إعداد: د. إسراء إسماعيل
لايزال مستقبل أفغانستان يتسم بالغموض وعدم اليقين، فالتدخل الخارجي لم يحقق السلام والاستقرار، وحتى المكاسب التي تحققت بثمن باهظ لاتزال محل دراسة وتقييم. ومع ذلك لدى العالم فرصة أو بمعنى أدق تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة، والموازنة ما بين عوائد التدخل مثل وقف موجة الفقر وعدم الاستقرار السياسي والعنف، وما بين فك الارتباط الذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
انطلاقاً من هذه المعطيات، نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" دراسة تحت عنوان: "فرصة في أزمة.. اجتياز مستقبل أفغانستان الغامض"، أعدها "مات والدمان" Matt Waldman الزميل في معهد تشاتام هاوس. وتتناول الدراسة عرض الأفكار والتوصيات الرئيسية من مشروع "فرصة في أزمة" حول أفغانستان، الذي يغطي ثلاثة مجالات رئيسية، وهي: السياسة والانتخابات، وقضية المصالحة في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، والتنمية البشرية؛ حيث يوجد في كل مجال من هذه المجالات العديد من الفرص المتاحة والتحديات المعقدة.
السياسة والانتخابات
أشارت الدراسة إلى أن فعَّالية وصلاحية الحكومة الأفغانية محل شكوك؛ فالمؤسسات الديمقراطية ضعيفة، والسلطة تسيطر عليها نخبة سياسية تكونت على أساس المحسوبية والمساومة والعنف، فضلاً عن تقويض العملية الانتخابية من خلال التزوير، مضيفةً أنه في الأشهر التي سبقت الانتخابات الرئاسية والمحلية التي أجريت في أبريل 2014، كانت ثمة مخاوف من انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات، حيث تراجع إقبال الناخبين في أفغانستان بشكل ملحوظ منذ عام 2004، وساهم انتشار الفساد على نطاق واسع خلال الانتخابات التي أجريت في أعوام 2004 و2005 و2009 و2010 في تأكيد التصور الخاص لدى الأفغان بأن الانتخابات يتم التلاعب بها من قِبل النخبة السياسية.
وعلى الرغم من ذلك، جاء التصويت بأعداد كبيرة في انتخابات عام 2014. ويرجع السبب في ارتفاع نسبة المشاركة ليس إلى إيمان الأفغان بالديمقراطية، ولكن نتيجة لرغبتهم في حكومة جديدة، فهم رأوا أن التصويت يعتبر أفضل وسيلة لضمان الانتقال السلمي للسلطة، وباعتباره يمهد الطريق لمستقبل آمِن بدلاً من العنف.
واستشرافاً للمستقبل، يتعين على المجتمع الدولي تقديم الدعم الدائم لإجراء الانتخابات، وضمان وجود دور دولي قوي ومدروس لضمان حل النزاعات مع احترام السيادة الأفغانية في نفس الوقت. وعلى واضعي السياسات الأفغانية والدولية اتخاذ تدابير للحد من عمليات التزوير في الانتخابات، ودعم مشاركة الشباب في الحياة السياسية، والمُضي قُدماً في الإصلاح السياسي والمؤسسي.
المصالحة
أكدت الدراسة أن ثمة مبررات قوية لدراسة إمكانيات التفاوض للتوصل إلى السلام، فالصراع المسلح في أفغانستان يتصاعد، والقوات الحكومية تعاني خسائر كبيرة، حيث يُقتل في المتوسط 680 جندي من الشرطة والجيش الأفغاني كل شهر، إلى جانب الآثار السلبية على المدنيين، حيث وقعت أكثر من 10 آلاف حالة وفاة وإصابة في صفوف المدنيين خلال عام 2014، وهو أعلى مستوى تم تسجيله منذ عام 2001.
وكان عدد الضحايا من المدنيين خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2015 قد سجَّل زيادة بنسبة 16% أعلى مما كانت عليه خلال نفس الفترة من عام 2014، وذلك فضلاً عن نزوح أكثر من 140 ألف أفغاني بسبب النزاع في عام 2014، مُسجلاً ارتفاعاً بنسبة 8% مقارنةً بعام 2013، وهناك الآن أكثر من 900 ألف من المشردين داخلياً في جميع أنحاء البلاد.
من ناحيتها، لا تستطيع الحكومة الأفغانية تحمل أعباء المجهود الحربي، كما أن هناك عدم ثقة بين الأطراف المتحاربة، بيد أن وجود رئيس جديد، وانسحاب القوات الأجنبية، وتغيير المواقف والتحركات الإقليمية، قد يفتح آفاقاً حقيقية لعملية سلام تقودها أفغانستان.
في هذا الإطار، يتعين على صانعي السياسات على المستوى الأفغاني والإقليمي والدولي إعطاء الأولوية للحوار بهدف تحقيق السلام، والتغلب على انعدام الثقة بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان"، على أن يكون ذلك جزءاً من عملية أوسع وأكثر شمولاً للتشاور الوطني.
وينبغي أن يتم ذلك بالتعاون بين الولايات المتحدة والصين، اعتماداً على المصالح المتقاربة، وبهدف تأمين الدعم الإقليمي خاصةً من باكستان، مع ضرورة أن تتمتع هذه الأطراف التي تقود عملية السلام بالقدرة على إدارة التوقعات، وأهمية اعتماد نهج طويل الأجل، نظراً للصعوبات التي لا مفر منها والتي من المتوقع أن تواجهها في المستقبل.
حركة "طالبان"
على الرغم من أن حركة "طالبان" تعد فصيلاً واحداً فقط من المعارضة المسلحة، كما أنها مُنقسمة على نفسها إلى عدة فصائل متنافسة، فإنها تعد أكبر حركة معارضة، والأكثر تنظيماَ وعنفاً، وبالتالي فهي الأهم بين الحركات المسلحة في أفغانستان. وعلى الرغم من صعوبة تمييز أهدافها، بيد أنها أعلنت عن رغبتها في تأسيس "نظام إسلامي".
وتتوقع حركة "طالبان" تحقيق انتصار عسكري، وتركز على الحفاظ على الكفاح المسلح. ومع ذلك، فقد أصبحت أقل مناهضة لفكرة المفاوضات عما كانت عليه قبل بضع سنوات، كما أصبحت تأخذ التحركات السياسية في الاعتبار، جنباً إلى جنب مع الجهود العسكرية.
الأهداف والمصالح
لدى الأطراف المتصارعة في أفغانستان مجموعة من المصالح الرئيسية التي تمتد من مصالح سياسية وجيواستراتيجية واقتصادية إلى مخاوف اجتماعية وثقافية متعددة، ومن ثمَ فإن الجهود المستقبلية التي تهدف لإنجاح عملية السلام يجب أن تأخذ في اعتبارها الأهمية النسبية لهذه المصالح بالنسبة للأطراف المعنية، ومدى تلاقيها أو تباعُدها مع بعضها البعض.
وثمة تقارب واضح في المصالح بين معظم الأطراف بما في ذلك حركة "طالبان" إلى حدِ ما، من حيث الرغبة في تجنب وقوع حرب أهلية واسعة النطاق أو انهيار الدولة، والحفاظ على سلامة أراضي الدولة وسيادتها، وعلى المدى الطويل الحفاظ على قوات الأمن الوطني وفاعليتها، فضلاً عن الرغبة في احتواء المتطرفين، وتأمين استمرار تقديم المساعدات الدولية للبلاد.
وعلى الرغم من ذلك توجد بعض القضايا الخلافية التي تتباعد فيها المصالح، مثل تلك المتعلقة بممارسة السلطة، ووجود القوات الأجنبية، كما أن أجندة حركة "طالبان" تتضمن التطبيق الصارم للشريعة. وبالإضافة إلى ذلك، يوجد اختلاف أيضاً في المصالح بين قادة الأطراف المعنية والمواطنين، حيث توجد بعض القضايا التي تهم المواطنين ولا يعتبرها المسؤولون ذات أولوية، مثل ضمان احترام حقوق الإنسان، وحقوق المرأة.
وتوضح الدراسة أن شبكة الأهداف والمصالح المعقدة للأطراف المعنية في الصراع، تؤكد على أهمية وجود وساطة فعَّالة تدرك هذه المصالح وأهداف الأطراف المعنية، وتوجهاتها ومساحة حركتها، وسُبل الضغط والتأثير عليها.
ويحذر الكاتب من خطورة إهمال مصالح المواطنين الأفغان ومتطلباتهم في أي عملية مأمولة للسلام، ولتجنب ذلك فلابد من إشراك ممثلي المجتمع الأفغاني، كما أن أي فاعل يقوم بدور الوسيط في المستقبل يجب أن يأخذ في الاعتبار وضع استراتيجيات تعمل على حماية مصالح الشعب الأفغاني، وليس فقط التغلب على الخلافات بين أطراف الصراع.
الدور الإقليمي في الصراع
تعتبر أفغانستان نفسها في "قلب آسيا"، وعلى الرغم من وجود العديد من المنظمات المتعددة الأطراف مثل رابطة جنوب آسيا للتعاون الإقليمي (SAARC)، ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) إلا أن هذه المنظمات ليس لديها تاريخ من المشاركة الفعَّالة في القضايا الأمنية، ويُعوقها عدم الثقة بين أعضائها من الدول، كما أنها تضم مناطق ودول تفتقد التواصل فيما بينها. وفي الواقع فإن الدول الأعضاء فيها قلقة بشأن امتداد الصراع من أفغانستان إليها، خاصةَ ما يتعلق بانتشار الاتجار بالمخدرات، والإرهاب، ومشاكل اللاجئين.
وتؤكد الدراسة أن المشاركة الإقليمية الناجحة مطلوبة، ولكن تفتقر معظم بلدان المنطقة إلى القدرة، والنفوذ، والشرعية أو الإرادة السياسية للتوسط في هذا الصراع، موضحةً أن باكستان تنظر إلى أفغانستان من منظور صراعها الجيوسياسي الكامن مع الهند، وأن تاريخ العلاقة طويلة الأمد بين باكستان وحركة "طالبان" الأفغانية يعكس أنها لن تكون قادرة على التوسط، على الرغم من أهمية دورها.
وأشار الكاتب إلى وجود بارقة أمل نتيجة قلق الجيش الباكستاني المتزايد بشأن التهديد الذي تشكله حركة "طالبان" الباكستانية، بما في ذلك المخاوف المتنامية من إمكانية استفادتها من الملاذات الآمنة في أفغانستان، ومن ثم َّفقد تساعد تلك المخاوف في إحداث تعاون حقيقي بين باكستان والحكومة الأفغانية، بهدف إجراء حوار سياسي يضم حركة "طالبان" الأفغانية.
التنمية البشرية
تواجه أفغانستان ضعفاً مُزمناً في توفير الخدمات الأساسية، ويتسبب العنف المتزايد في تعطيل الاقتصاد، وعرقلة جهود التنمية، فضلاً عن تراجع المساعدات الدولية. ولمواجهة ذلك، يتعين على واضعي السياسات الأفغانية والدولية التركيز على الحصول على الدعم الدولي المستمر للبلاد على أساس "إطار عمل طوكيو للمساءلة المتبادلة" TMAF، لتعزيز عملية التنمية التي تقودها الحكومة الأفغانية.
ومن الأولويات الرئيسية التي يجب أخذها في الاعتبار، التصدي للفساد، وتوفير بيئة سياسية مواتية للتنمية، الأمر الذي يقتضي زيادة استخدام المؤسسات متعددة الأطراف، والصناديق الائتمانية الدولية International Trust Funds، فضلاً عن ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوسيع نطاق حقوق المرأة والفرص المتاحة أمامها. ويمكن للمنظمات غير الحكومية الاستفادة من الخبرات السابقة للتعامل مع تفاقم انعدام الأمن.
وقد خلصت الدراسة إلى وجود خمس خطوات أساسية يمكن أن تحدث فرقاً في مستقبل أفغانستان، وهي:ـ
1- إعداد حملة دبلوماسية دولية على رأسها الولايات المتحدة بالتعاون مع الصين، لحشد التأييد الخارجي لأفغانستان، والحد من التوترات الإقليمية، خاصةً بين أفغانستان وباكستان، والعمل على إشراك حركة "طالبان" في محادثات السلام.
2- تواصل جهود الحكومة الأفغانية، بالتعاون مع الأمم المتحدة والشركاء الدوليين، لبناء عملية سلام تركز على حوار منظم مع المتمردين، بحيث تخدم المصالح المشتركة، وتشمل التواصل مع جميع عناصر المجتمع الأفغاني.
3- وضع الحكومة الأفغانية وتنفيذها لخطة تهدف إلى الوفاء بالتزاماتها تجاه تحقيق الإصلاح، والتصدي للفساد، وتفعيل مؤسسات الدولة، وخلق فرص عمل جديدة، وتحقيق الاستدامة المالية.
4- تضافر إجراءات الحكومة الأفغانية بهدف وضع سياسات أكثر شمولاً، خاصةً ما يتعلق بالسياسات التنموية، وتعزيز الهيئات الانتخابية، وتشجيع المشاركة في الحياة السياسية، وحماية مجال التعبئة المحلية، خاصةً بالنسبة للنساء وجيل الشباب.
5- تجديد الالتزام من قِبل الغرب والجهات المانحة الأخرى، لتوفير الدعم المالي المستدام للقطاعات المدنية والأمنية في أفغانستان على مدار العقد القادم، على أساس إنعاش "إطار عمل طوكيو للمساءلة المتبادلة" لدعم النمو والتنمية الاقتصادية المستدامة، والاستعانة بالهيئات متعددة الأطراف كضمان للالتزام بالمعايير الدولية، وبناء القدرات المؤسسية.
ختاماً، أكدت الدراسة على وجود العديد من العوامل التي تساعد أفغانستان في التغلب على تحدياتها المتعددة، ولكن العامل الرئيسي الذي لا غنى عنه للنجاح الدائم يتمثل في توفر التصميم الجماعي والإرادة السياسية لاغتنام الفرص لمستقبل أفضل وأكثر استقراراً.
* عرض مُوجز لدراسة: "فرصة في أزمة.. اجتياز مستقبل أفغانستان الغامض"، والصادرة في يوليو 2015 عن المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس".
المصدر:
Matt Waldman, Opportunity in Crisis: Navigating Afghanistan’s Uncertain Future (London, The Royal Institute of International Affairs "Chatham House", July 2015).