يبدو أن نص سيناريو تدخل الجيش في الحياة السياسية بات مألوفاً جداً في الواقع الأفريقي، حيث يستيقظ الناس ليجدوا أن رأس السلطة التنفيذية قد اعتقله الجيش وأن الدستور قد أُوقف العمل به، وعوضاً عن ذلك يتم الإعلان عن حالة الطوارئ في البلاد. وفي العقود المبكرة لمرحلة ما بعد الاستعمار عندما كانت هذه الظاهرة متفشية، قدم القادة العسكريون في أفريقيا عادة الأسباب نفسها للإطاحة بالحكومات، وهي الفساد وسوء الإدارة والفقر وحماية البلاد من الفوضى. وقد ردد الفريق أول عبدالفتاح البرهان، الذي قاد ما وصفها بـ "الحركة التصحيحية" في السودان، يوم 25 أكتوبر 2021، هذه التبريرات، مشيراً إلى "أن الفترة الراهنة قامت على التراضي المتزن بين الشركاء العسكريين والمدنيين، لكن انقلب التراضي إلى صراع، فأصبحت بلادنا تمر بخطر حقيقي، وانقسامات تنذر بخطر وشيك يهدد أمن الوطن، ووحدة وسلامة أرضه، وشعبه". ولعل ذلك هو ما استوجب من منطلق مسؤولية القوات المسلحة، أن تحمى أمن وسلامة الوطن وتدفع باتجاه تحقيق السودان الجديد.
وقد يؤدي تدخل الجيش في السودان إلى تعريض الانتقال السياسي المتعثر للخطر من خلال إثارة الاضطرابات، وإعاقة جهود الخرطوم لتحقيق التعافي الاقتصادي والإعفاء من الديون. وفي بداية هذه الأحداث، احتجزت قوات الأمن رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك - الذي أُطلق سراحه لاحقاً- وبعض الفاعلين السياسيين كجزء من استيلاء الجيش على الحكومة الانتقالية في البلاد. وأعلن قائد الجيش، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، في خطاب عام متلفز، حالة الطوارئ، وحل الحكومة المدنية والعسكرية المشتركة التي تأسست في عام 2019 بعد الإطاحة بحكم الرئيس المعزول عمر البشير. وقال البرهان إن تشاكس بعض القوى السياسية وتكالبها نحو السلطة والتحريض على الفوضى والعنف، أجبره على التدخل لصالح الشعب السوداني. كما تعهد بتعيين حكومة تكنوقراط لتقود السودان إلى انتخابات ديمقراطية في يوليو 2023، وهو جدول زمني أقصر بكثير من التزام 39 شهراً الذي قدمه نص الوثيقة الدستورية.
إجراءات استثنائية:
من الواضح أن الرسالة التي يريد الجيش السوداني أن ينقلها للجمهور هي أن الإجراءات الاستثنائية التي تم القيام بها لا تمثل انقلاباً، بل هي تصحيح لانتقال السودان إلى الديمقراطية. لقد كان التركيز ينصب على استبدال بعض السياسيين المدنيين الذين يُعرضون البلاد للخطر ويثيرون المعارضة داخل الجيش. وطُلب من رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، الإدلاء ببيان يدعم فيه إجراءات الجيش، لكنه رفض على ما يبدو، وهو ما أدى إلى احتجازه بعض الوقت في منزل البرهان نفسه. وعلى أية حال، فإن قرارات البرهان بتعليق العمل ببعض أحكام الوثيقة الدستورية، تجعله في حل من الشراكة مع قوى الحرية والتغيير التي باتت عقبة أساسية أمام حدوث توافق سياسي في المرحلة الانتقالية.
وتأتي إجراءات البرهان الاستثنائية قبل أقل من شهر على موعد نقل رئاسة مجلس السيادة الانتقالي للمدنيين في 17 نوفمبر 2021. وعليه سوف يصبح البرهان رأس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة ويحق له تعيين رئيس الوزراء وتشكيل مجلس انتقالي بديل بعيداً عن مناكفات قوى الحرية والتغيير. ولعل ذلك كله يطرح تساؤلات المستقبل بالنسبة لشركاء السودان وعملية بناء السودان الجديد.
أسباب تدخل الجيش:
إن الميزان الدقيق الحاكم للدياركية المدنية - العسكرية التي تقود عملية الانتقال السياسي في السودان، قد وصل إلى مرحلة لا يمكن تجاوزها. وكان من الواضح أن هيكل الحكم الانتقالي "المنقسم" ينهار رويداً رويداً، في وقت كان فيه جنرالات الجيش بشكل خاص يخشون من فقدان قبضتهم على السلطة مما يدفع البلاد إلى طريق الفوضى. ويمكن الإشارة إلى عدد من العوامل أسهمت بشكل أو آخر في قرار الجيش السوداني بالتدخل، وأبرزها الآتي:
1- الانقسام المدني – العسكري في البلاد: يأتي تدخل الجيش السوداني بعد أشهر من التوترات المتصاعدة بين المكونين العسكري والمدني في مؤسسات الحكم الانتقالي. فقد اندلعت التوترات بين حمدوك والبرهان بعد أن حاول فصيل من الجيش الموالي للرئيس المخلوع البشير، من دون جدوى، السيطرة على الحكومة الانتقالية في سبتمبر 2021، حيث اتهم الزعيمان بعضهما البعض بالفشل في تنفيذ السياسات اللازمة لإجراء انتخابات ديمقراطية وعملية انتقالية سلسة إلى الحكم المدني الكامل.
واتهم حمدوك على وجه الخصوص القادة العسكريين بالفشل في تطهير صفوف المؤسسة العسكرية من الموالين للبشير وتنفيذ إصلاحات أمنية شاملة وزيادة الرقابة المدنية على المشاريع التجارية للجيش. بينما اتهم البرهان القادة المدنيين بالامتناع عن تقديم السلع والخدمات الأساسية للشعب السوداني، حيث أدى ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، إلى جانب نقص السلع الاستراتيجية مثل القمح والأدوية، إلى زيادة تدهور الوضع السياسي والأمني مؤخراً. وفي السياق نفسه، انتقد الجنرال محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، بشدة القادة المدنيين في السودان، واتهمهم بالتركيز على المناورة من أجل مناصب في السلطة بدلاً من الحكم. ومع ذلك، فقد وجه هؤلاء المسؤولون المدنيون في السابق الانتقادات نفسها ضد الجنرال دقلو.
2- تزايد الاستقطاب السياسي: في الأيام التي أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة في السودان في سبتمبر 2021، تظاهر مئات الأشخاص في ولايات الجزيرة وشمال كردفان والقضارف السودانية للتنديد بمحاولة الانقلاب. ورداً على تصريحات قادة الجيش بأن استمرار الحكم العسكري ضروري للحماية من محاولات الانقلاب في المستقبل، أضرم المتظاهرون النار أيضاً في عربة مدرعة في العاصمة الخرطوم يوم 23 سبتمبر الماضي. كما دعا تجمع المهنيين السودانيين إلى احتجاجات شعبية للمطالبة بأن تُنشئ الحكومة الانتقالية المؤسسات التي وعد بها قادة الثورة. وفي المقابل، نظم فصيل متحالف مع الجيش في قوى إعلان الحرية والتغيير، والذي يشمل جماعات مسلحة تمردت على حكم البشير، تظاهرات مؤيدة للجيش ومطالبة بإسقاط حكومة حمدوك. ولعل ذلك يتسق مع مطالب عموم نظارات البجا في شرق السودان التي تمثل مطلبها الأساسي في تشكيل حكومة كفاءات وطنية جديدة تحت رعاية الجيش.
3- سوء الإدارة الانتقالية: واجهت الحكومة الانتقالية في السودان بالتأكيد تحديات كبرى لم تستطع التعامل معها بحلول مبتكرة. إذ أدت الإصلاحات المالية إلى مزيد من الصعوبات الاقتصادية وزيادة التضخم، كما تسبب الحصار المستمر الذي تفرضه قبائل البجا في شرق السودان على أهم موانئ الشرق، في نقص السلع الأساسية. وعلى الرغم من توقيع اتفاق السلام العام الماضي مع الجماعات المتمردة في جميع أنحاء البلاد، فقد ارتفع عدد القتلى من جراء العنف السياسي خلال الأشهر الـ 12 الماضية. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك إخفاقات داخل الحكومة الانتقالية في الاتفاق على التشريع، وانفصلت مجموعة منشقة عن قوى الحرية والتغيير المدنية لتقف إلى جانب الكتلة العسكرية. وتضم هذه المجموعة المنشقة فصيلين متمردين سابقين وحزب سياسي يمكن استخدامه ليحل محل حكومة حمدوك.
مخاطر مُحتملة:
يوجد عدد من المخاطر والتحديات المُحتمل أن يعانيها السودان خلال الفترة المقبلة، وتتمثل فيما يلي:
1- مخاطر العنف والاضطراب السياسي: ربما يؤدي سيطرة الجيش السوداني على السلطة إلى فترة من الاضطرابات العنيفة في البلاد، مما يهدد الانتقال إلى الحكم المدني، وبالتالي التأثير على المساعدات المالية الدولية. فقد حذر المانحون الدوليون، بما في ذلك الولايات المتحدة، مراراً وتكراراً من أن الدعم المالي الذي يعتمد عليه السودان مرهون بانتقال سلمي إلى الحكم المدني. ونتيجة لذلك، يخاطر قادة الجيش بتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان إذا سحب المجتمع الدولي الدعم المالي. وبالفعل أعلنت الولايات المتحدة عن تجميد مبلغ 700 مليون دولار للخرطوم. وعلى الرغم من إعلان الفريق أول البرهان أكثر من مرة التزامه بحكومة يقودها مدنيون، فإن المزاج العام داخل بعض نخب الجيش والتدابير الاستثنائية التي اتبعتها القوات المسلحة للحفاظ على السيطرة على المرحلة الانتقالية تشير إلى أن القادة العسكريين غير مستعدين للتنازل عن السلطة في المستقبل القريب.
2- مخاطر التدافع الدولي: يعد السودان دولة محورية تربط بين عوالم ثلاثة هي العربية والأفريقية والإسلام. وبعد اندلاع ما يُسمى بـ "ثورات الربيع العربي"، تحولت المنطقة إلى ساحة خصبة للتنافس الدولي، حيث تمت إعادة صياغة خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، وبرزت أدوار قوى إقليمية كبرى مثل تركيا ومصر ودول الخليج العربية. وسعت أنقرة إلى زيادة دورها في السودان، كما أن مصر ودول الخليج العربية تبحث عن شراكات استراتيجية تعاونية مع السودان، وبما يساعد على تحقيق الاستقرار في هذا البلد. وبالنظر إلى المساعي الروسية لإنشاء قاعدة لها على البحر الأحمر في السودان، تُولي الولايات المتحدة مسألة دعم السودان من النواحي السياسية والاقتصادية والأمنية أهمية خاصة. واتضح ذلك من زيارات المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، للخرطوم أكثر من مرة، ولقائه البرهان وجنرالات الجيش السوداني عشية تدخل الأخير واستيلائه على السلطة.
رؤيتان للمستقبل:
يمكن الحديث عن رؤيتين للمستقبل السوداني القريب؛ أولهما تمكن الجيش من تشكيل حكومة مدنية تكنوقراطية جديدة للإشراف على العملية الانتقالية، وفي هذه الحالة نكون أمام تحالف بيروقراطي عسكري. بمعنى أن يعمد الجيش إلى اختيار الحلفاء من المدنيين الذين يقبلون بمفهوم السيطرة العسكرية، حتى بعد إجراء الانتخابات. ولكن بالنظر إلى التاريخ السياسي للسودان، فمن شبه المؤكد أن الائتلافات المؤيدة للديمقراطية ستقاوم بشدة الحكم العسكري من خلال استمرار التظاهرات والاعتصامات والإضرابات. وفي هذه المرحلة، ليس من الواضح ما إذا كان تعيين حكومة مدنية جديدة وجدول زمني سريع كافيين لاسترضاء الجماعات السودانية المؤيدة للديمقراطية. واعتماداً على مدى استعداد الجيش لفرض قبضته الحديدية، فإن المعارضة المستمرة للاستيلاء العسكري قد تعني فترة من التظاهرات العنيفة، تذكرنا باحتجاجات عامي 2018 و2019 ضد نظام البشير.
ويدفع ذلك إلى إمكانية تبني الرؤية الثانية، حيث يضطر الجيش السوداني إلى القبول بتسوية تفاوضية لإنهاء الاضطرابات، كما كان عليه الحال في عام 2019. بيد أنه من المرجح أن يواجه تشكيل تحالف انتقالي مدني - عسكري جديد نفس مشاكل الفصائل المتشاكسة التي ابتلي بها التحالف القديم. وعليه تصبح وعود انتخابات يوليو 2023 والتحول نحو الحكم المدني غير ذات جدوى.
ولعل الملاحظة الجديرة بالاعتبار هنا وتحتاج إلى مزيد من التأمل هي أن كل انتقال سياسي في السودان يؤدي في نهاية المطاف إلى تدخل العسكريين واستيلائهم على السلطة. ومن جهة أخرى، فإن تسارع الأحداث منذ سقوط نظام البشير في عام 2019، وحدوث توافقات أولاً مع قوى الحرية والتغيير ثم مع بعض الفصائل المسلحة من خلال اتفاق جوبا، وأخيراً إجراءات البرهان التصحيحية – على حد وصفه؛ جعلتنا أمام مراحل انتقال سياسي متشابكة ومعقدة يمر بها السودان.