داسكو توميك: أستاذ الدراسات الدارسات الأمنية، الجامعة الأمريكية في الإمارات
إلدار سالجيك: أستاذ العلاقات الدولية، الجامعة الأمريكية في الإمارات
لا يعد توتر العلاقات الجيوسياسية بين روسيا والغرب بالأمر الجديد، حيث شكل استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 علامة فارقة، وبداية عهدٍ جديد بين الجانبين. فمن جانبها، تحاول روسيا إبقاء دول الاتحاد السوفييتي السابقة ضمن مجال نفوذها، حرصاً على حماية مصالحها، وتمثلّت هذه المحاولات بشكل لافت في العدوان على جورجيا عام 2008، إضافة إلى وجود القوات الروسية المستمر وتحركاتها المثيرة للقلق على حدود أوكرانيا الشرقية.
وبعد الاستيلاء على مناطق من دولة جورجيا عام 2008، انصبّ اهتمام روسيا على إعادة هيكلة قواتها المسلّحة وتطويرها جذرياً، وتضمن ذلك إصدار «قانون الدفاع عن روسيا»، وإعادة صياغة العقيدة العسكرية الروسية، ثم تأسيس "المنطقة العسكرية الجنوبية"، وإنشاء وحدات مسلّحة جديدة منتشرة بالقرب من بحر آزوف. فضلاً عن، تسارع وتيرة تسليح الوحدات المختلفة، بما فيها قوات المناطق الجنوبية والغربية العسكرية بأحدث الأسلحة والعتاد العسكري، وزيادة التدريبات العسكرية بشكل لافت لجميع الوحدات من دون استثناء، وإخضاعها، سرّاً لحالة الجهوزية والتأهّب الكامل.
ويرى كثير من المحللين أن هدف روسيا من كل هذه الترتيبات إنشاء «شبه دولة» روسية على الأرض الأوكرانية، وخلق تسع مناطق فدرالية واقعة تحت نفوذها، وهي: كاركوف، دنيبرو، دونتسيك، لوهانسك، زاباروجيا، خيرسون، ميكولايف، أوديسا، وشبه جزيرة القرم. وبالرغم من أن التوتّر شاب أجواء هذه المنطقة لسنوات، فإن الأشهر الأخيرة شهدت انتشار مزيد من القوات الروسية، وزيادة حركتها على الحدود الأوكرانية – الروسية، وتمركز عدد كبير من القوات الخاصة الروسية في مناطق بريانسك، وفارونيش، وسمولينسك، وروستوف.
Source: Satellite
picture Pogovono (photo: Maxar Technologies)
القلق من الجاهزية الروسية
تظهر صور الأقمار الصناعية وجود حوالي 90 ألف إلى 100 ألف جندي من القوات المسلحة الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، وأكثر من 50 وحدة تكتيكية. ومن الجدير بالملاحظة مدى جهوزية القوات الروسية على الأرض، والتي يمكن استشفافها من مشاركة كتيبة حرس البنادق الآلية 18، وكتيبة إنغوشيتيا المدفعية 291، اللتين تضمّان جنوداً ذوي خبرة قتالية كبيرة، خصوصاً في المواجهات المسلّحة وفي المناطق المدنية، والتي تتسم عموماً بالتعقيد والصعوبة أمام الجيوش النظامية.
ومن جانبها تتابع وكالات المخابرات الأوروبية والأمريكية كلّ هذه التطّورات عن كثب، وتتوقع زيادة أعداد القوّات المجنّدة إلى حوالي ١٧٥ ألف فرد، وهو ما يقلق الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تتوقع غزو روسيا لأوكرانيا.
في هذا الإطار ترجحّ بعض التوقعات سيناريو الغزو الروسي في الشهور الأولى من هذه السنة، خاصة مع احتشاد حوالي 1100 دبابة وأكثر 2600 مدرّعة حربية و1100 مدفعية، و360 راجمة صواريخ، و18 منصة إطلاق صواريخ متنقّلة على الحدود الأوكرانية، فضلاً عن العتاد الجوي، والذي، بحسب التقديرات، يتكوّن من 330 طائرة مقاتلة من طرازات (Su-30SM, Su-35S, Su-34, Su-25SM3, MiG-31K with hypersonic Dagger system، كلّها مجهزة بصواريخ فائقة الصوت)، و230 طائرة مروحية.
أضف إلى كلّ ذلك مركز بوجونوفو «Pogonovo» الروسي للتدريب العسكري، والذي يوجد على مقربة من مدينة فارونيش، وجذب انتباه المجتمع الدولي، بسبب احتوائه على دبابات، وراجمات صواريخ، ومدافع ذات مدى بعيد. والمثير للانتباه أكثر، المساحات الكبيرة الخالية، ما يشير إلى احتمالية جلب المزيد من العتاد العسكري قريباً. وتم رصد تحرّكات مماثلة في شبه جزيرة القرم، لحشد وتمركّز القوات والعتاد العسكري، بما فيها القوّات الجوية المقاتلة.
وفي المقابل، تدرس واشنطن إرسال المزيد من الأسلحة إلى كييف بعد الدفعات الأولى التي أرسلتها خلال الشهور الماضية. حيث حصلت كييف حتى الآن على مضادات دبابات من طراز «Javelin»، وزوارق دورية، وذخائر، ومواد إسعافات أوّلية، ومعدات لاسلكية، وغيرها من المعدّات العسكرية الأساسية. وقد حاولت أوكرانيا شراء أنظمة صواريخ باتريوت الأمريكية، إلا أن الولايات المتحدة أبدت تحفظاً على ذلك، بحسب ما صرّح مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، تخوفاً من أن تعتبرها روسيا ذلك خطوة استفزازية. وتشير العديد من المصادر إلى وجود المئات من الشركات العسكرية الأمريكية الخاصة في منطقة دونيتسك، والتي تعمل على تدريب وتأهيل القوات الأمنية الأوكرانية. وعلى الجانب الآخر، عملت المملكة المتحدة قبيل الدعم الأمريكي على دعم البنية التحتية الأوكرانية، إذ قامت ببناء قاعدتين بحريّتين في بحر آزوف وبالبحر الأسود.
الحرب غير الاعتيادية
على الرغم من أن تصاعد هذه التوترات، واستمرار حالة عدم الاستقرار في هذه المنطقة يزيد من احتمالية اندلاع حرب، فإنه يمكن القول إن ازدياد حدّة التوتر في كييف تصب في مصلحة الجانب الروسي؛ فاحتمالية انضمام أوكرانيا للحلف تبقى ضئيلة طالما ظلت تشعر بالتهديد الروسي.
على الجانب الآخر، تبقى الأنظار متّجهة نحو ما سيئول له مشروع أنابيب الغاز الروسي–الأوروبي نورث ستريم 2 «North Stream» المنشأ حديثاً والذي يظل نقطة خلاف بين العديد من الأقطاب السياسية الأوروبية، خصوصاً أن أوروبا تشهد ارتفاع تاريخي غير مسبوق في أسعار الغاز.
في هذا السياق، يجدر الحديث عن أنماط أخرى من الحرب تخوضها روسيا وتحقق لها بقدر كبير أهدافها من دون الحاجة لخوض حرب عسكرية، كالحرب الهجينة «hybrid war»، أو الحرب غير الاعتيادية «Irregular war»، والتي تقترح تبني استراتيجيات حربية تعتمد بشكل أقل على العمليات الحربية التقليدية، في مقابل "العمليات الحربية غير العسكرية"، والتي من شأنها مجتمعة تحقيق الهدف المنشود، المتمثل في حمل العدو، على القيام بتقديم تنازلات لم يكن ليقوم بها طواعية.
وتحقق هذه الحروب الأهداف المنشودة باستخدام وسائل غير تقليدية، كالحرب النفسية، والبروباجاندا، وإنزال العقوبات الاقتصادية، وفرض الحظر الدولي، أو حتى تسهيل العمليات الإرهابية أو الإجرامية وغيرها من العمليات التخريبية التي من دورها زعزعة استقرار الدول. أما العمليات العسكرية فإنها تتخذ أشكالاً غير نمطية، وتتمّ بشكل سرّي، وتعتمد على أساليب مختلطة، وتنخرط فيها القوّات غير النظامية، ويتبع فيها تكتيكات حربية نمطية وتكتيكاتٍ أخرى مغايرة.
في هذا الإطار، يمكن القول إن روسيا قامت بالعديد من الأنشطة على مدار السنوات، منذ استقلال أوكرانيا، التي دعمت من خلالها الاتجاهات المناهضة لأوكرانيا والغرب، والمؤيدة لروسيا لدى الرأي العام في القرم وسيفاستوبول، ما أدّى إلى تراجع إمكانية تأسيس جيش أوكراني موحد. فمن خلال الدور الذي لعبه جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وعبر بعض الأنشطة الاستخباراتية، ظهرت عدة منظمات سياسية موالية لموسكو. فعلى سبيل المثال، أدّى فوز الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، في انتخابات 2010 إلى فتح المجال أمام مجموعة من السياسيين المواليين لموسكو للوجود في مختلف مفاصل النظام الأوكراني، منهم من تولّى مناصب رفيعة وحسّاسة في الدولة، بما فيها أجهزة المخابرات الأوكرانية الوطنية؛ ومنهم: سلاماتين، ليبيديف، وياوينكو، الذين تولّوا مناصب مهمّة في وزارة الدفاع وجهاز المخابرات الوطنية في الفترة بين 2012 و 2013، وهم الآن في روسيا وخاضعون لحمايتها بعد هروبهم من بلادهم عشيّة وصول النظام الجديد الموالي للغرب.
وتهدف روسيا من حربها الهجينة طويلة المدى في أوكرانيا إلى إعاقة التمدد الغربي على حدود روسيا، أي تجنب اضطرار روسيا لمشاركة حدودها مع دولة موالية للغرب، فضلاً عن طموح روسيا ترسيخ مكانتها العالمية كقوة عظمى.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن روسيا تميل نحو منهجية الحروب غير التقليدية التي تركز على تحقيق الهيمنة من خلال الوسائل غير العسكرية، أكثر من اهتمامها بالتخطيط لحرب تقليدية تركز على التخطيط اللوجيستي ونشر القوات المسلحة. وتشكلّ العمليات المعلوماتية الروسية مصدر قلق ليس فقط لأوكرانيا، ولكن للمجتمع الدولي بشكل عام. وهو ما تبين في تقديم الدول الأوروبية طلبا للدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية لوضع تدابير صارمة ضد عمليات روسيا المعلوماتية.
ومن الجدير بالذكر أن روسيا أنجزت شوطاً فيما يخص عمليتها المعلوماتية، فعلى سبيل المثال استطاعت القنوات الإخبارية الروسية أن تفسح لنفسها مجالاً بين الوكالات والمواقع الإخبارية ذات الانتشار الواسع، والتي تقدم رواية مختلفة عن الرواية الغربية التي ظلت مهيمنة على الإعلام الدولي لسنوات. وذلك بالإضافة إلى توظيف وسائل التواصل الاجتماعي لنشر وجهات النظر الروسية. ولم تطور روسيا هذه المنظومة الإعلامية الواسعة لشن حرب معلوماتية على أوكرانيا؛ وإنما بهدف التضييق على الرواية الغربية، والقضاء على الاستحواذ الغربي على الوسط المعلوماتي في العالم.
وفي التقدير الأخير، تظهر المؤشرات مدى التطوير العسكري والاستراتيجي الروسي والذي كان مدفوعاً في جزء منه بالتحولات اللافتة على المشهد السياسي الدولي. غير أن التطور التكنولوجي خاصة في مجال الإعلام والاتصالات يصعب معه تحريك أي قوات عسكرية في إطار من السرية. ما حول العمليات من الجانب الصلب والعسكري إلى عمليات معقدة وهجينة تعتمد على عدة أدوات غير عسكرية، وعسكرية محدودة، أصغر من حيث الحجم، ولكن اشدّ تركيزاً ووطأة، وهو ما يحد من احتمالية تصعيد النزاعات إلى حروب عسكرية واسعة.
وفي حين أن العمليات العسكرية تبقى ضمن إطار تكتيكي، تمتد الحروب النفسية للمدى الاستراتيجي البعيد، وتلعب دوراً مؤثراً في عملية اتخاذ القرار من قبل الأطراف المعنية. في هذا الإطار يمكننا القول إن الأزمة الروسية - الأوكرانية لن تتمخض عنها حرب نمطية واعتيادية؛ وفي حال حدوثها، فإن تبعاتها ستكون كارثية على أوروبا والمجتمع الدولي من دون أدنى شك.