شهد الصراع بين الحكومة الإثيوبية بقيادة رئيس الوزراء، آبي أحمد، والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي تحولات متسارعة خلال الأسابيع الماضية. فبعد أن حققت الجبهة الشعبية مكاسب استراتيجية متتالية، جعلها تقترب إلى 170 كيلومتراً من العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، تمكن الجيش الإثيوبي من استعادة بعض المدن الاستراتيجية من الجبهة الشعبية وأبعدها عن العاصمة بنحو 380 كيلومتراً.
تغير مسار الصراع:
أعلنت الحكومة الإثيوبية استعادة سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي في شمال البلاد من الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي. وفق ما أعلنته المتحدثة باسم رئيس الوزراء، بيلين سيوم، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- نجاح أديس أبابا في الدفاع عن العاصمة: أعلنت الحكومة الإثيوبية استعادة السيطرة على بلدتي ديسي وكومبولتشا الاستراتيجيتين من قوات التيجراي في 6 ديسمبر، والواقعتين على طول الطريق السريع "آيه 2" الذي يربط منطقة تيجراي الشمالية بأديس أبابا، وتجدر الإشارة إلى أن جبهة التيجراي، بعد فقدانها السيطرة على المدينتين باتت على بعد 380 كيلومتراً من أديس أبابا، وذلك بعد أن كانت على بعد 170 كيلومتراً منها، في نوفمبر الماضي. وبالتالي، فقد تمكنت الحكومة الإثيوبية من تأمين العاصمة من هجمات التيجراي.
كما كان هناك مسار آخر للمتمردين للسيطرة على العاصمة أديس أبابا، عبر إقليم عفر، فقد استعادت القوات الحكومية بلدة شيفرا، الواقعة على الحدود بين إقليمي العفر وأمهرة، وكذلك بلدة شيوا روبت، التي تقع على بعد 220 كيلومتراً (136 ميلاً) شمال شرق أديس أبابا، وثماني بلدات وقرى أخرى. وجاءت هذه المكاسب بمنزلة ضربة لقوات التيجراي.
وتجدر الإشارة إلى أن الجبهة الشعبية أشارت إلى قيامها "بانسحاب استراتيجي" من بعض المناطق التي يقول الجيش إنه استعاد السيطرة عليها، في مؤشر على صحة الانتصارات التي أعلن عنها الجيش الإثيوبي.
كما أعلن مكتب رئيس الوزراء الإثيوبي استعادة القوات الحكومية الإثيوبية وحلفائها الإقليميين بلدة لاليبيلا، وهي موقع تراث عالمي تابع للأمم المتحدة، من قوات التيجراي.
2- تأمين طريق التجارة مع جيبوتي: تمكن الجيش الإثيوبي من وقف زحف التيجراي والأرومو نحو مدينة ميللي الاستراتيجية، التي تعد أهم مدن إقليم العفر، نظراً لأنه يمر عبرها الطريق "آيه 1"، وخط السكك الحديدية، واللذان يربطان بين أديس أبابا وميناء جيبوتي.
ويمثل خط السكك الحديدية بين أديس أبابا وجيبوتي شريان الحياة للاقتصاد الإثيوبي، نظراً لأنها دولة حبيسة، مما يجعلها تعتمد على هذا الخط بنسبة تصل إلى 95٪ من إجمالي حركة تجارتها مع الخارج.
3- استهداف خطوط إمدادات التيجراي: مثل أحد العوامل التي ساعدت آبي أحمد على مواجهة متمردي جبهة التيجراي طول خطوط إمداد جبهة التيجراي من معاقلهم في مدينة ميكيلي، عاصمة إقليم تيجراي، والتي تبعد نحو 740 كيلومتراً من العاصمة أديس أبابا.
وسعى آبي أحمد لمحاولة قطع هذه الإمدادات عبر استهدافها بالمقاتلات الحربية، والطائرات المسيّرة، الصينية والتركية والإيرانية، بالإضافة إلى تدمير مراكز القيادة والسيطرة للتيجراي في ميكيلي، وكذلك مستودعات الأسلحة والغذاء ومعسكرات التدريب والتعبئة، غير أن هذه الجهود أخفقت في تحقيق أي من أهدافها.
ولذلك اتجه آبي أحمد إلى قيادة معارك برية بنفسه في محاولة لقطع خطوط الإمداد للتيجراي في كومبولشا وديسي، وهو ما نجح في تحقيقه، فقد أشارت جبهة تحرير تيجراي إلى أنها انسحبت من المدينتين، في مؤشر على إدراكها أن طول خطوط إمدادها قد يؤدي إلى سهولة قطعها من جانب القوات الحكومية. كما قطع آبي أحمد طريق الإمداد عن قوات المتمردين في بلدتي شيوا روبيت ودبري سينا، مما أجبرهم في النهاية على التراجع بعيداً عن العاصمة.
4- عودة آبي أحمد لترؤس الحكومة: كان رئيس الوزراء، آبي أحمد، يقود الجيش الإثيوبي على جبهة القتال، ونقل مهامه نائب رئيس الوزراء الإثيوبي، ديميكى ميكونين، لتولي إدارة الشؤون اليومية في ظل غياب الأول، وبعد تمكن أبي أحمد من إبعاد جبهة التيجراي عن إثيوبيا، عاد إلى ممارسة مهامه كرئيس للوزراء.
5- محاولة السيطرة على ولدايا: يتمثل الموقع المستقبلي لاندلاع العمليات القتالية بين الجانبين في مدينة "ولدايا" التي لاتزال خاضعة لسيطرة "جبهة تحرير شعب تيجراي"، والتي تقع على بعد نحو 119 كيلومتراً شمال ديسي. وفي حالة تمكن آبي أحمد من السيطرة عليها، فإنه وضع جبهة التيجراي العسكري سوف يضعف، وحينها، قد تفكر في الجلوس على طاولة المفاوضات.
وحتى في حالة تخلي التيجراي عن الزحف على أديس أبابا، فإن إبقاء سيطرتها على ولدايا يعد أمراً مهماً، وذلك لإقامة منطقة عازلة بين القوات الحكومية وإقليم التيجراي، حتى تتمكن من حماية الإقليم من الضربات المدفعية للقوات الحكومية، بينما قد تفضل الحكومة الإثيوبية السيطرة على ولدايا لتعزيز موقفها في أي مفاوضات قادمة.
انقسام دولي:
تتباين مواقف القوى الدولية ما بين اتجاه مؤيد وداعم بشكل واضح للحكومة الإثيوبية، واتجاه رافض لتصرفاتها. وتؤدي هذه الانقسامات الدولية إلى تعقيد المشهد الإثيوبي، خاصة في ظل تعنت الطرفين ضد القبول بالمحادثات. ويمكن تفصيل هذه المواقف المتباينة من خلال الآتي:
1- ضغوط غربية على الحكومة الإثيوبية: حاول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية ممارسة ضغوطات على الحكومة الإثيوبية، وذلك من خلال وقف المساعدات، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتعليق عضوية إثيوبيا في قانون النمو والفرص في أفريقيا، لمحاولة إنهاء الصراع. كما فرضت واشنطن عقوبات تستهدف المسؤولين والمؤسسات الإريترية بسبب دورهم المزعزع للاستقرار في الصراع.
والجدير بالذكر أن الجهود التي قادها المبعوث الأمريكي الخاص بالقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، للضغط على الأطراف كافة للوقف الفوري وغير المشروط لإطلاق النار، بالإضافة إلى إطلاق حوار وطني شامل قد باءت بالفشل. كما حذر الاتحاد الأوروبي من خطر تفكك إثيوبيا بالكامل ما لم يتفق الطرفان المتحاربان على وقف إطلاق النار.
والجدير بالذكر أن الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، ينخرط بشكل كثيف في محادثات مع آبي أحمد، لإيجاد سبل لحل الصراع الإثيوبي بالتعاون مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين.
2- دعم صيني – روسي لأديس أبابا: اعتبرت زيارة وزير الخارجية الصيني، وانج يي، في بداية الشهر الجاري للعاصمة الإثيوبية الأبرز في سلسلة من الخطوات المؤيدة للحكومة الإثيوبية خلال صراعها مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي من قبل بكين.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الصيني للتأكيد على الموقف الإثيوبي بشأن رفض محاولات القوى الخارجية للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة الإثيوبية، فضلاً عن ارتباط هذه الزيارة بالنجاحات الميدانية التي حققها الجيش الإثيوبي ضد حركات التمرد في مؤشر على إمكانية لعب الصين دوراً في مثل هذا التقدم. وتجدر الإشارة إلى أن الصين لم تحاول إرسال تحذيرات إلى مواطنيها بشأن تدهور الأوضاع الأمنية في إثيوبيا على عكس الدول الغربية، وهو ما يظهر حجم التأييد الصيني لإثيوبيا.
كما رفضت الصين وروسيا إصدار بيان من مجلس الأمن يدعو لوقف إطلاق النار في إقليم تيجراي. والجدير بالذكر أن التحالفات الإثيوبية مع القوى الدولية قد شهدت تغييراً استراتيجياً فقد كانت أديس أبابا أحد أهم الأطراف الحليفة للدول الغربية في الحرب على الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي، خاصة في الصومال. ولكن توتر العلاقات بين الطرفين في ظل حكومة آبي أحمد، وتوجيه اتهامات له بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان خلال الصراع الإثيوبي، قد يدفعه إلى تغيير تحالفاته.
وفي الختام، يمكن القول إن المعارك العسكرية لاتزال متواصلة بين الجانبين، ولم تصل بعد إلى مرحلة وقف إطلاق النار لبدء التفاوض على تسوية سلمية للأزمة. ولاتزال هناك مؤشرات على سعي الطرفين إلى تحقيق أي فرصة لاستعادة ميزة عسكرية في الصراع بهدف إجبار الطرف الآخر على الخضوع للتسوية السياسية التي تتفق مع مصالحه.
ومع بقاء رئيس الوزراء لآبي أحمد في منصبه، واستمرار جبهة التيجراي في سيطرتها على أراض واسعة وأسلحة ثقيلة، فإنه من المرجح أن يبحث كلاهما عن فرص لشن عمليات هجومية جديدة بهدف إضعاف موقف خصومه عسكرياً، مما يرجح اندلاع قتال متكرر بالأسلحة الثقيلة، بالإضافة إلى محاولة القوات الإثيوبية توجيه ضربات جوية للمتمردين.
وقد تتجه جبهة التيجراي في المقابل لمحاولة استهداف الطريق السريع "آيه 1"، وهو ممر الاستيراد والتصدير الرئيسي لإثيوبيا عبر جيبوتي لأن تعطيله سيؤدي إلى نقص حاد في السلع الأساسية (مثل الوقود) في أديس أبابا. وفي المقابل، فإن استمرار القتال من دون حسم سوف ينذر بإرهاق الدولة الإثيوبية اقتصادياً، بالإضافة إلى تهديد كيان الدولة الإثيوبية خاصة أن الانقسامات الدولية قد تغذي الانقسامات المحلية.