلاح من جانب واحد تقريباً؛ فقد حاولوا على الفور عصرنا، وتدميرنا تماماً. هذا بالضبط ما حدث في التسعينيات، وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما كان ما يُسمى بالغرب الجماعي يدعم بنشاط الانفصاليين وعصابات المرتزقة في جنوب روسيا".
ويضع بوتين واشنطن في موضع الطرف الخاطئ، الذي عليه أن يتحمل مسؤولية أفعاله العدائية ضد روسيا، فيقول: "حاولنا مرة أخرى الاتفاق مع الولايات المتحدة وحلفائها على مبادئ ضمان الأمن في أوروبا وعدم توسيع الناتو. كل شيء جرى عبثاً. موقف الولايات المتحدة لا يتغير. إنهم لا يرون أنه من الضروري التفاوض مع روسيا بشأن هذه القضية الأساسية بالنسبة لنا، ويواصلون السعي وراء أهدافهم الخاصة، ويتجاهلون مصالحنا".
وقد استخدم بوتين ألفاظه بعناية ليصنع "مظلومية" روسية، و"تعرية" للغرب ونزعته الاستعمارية، وعمله المتواصل على الخدش المتواصل للجرح الروسي، أو إذلال موسكو، وذلك عبر استخدامه في خطابه هذا مجازات متتابعة ومكثفة وحادة من قبيل وصفه لما يفعله الغرب بـ "الطريقة الوقحة" و"الهيمنة" و"الفوقية" و"الموقف المستهتر" و"الازدراء بالمصالح والمطالب الروسية المشروعة". واعتبر بوتين الغرب يعيش حالة "نشوة من التفوق المُطلق" و"غطرسة"، ثم يصف الولايات المتحدة الأمريكية بأنها "إمبراطورية أكاذيب"، والغرب عموماً بأنه "لا يعمل إلا لخدمة مصالحه الخاصة"، وأن الساسة الغربيين هم "أولئك الذين يطالبون بالسيطرة على العالم، علانية، مع الإفلات من العقاب".
وحتى يدلل على وصف "إمبراطورية الأكاذيب"، يعود بوتين إلى ما جرى إبان الحرب على العراق، فيقول عن الأمريكان: "اختاروا معلومات يُزعم أنها متوفرة للولايات المتحدة حول وجود أسلحة دمار شامل في العراق. كدليل على ذلك، قام وزير الخارجية الأمريكي، أمام أعين العالم أجمع، بهز نوع من أنابيب الاختبار بمسحوق أبيض، مؤكداً للجميع أن هذا هو السلاح الكيميائي الذي يتم تطويره في العراق. وبعد ذلك اتضح أن كل هذا كان خدعة، لا توجد أسلحة كيماوية في العراق. كانت هناك أكاذيب على أعلى مستوى في الدولة ومن المنصة العالية للأمم المتحدة".
وأراد بوتين أن يبرهن على أن الأكاذيب أو الخداع مستمر، وأنه هذه المرة قد طال بلاده، فيقول: "هناك وعود لبلدنا بعدم توسيع الناتو ولو شبراً واحداً إلى الشرق. أكرر - لقد خدعونا. غالباً ما تسمع أن السياسة عمل قذر. ربما، ولكن ليس بهذا القدر. بعد كل شيء، لا يتعارض سلوك الغش هذا مع مبادئ العلاقات الدولية فحسب، بل يتعارض قبل كل شيء مع معايير الأخلاق المعترف بها عموماً. أين العدل والحقيقة هنا؟ مجرد حفنة من الأكاذيب والنفاق".
لكن بوتين لم يلبث أن وقع في "مغالطة منطقية"، تقوم على تبرير خطأ الذات بخطأ الآخر، وذلك حين برر تدخله العسكري في أوكرانيا باستعادة واستعارة الفعل الأمريكي العدواني ضد الاتحاد اليوغسلافي السابق وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، ويعتبر هذه "أمثلة ليست بعيدة"، لتصرف واشنطن من دون إذن من مجلس الأمن الدولي، وكيف أنها استخدمت قوة مفرطة، سواء باستخدام أعتى الأسلحة وأحدثها وأفتكها أو بـ "القصف المتواصل للمدن" و"تدمير البنى التحتية الداعمة للحياة" بل "التدمير الكامل للدولة" مثل الحالة الليبية، والتسبب في "كارثة إنسانية"، وبما صنع "بؤرة ضخمة للإرهاب" و"حرب أهلية" و"نزوح جماعي". بل إن بوتين يطلق حكماً عاماً يتعدى الحالات أو الأمثلة التي ضربها فيقول: "بشكل عام، يتولد لدى المرء انطباع بأنه عملياً في كل مكان، في العديد من مناطق العالم، حيث يأتي الغرب ليقيم نظاماً خاصاً به، تكون النتيجة جروحاً دموية غير ملتئمة، وتقرحات للإرهاب الدولي والتطرف. كل ما قلته هو فظيع، لكنه ليس بأي حال من الأحوال الأمثلة الوحيدة على تجاهل القانون الدولي".
وفي المقابل، يقدم بوتين روسيا على أنها هي التي تتدخل للحفاظ على الدول، وليس لإزالتها من الوجود، ضارباً مثلاً على هذا بالتدخل الروسي في سوريا لإنقاذها مما وصفه بـ "مصير مماثل" للدول المذكورة سلفاً.
4- لم يخل خطاب بوتين من محاولة إقناع الشعب الروسي نفسه، الذي يدرك أن عليه أن يتحمل تبعات هذه الحرب لاسيما من الناحية الاقتصادية، فيصف الروس بأنهم "مواطنون محترمون" وأن عليهم "الدفاع عن أمن روسيا" في وجه "توسع الناتو شرقاً وتقريب بنيته التحتية العسكرية من الحدود الروسية" واستيعاب "درس الاتحاد السوفييتي"، ثم يطالبهم بالاعتزاز بأنفسهم وبدورهم في العالم، فيقول لهم: "بمجرد أن فقدنا الثقة في أنفسنا لبعض الوقت، عانى ميزان القوى في العالم الاضطراب".
ثم يلعب بوتين على ذاكرة الروس، فينبههم إلى ما مضي، وما يجعلهم موقنين الآن أن عليهم تقبل المبادرة والإقدام، لأن التأخير ليس في صالحهم، فيشير إلى ما جرى قبيل هجوم هتلر على الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، فيقول: "محاولة استرضاء المُعتدي عشية الحرب الوطنية العظمى كانت خطأ كلف شعبنا غالياً. في الأشهر الأولى من الأعمال العدائية، فقدنا مناطق شاسعة ذات أهمية استراتيجية وخسرنا الملايين من الناس. لن نسمح مرة ثانية بمثل هذا الخطأ، ليس لدينا الحق".
ويجهز بوتين شعب بلاده للتضحية، مثلما فعل من قبل حين أثار الغرب جماعات انفصالية في بعض البلدان التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي، ليضغط على روسيا، فيقول: "ما هي التضحيات، وما الخسائر التي تكلفناها آنذاك، وما هي الأمور الصعبة التي كان علينا أن نمر بها قبل أن نكسر ظهر الإرهاب الدولي في القوقاز. نتذكر هذا ولن ننسى أبداً".
ويعلم بوتين جيداً أن المواطنين الروس يعرفون الفروق الجوهرية بين الغرب عموماً وبين روسيا التي إن كانت تمتلك ترسانة أسلحة متقدمة، فإنها تعاني اقتصادياً، فضلاً عن الخوف من دفع المواطن الروسي كلفة الحرب، سواء تمويلها من ميزانية الدولة أو تحمل تبعات فرض عقوبات اقتصادية أشد من تلك التي فُرضت عقب ضم منطقة القرم في عام 2014. ولذا حرص الرئيس بوتين على الإتيان على هذه النقطة وتوضيحها بجلاء، فيقول: "في الواقع، لديهم اليوم قدرات مالية وعلمية وتكنولوجية وعسكرية كبيرة. نحن ندرك ذلك ونقيم بشكل موضوعي التهديدات التي يتم توجيهها إلينا باستمرار في المجال الاقتصادي، وكذلك قدراتنا على مقاومة هذا الابتزاز الوقح والدائم. أكرر، نحن نقيم الخطر من دون أوهام، بشكل واقعي للغاية". بل يطمئنهم بوتين على نتائج الحرب مقدماً، فيقول: "روسيا اليوم واحدة من أقوى القوى النووية في العالم، علاوة على ذلك، تتمتع بمزايا معينة لجهة امتلاكها أحدث أنواع الأسلحة. وفي هذا الصدد، لا ينبغي أن يشك أحد في أن الهجوم المباشر على بلدنا سيؤدي إلى هزيمة أي معتد محتمل وسوف يواجه بعواقب وخيمة".
5- خاطب بوتين العالم برمته لإقناعه بأن الحرب التي يخوضها هي "دفاعية" و"عادلة"، ففضلاً عن استعراض تاريخ أفعال "الإمبريالية الأمريكية" بعد الحرب الباردة، وإظهار روسيا، التي ورثت الاتحاد السوفييتي، بمظهر الدولة التي سعت إلى السلام؛ فإنه يبرهن عن أن الحرب الحالية كانت ضرورة لبلاده، إذ يقول: "التطوير العسكري للمناطق المتاخمة لحدودنا، إذا سمحنا بذلك، سيبقى لعقود قادمة، وربما إلى الأبد، وسيخلق نمواً دائماً بشكل مطلق لتهديد غير مقبول لروسيا.. بالنسبة لبلدنا، هذه في النهاية مسألة حياة أو موت، وهي مسألة مستقبلنا التاريخي كشعب. وهذه ليست مبالغة - هذا صحيح. هذا تهديد حقيقي ليس فقط لمصالحنا، ولكن لوجود دولتنا وسيادتها. هذا هو الخط الأحمر الذي تم الحديث عنه مرات عديدة".
إن خطاب بوتين بشأن إعلان التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، قد تمت صياغته بعناية، لا ليطلق هذه الحرب أو يبررها؛ لكنه يعلن عن "عالم جديد"، تخرج فيه روسيا بشكل أقوى من انكماشها لثلاثة عقود، وتكشر عن أنيابها أكثر، وتترجم طموح رئيسها في أن يكون لبلاده دور على المسرح العالمي، تستعيد به، ولو تدريجياً، ما كان للاتحاد السوفييتي الذي انهار عام 1991.