لايزال المجتمع الدولي يشعر بمخاوف متصاعدة إزاء حكومة طالبان الجديدة، خاصة في ضوء العديد من الممارسات المتشددة التي انتهجتها الحركة في الفترة الأخيرة، والتي أعادت إلى الأذهان احتمالية العودة إلى النسخة القديمة من حركة طالبان على غرار ما حدث في فترة التسعينيات. فقد أثيرت انتقادات دولية تجاه الحركة لتشبثها ببعض الممارسات على الرغم من الوعود التي أطلقتها بشأن انتهاجها سياسات أكثر اعتدالاً مقارنة بفترة حكمها السابقة.
أبرز مؤشرات التشدد:
على الرغم من استجابة طالبان إلى الضغوط الدولية، إلى حد ما، بشأن ضرورة شمولية الحكومة، والتي تبلورت من خلال توسيع المشاركة في الحكومة من خلال تعيين شخصية من المقيمين في ولاية بنشجير شمال شرق البلاد قائماً بأعمال وزير التجارة، كما تم اختيار نائب لوزارة الصحة من أقلية الهزارة، فإن الحركة تواجه انتقادات حادة بشأن عودتها لبعض الممارسات المتشددة، والتي تعرقل حصولها على اعتراف المجتمع الدولي، وهي كالآتي:
1- العودة لتطبيق الحدود: أوضح القائد السابق لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حركة طالبان، والمسؤول حالياً عن قطاع السجون، الملا نور الدين ترابي، أن العقوبات القاسية، مثل الإعدامات وبتر الأعضاء سيتم تطبيقها مرة أخرى في أفغانستان، مضيفاً أن عمليات بتر الأعضاء لتطبيق الحدود مهمة لتحقيق الأمن.
2- العودة للممارسات المتشددة: منعت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة لحركة طالبان في ولاية هلمند جنوب أفغانستان، وكذلك في العاصمة كابول، صالونات تصفيف الشعر في المنطقة من تقديم خدمة حلق، أو تقصير اللحية لروادها من الرجال. وبررّت الهيئة هذه الخطوة انطلاقاً من أن تصفيف الشعر يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية وقررت معاقبة المخالفين على غرار ما كان عليه حكم طالبان إبان فترة التسعينيات.
وعلّق بعض مسؤولي الحركة في وقت سابق أربع جثث في الساحة المركزية في مدينة هرات الغربية في أواخر سبتمبر، ثم نقلوا ثلاث جثث إلى أجزاء أخرى من المدينة لعرضها على العامة. ومن ناحية أخرى، أوضح قائد شرطة في منطقة هرات، ضياء الحق جلالي، أن عناصر حركة طالبان أنقذوا أباً وابنه كان قد اختطفهما أربعة مختطفين بعد تبادل لإطلاق النار، وأن الخاطفين قد قُتلوا في تبادل لإطلاق النار.
وأوضح أحد أعضاء الحركة أن الهدف من هذه الممارسات هو تحذير جميع المجرمين بأنهم ليسوا بأمان. وأثارت هذه الممارسات انتقادات من قبل الولايات المتحدة، فقد صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، إلى وقوف الإدارة الأمريكية بحزم مع المجتمع الدولي لمحاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات.
3- فرض القيود على النساء: وضعت حركة طالبان المزيد من القيود على النساء الأفغانيات، فقد أعلن المستشار الجديد لحركة طالبان في جامعة كابول بأنه سيتم منع النساء إلى أجل غير مسمى من دخول المؤسسة، سواء كمعلمات أو طالبات، مضيفاً بأنه لن يُسمح للنساء بالقدوم إلى الجامعات أو العمل ما لم يتم توفير بيئة إسلامية حقيقية للجميع.
وبالإضافة إلى ما سبق، منعت الحكومة الجديدة النساء من العودة إلى أماكن العمل، متذرعة بمخاوف أمنية، رغم أن المسؤولين وصفوا ذلك بأن هذا الإجراء مؤقت، ولكن في حقيقة الأمر، لم تتراجع عن القرار حتى الآن.
كما قام قادة طالبان مؤخراً بتعيين حكومة مؤلفة فقط من الرجال، فضلاً عن إلغائها وزارة شؤون المرأة. وتزداد المخاوف بأن تخسر النساء الأفغانيات حقوقهن في الاندماج في الحياة العامة من خلال التعليم والعمل. ومن الجدير بالذكر، أنه بحلول عام 2021، كان هناك أكثر من 150 مؤسسة للتعليم العالي، والتي قامت بتعليم ما يقرب من نصف مليون طالب، حوالي ثلثهم من النساء.
واعتبر الكثيرون بأن هذه مؤشرات لارتداد الحركة إلى ممارساتها السابقة أثناء سيطرتها خلال البلاد خلال التسعينيات، إذ لم يكن يسمح للمرأة بالخروج للأماكن العامة، إلا إذا كانت برفقة محرم رجل، في حين تتعرض للضرب بسبب عصيانها القواعد المفروضة عليها. كما تم إبعادها عن المدرسة تماماً خلال هذه الفترة.
وجاءت هذه الممارسات السلبية على الرغم من وعود المسؤولين من حركة طالبان، عند توليهم الحكم، بذل قصارى جهدهم بأن حكمهم هذه المرة سيكون أفضل للنساء، اللائي سيسمح لهن بالدراسة والعمل وحتى المشاركة في الحكومة.
تحديات الحكومة الأفغانية:
تتمثل أبرز التحديات التي تواجه حكومة طالبان الجديدة في التالي:
1- تهديدات داعش خراسان: أعلنت الحركة تدميرها خلية تابعة لتنظيم داعش في شمال كابول يوم 4 أكتوبر، فقد أشارت الحركة إلى قيام وحدة خاصة منها بقتل جميع عناصر التنظيم. وتأتي تلك الخطوة خاصة بعد إعلان التنظيم مسؤوليته عن هجمات وقعت على أهداف تابعة لحركة طالبان، سواء في منطقة ننجرهار أو منطقة بروان.
وعلى سبيل المثال، شهدت ولاية كونر شرق البلاد مقتل 3 من مسلحي الحركة في نهاية سبتمبر، بالإضافة إلى مقتل 4 من مقاتلي حركة طالبان وإصابة خمسة آخرين، نتيجة هجوم لتنظيم داعش في مدينة شاريكار عاصمة ولاية بروان في بداية شهر أكتوبر. وانطلاقاً مما سبق، يُشكل هذا التنظيم عائقاً أمام الحركة لإثبات قدرتها على الحفاظ على أمن واستقرار الدولة ضد التنظيمات الإرهابية.
ولكن على الجانب الآخر، فإن طالبان قد تسعى لتوظيف محاربتها للتنظيم باعتبارها مجالاً للتعاون مع الدول الغربية التي تبدي مخاوف من التنظيم المتطرف، خاصة لجهة محاولته تجنيد متطرفين في أوروبا عبر الفضاء السيبراني، ودفعهم لتنظيم عمليات إرهابية.
2- حجب الاعتراف الدولي: يتردد المجتمع الدولي بشأن الاعتراف بحكومة طالبان. فقد أوضح الاتحاد الأوروبي أن السبيل الوحيد لحصول أفغانستان على مساعدات التنمية الدولية، واستئناف العلاقات مع الحركة تتوقف على مدى التزامها بالشروط، والتي يأتي من ضمنها احترام حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من عدم اعتراف الصين وروسيا بشرعية الحكومة، فإنهما تتخذان موقفاً معتدلاً مقارنة بالدول الغربية، فقد دعت الصين لرفع العقوبات الاقتصادية عن أفغانستان وإتاحة الحكومة الجديدة للوصول إلى احتياطيات النقد الأجنبي المجمدة بمليارات الدولارات. وفي هذا السياق، صرّح وزير الخارجية الصيني بأنه يتعين على المؤسسات المالية متعددة الأطراف، بما في ذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إتاحة الإقراض للبلاد، للتخفيف من معاناة الشعب الأفغاني ورفع العقوبات أحادية الجانب.
كما اتفق الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بيج على تبادل المعلومات الاستخباراتية وإجراء محادثات منتظمة بشأن أفغانستان في جهد مشترك لدعم الاستقرار، لذلك يسعى الجانبان إلى عقد محادثات منتظمة مع حركة طالبان، وذلك من خلال زيارة كابول للتباحث مع قادة الحركة.
كما تجرى الحركة محادثات مع باكستان وقطر للعمل من خلال القنوات الدبلوماسية من أجل الحصول على اعتراف دولي. ويُعد هذا الاعتراف أمراً بالغ الأهمية بالنسبة للحكومة لأنها تسعى إلى الحصول على مساعدات التنمية الدولية، فضلاً عن الإفراج عن احتياطاتها النقدية المجمدة، والتي تٌقدر بقيمة 9.5 مليار دولار، من أجل دعم اقتصاد البلاد المنهك. وفي هذا الصدد، أوضحت الحركة أن الإيرادات الحالية للبلاد من الجمارك كافية فقط لدفع رواتب موظفي الحكومة.
3- تنامي الأزمة الاقتصادية: أوقفت الدول المانحة، بما في ذلك الولايات المتحدة، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التمويل لأفغانستان، حيث تمثل المساعدات الخارجية أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي. كما يشهد الأفغان بالفعل زيادات مقلقة في الأسعار، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة تتجاوز 50 % منذ استيلاء حركة طالبان على السلطة في أغسطس، مع احتمال حدوث نقص في السلع خلال الأشهر المقبلة.
وما يزيد الأمر حدة احتمالية حدوث موجة جفاف شديدة من المتوقع أن تحد من المعروض من المحاصيل الحيوية، مثل القمح. وفي هذا الصدد، أوضح برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن 14 مليون أفغاني، أو ثلث السكان، يعانون بالفعل الجوع. ومن المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان ما بين 10% و20% في العامين المقبلين، وذلك طبقاً لتقديرات فيتش سوليونز.
4- انقسامات حركة طالبان: بدأت التناقضات في الظهور بين الأجيال المختلفة لحركة طالبان. فقد أصبح الجيل الجديد يشكّل جزءاً كبيراً من صفوف حركة طالبان، في بلد يبلغ متوسط العمر فيه 18 عاماً. ويُعد هذا الجيل أصغر من أن يتذكر متى حكم الإسلاميون لأول مرة في التسعينيات، حاملين رؤى مثالية لما يريدون أن تبدو عليه الإمارة الإسلامية الجديدة في أفغانستان. فقد أشار أحد المقاتلين الشباب بالحركة إلى رغبته في إقامة نظام إسلامي خالص، رافضاً وجود حلول وسط مع أعداء الحركة.
وغالباً ما يعارض مقاتلي الشباب بالحركة المبادرات، التي قدّمها قادة طالبان الأكبر سناً الذين تعهدوا بنظام أكثر اعتدالاً من خلال العفو عن المعارضين السابقين، بالإضافة إلى منح حقوق محدودة للنساء، لذلك كثيراً ما تناقضت وعود قادة الحركة مع تصرفات المسلحين على الأرض.
وتجدر الإشارة إلى أن قادة حركة طالبان، الذين عادوا مؤخراً بعد عقود في المنفى في باكستان أو قطر، تواجه تحدياً فيما يتعلق بالقدرة على السيطرة على جيل الشباب، حيث ستكون محاولات إرضائهم أمراً حيوياً لضمان وحدة الحكومة الأفغانية واستمراريتها.
ويمكن الاستدلال على هذه التناقضات من خلال تصريحات القائم بأعمال وزير الدفاع في حركة طالبان الملا محمد يعقوب، الذي أوضح بأن بعض مقاتليها قد قاموا بتنفيذ عمليات قتل انتقامية على الرغم من إعلان الحركة عفواً عاماً عن الجميع بعد سيطرتها على كابول. وأشار يعقوب إلى أن هذه الحوادث تمثل تصرفات شخصية، مشيراً إلى أنه لا يحق لأي من مقاتلي الحركة انتهاك العفو. وجاءت تلك التصريحات عقب ورود تقارير أن طالبان أعدمت مدنيين وجنوداً بعد استسلامهم.
5- هجرة العقول: تواجه حكومة طالبان الجديدة هجرة للعقول، فوفقاً لبعض التقديرات، فإن أكثر من نصف أساتذة البلاد تركوا وظائفهم. فقد ذكر أحد أعضاء مجلس إدارة جامعة كابول أن الجامعة فقدت ربع أعضاء هيئة التدريس فيها، مضيفاً أنه في بعض الأقسام، مثل اللغة الإسبانية والفرنسية، فلم يعد هناك محاضرون. ولا تقتصر هجرة رأس المال على جامعة كابول. ففي جامعة هيرات، غرب أفغانستان، بقي ستة فقط من أصل 15 أستاذاً في كلية الصحافة.
وفي الختام، يمكن القول إنه بات من المؤكد أن الحركة تواجه معضلة في غاية التعقيد، والتي تتلخص في التأرجح ما بين تبنيها البرجماتية للحصول على اعتراف المجتمع الدولي، أو التشبث بسياساتها المتشددة، والتي تعني فقدان الشرعية الدولية، ومن ثم صعوبة مواجهة التحديات الجسيمة التي تواجهها الحكومة الجديدة. لذلك، لايزال المجتمع الدولي يترقب بدقة وبحذر سلوكيات الحكومة الجديدة، لتحديد مستقبل علاقتها معها.