إعداد: باسم راشد
تعرَّضت سياسة تركيا الخارجية تجاه دول الجوار في منطقة الشرق الأوسط والقائمة على "تصفير المشكلات"، إلى هزَّات عنيفة عقب الثورات العربية، الأمر الذي دفع أنقرة في الوقت الحالي إلى الدخول في خلافات مع عدد من الفاعلين الإقليميين داخل المنطقة، وفي مقدمتهم مصر، بالإضافة إلى أن إقليم الشرق الأوسط أصبح أكثر فوضوية وتجزُئاً وتعقيداً عن ذي قبل.
وقد أثَّرت تلك التطورات على صورة تركيا ونفوذها في المنطقة، برغم قوتها الاقتصادية المتنامية وإنقاقها العسكري الكبير؛ إذ تأتي في المرتبة (15) على مستوى العالم من حيث الإنفاق العسكري؛ وهو ما يثير تساؤلاً هاماً مفاده: لماذا فشلت تركيا في تطوير نظام إقليمي تلعب فيه دوراً محورياً؛ هل لأن التطورات التي حدثت في المنطقة العربية بعد الثورات قد قوَّضت نفوذها وقدرتها على التأثير في الأحداث، أم نتيجة لضعف أداء السياسة الخارجية التركية؟
في هذا الصدد، نشرت مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث (ميري) - وهي منظمة مستقلة تُركِّز على نظام الحكم في الشرق الأوسط بوجه عام وكُردستان والعراق بوجه خاص، ويقع مقرها في مدينة أربيل العراقية - ورقة بحثية بعنوان: "الشرق الأوسط على حافة التمزُّق: سياسة الجوار التركية والحاجة لتعزيز القوة الناعمة"، أعدها الباحث "أثاناسيوس مانيس" Athanasios Manis – الزميل في مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث، حيث استعرض مصادر وأدوات القوة الناعمة التركية وكيف تم توظيفها، ولماذا فشلت في الاستجابة والتأثير في مجريات المشهد السياسي الجديد في المنطقة؟، داعياً الحكومة التركية إلى توظيف مزيد من أدوات القوة الناعمة من أجل استعادة دورها ومكانتها داخل الإقليم.
مصادر القوة الناعمة التركية
يُرجع "مانيس" التدهور في صورة تركيا ونفوذها بالمنطقة، إلى أمرين؛ الأول التحول السريع الذي لحق بالبيئة السياسية في الشرق الأوسط، والذي جعل من استخدام الأدوات التقليدية للتأثير كالتدخل العسكري على سبيل المثال، أمراً خطيراً لأنه سيزيد من التوتر وعدم الأمان في الإقليم. والأمر الثاني ضعف أداء القوة الناعمة التركية الحالية في علاقاتها مع جيرانها.
وترتكز قوة تركيا الناعمة على ثلاثة مصادر رئيسية؛ وهي العلاقات الثنائية، والاتفاقيات التجارية والتبادلات الثقافية، والدبلوماسية العامة المعتمدة على خطابها السياسي، وذلك في إطار مبادئ سياسة "تصفير المشكلات" التي ابتدعها أحمد داوود أوغلو. وتعتمد كفاءة تلك المصادر على النتائج النهائية التي تحققها.
فقد تطورت العلاقات الثنائية على سبيل المثال بين تركيا وسوريا بشكل كبير مقارنةً بالسنوات الخمس الأخيرة، كما ساهم التكامل الاقتصادي والتعاون الأمني فيما بينهما في وضع أسس قوية لتلك العلاقات، الأمر الذي اعتبره "أوغلو" حجر الأساس في سياسته التي تعتمد على إدماج دول الشرق الأوسط في حوار لبناء قواعد السلوك السياسي في الإقليم بشكل تدريجي وعن طريق الإقناع بما يخدم المصالح التركية.
وفي اتجاه مواز، دعَّمت تركيا التبادل التجاري والثقافي بين دول الإقليم؛ إذ ساهمت في تأسيس "مجلس التعاون عالي المستوى" HLCC، والذي يضم تركيا والأردن ولبنان وسوريا، بهدف خلق منطقة حرة لنقل الأشخاص والبضائع بين تلك الدول، ثم بعدها أنشأت عدداً من المجالس الاستراتيجية عالية المستوى مع كل من العراق وسوريا ومصر على أساس من العلاقات الثنائية، فضلاً عن تطويرها لشراكات استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي.
أما بالنسبة للعنصر الثالث الذي ترتكز عليه قوتها الناعمة، وهو الدبلوماسية العامة؛ فيشير الكاتب إلى أن "حزب العدالة والتنمية" سعى إلى كسب قلوب وعقول الرأي العام داخل مختلف دول الشرق الأوسط؛ من خلال استخدامه لخطاب "حاد ولاذع" ضد السياسات الإسرائيلية في فلسطين، مما جعل "الشارع العربي" يرى أنقرة وحزب العدالة والتنمية بمثابة نماذج يُحتذى بها في دول المنطقة.
إلا أن التغيرات التي حدثت في الإقليم بعد الثورات العربية أدت إلى تدهور العلاقات بين تركيا وبين عدد من الدول مثل مصر وسوريا وإسرائيل. وبالتالي يمكن القول، طبقاً لمانيس، أن أنقرة لم تمنع تلك التطورات، بل ساهمت - إلى حد ما - في صنعها من خلال دبلوماسيتها العامة وخطابها السياسي، وهو ما يشير إلى أن النتائج النهائية لقوتها الناعمة، إذا ما قُيِّمَت، لم تكن إيجابية، بل إنها أدت إلى تدهور صورة تركيا أمام الرأي العام في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما أظهرته نتائج المسح الذي قامت به مؤسسة TESEV في 16 دولة في المنطقة لقياس رؤية المواطنين لتركيا خلال عام 2013.
آليات تعزيز القوة الناعمة التركية
يشير الكاتب إلى أن ما ينقص القوة الناعمة التركية هو إبراز طابعها المحلي؛ بمعنى أن تقدم أنقرة نموذجاً في الحكم الديمقراطي وسياسات الاحتواء، الأمر الذي سيُمكِّنها من ربط مشروعها للتعاون والتكامل الإقليمي بالنخب السياسية والرأي العام في الشرق الأوسط. فالعراق وسوريا - على سبيل المثال - تحتويان على جماعات إثنية ودينية ومختلفة، وهما في أمس الحاجة إلى الحكم الديمقراطي الذي يحتوي كل الأطراف المتنازعة ويؤكد قيم التعايش السياسي بينهم، خاصةً بعد فشل النظم السلطوية المركزية في تحقيق الاستقرار بالبلدين.
وفي هذا الصدد يمكن أن تلعب تركيا دوراً محورياً في إبراز نموذجها وخبرتها في التعامل مع الأكراد والأرمن واليهود واليونانيين الأرثوذكس والجماعات السريانية، وكيف استطاعت تحقيق الاستقرار من خلال سياسات الاحتواء والتعايش السياسي بين الجميع.
ويُلمح "مانيس" إلى أنه برغم كون الديمقراطية التركية أفضل بكثير من معظم دول الشرق الأوسط، إلا إنها تُصنَّف رقم 93 من بين 167 دولة حول العالم، فضلاً عن أن أنقرة تحقق معدلات منخفضة تماماً فيما يتعلق بالحقوق المدنية، كما أن اتجاهات الأداء الديمقراطي العام عام 2013 أسوأ من السنوات الثلاثة السابقة.
كذلك لم تستطع تركيا حتى الآن إنهاء المشكلة الكردية تماماً، خاصةً أن حقوقهم السياسية والثقافية الأساسية لم يتم الاستجابة لها بشكل كاف، وذلك برغم خطة الإصلاح التي أعلن عنها رئيس الوزراء التركي حينها "رجب طيب أردوغان" في سبتمبر 2013، والتي تتضمن عدداً من الإصلاحات، لكنها أغفلت إمكانية تعليم اللغة الكردية ليس في المدارس الخاصة فقط، بل الحكومية أيضاً، في حين أبدى "أردوغان" تأييده الكامل لتدريس اللغة العثمانية في المدارس للأجيال الجديدة.
وفي هذا الإطار، يدعو الكاتب الحكومة التركية إلى ضرورة تعزيز قوتها الناعمة بالاعتماد على مصادرها المحلية وتصدير فكرة الحكم الديمقراطي وسياسات الاحتواء، رافضاً الاعتماد على أدوات "القوة الصلبة" في التعامل مع الدول المجاورة نظراً لارتفاع تكلفتها من ناحية، فضلاً عن كونها غير فعَّالة في كثير الأحيان فيما يتعلق بنتائجها المُحققة على الأرض من ناحية أخرى.
توصيات ختامية
لكي يتحقق هذا النموذج المرغوب في الحكم الديمقراطي، وفي ضوء محاولة استعادة الدور الإقليمي لتركيا كوسيط بين الدول في الشرق الأوسط، طرح الكاتب عدة توصيات لصُنَّاع القرار الأتراك، داعياً إياهم للتركيز على ما يلي:
1 ـ حل المشكلات المحلية الأساسية في أسرع وقت، مثل المشكلة الكردية، بالإضافة إلى وضع عدد من الإصلاحات التي تُعزز من أوراق اعتماد الديمقراطية التركية، وقد يتضمن ذلك بعض العناصر، وهي:
ـ تفويض الصلاحيات من الحكومة المركزية إلى المستويات المحلية.
ـ تقليل النسبة المطلوبة للأحزاب (10%) لدخول البرلمان التركي، وذلك لجعله أكثر تمثيلاً للأتراك. (معلوم أنه فى ظل قانون الانتخابات التركي الحالي، فإنه يتعين على الأحزاب الفوز بما لا يقل عن 10% من الأصوات في الانتخابات العامة كي تحصل على تمويل من الدولة وتُمثل في البرلمان).
ـ تفعيل نظم الرقابة والمحاسبة للمناصب التنفيذية في الدولة كالرئيس التركي والحكومة التركية، وذلك من خلال فصل السلطات بين الرئيس والحكومة والبرلمان والقضاء.
2 ـ العمل على إنتاج دبلوماسية عامة تتجاوز الشعارات الشعبية والتصنيفات العنصرية للفاعلين في الشرق الأوسط، وإبراز سياسة جوار أكثر تماسكاً، من خلال توجيه خطاب سياسي يرتكز على تعزيز القيم العالمية؛ مثل احترام حقوق الإنسان، وحرية الرأي والتعبير، والحق في المحاكمة العادلة، والحق في العمل، والحق في الصحة وغيرها. فمثل هذا الخطاب سيساهم في خلق الضغط الضروري والمطلوب لتحقيق الاستقرار وتفعيل الحوار والتعاون بين دول الشرق الأوسط، بما يساهم في استعادة الدور التركي.
في ختام ورقته البحثية، يؤكد "مانيس" أن ما يحتاجه الإقليم بشدة في ظل هذه التطورات والتحديات المستمرة، ليس إبراز مزيد من "القوة الصلبة"، بل مزيج من تعزيز "القوة الناعمة"، مع إمكانية استخدام "القوة الصلبة" في حالات الضرورة. ويمكن لتركيا في هذا الصدد أن تلعب أكثر الأدوار أهمية في تحقيق الاستقرار والتعاون الإقليمي بناءً على نموذجها الخاص في الحكم الديمقراطي.
* عرض مُوجز لورقة بحثية بعنوان: "الشرق الأوسط على حافة التمزُّق: سياسة الجوار التركية والحاجة لتعزيز القوة الناعمة"، المنشورة في يناير 2015، عن مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث (ميري) بإقليم كردستان في العراق.
المصدر:
Athanasious Manis, The Middle East at breaking point: Turkey’s neighborhood policy and the need for enhanced “soft” power, (Iraq, Middle East Research Institute "MERI", January 2015(.