إعداد: وفاء ريحان
تزايدت مخاطر العنف والتطرف بكافة أنواعه بشكل كبير في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، ومنها عنف التنظيمات الإرهابية، وما ترتب على ذلك من زيادة في أعداد القتلى والضحايا, بما يجعل التحدي الرئيسي أمام الحكومات الأفريقية هو ذلك المتعلق بالقدرة على توفير الأمن والنمو الشامل, وزيادة مشاركة المواطنين في العملية السياسية بهدف القضاء على حالة عدم الاستقرار التي تخلق مناخاً مواتياً للعنف والإرهاب.
في هذا الإطار, صدر عن "معهد الدراسات الأمنية" ISS الجنوب أفريقي، دراسة أعدها "جاكي سيليرز" Jakkie Cilliers - المدير التنفيذي للمعهد, تحت عنوان: "خريطة الصراع والعنف والتطرف في أفريقيا", تناول فيها اتجاهات الصراع المسلح والعنف السياسي في القارة الأفريقية, ومقارنته بباقي مناطق العالم, وطبيعة مساهمة تطرف التنظيمات الإسلامية في العنف بأفريقيا، مع توضيح تكلفة الوفيات في البلدان الأفريقية المتضررة.
اتجاهات الصراعات المسلحة عالمياً وفي أفريقيا
يبدأ الباحث باستعراض اتجاهات الصراع المسلح في العالم وأفريقيا, اعتماداً على الإحصاءات من قواعد البيانات الخاصة بالصراعات المسلحة. ويشير إلى أهمية الأخذ في الاعتبار حجم السكان عند قياس مستويات الصراع المُسلح، سواء في بلد بعينه أو على مستوى العالم, فوجود عالم أكثر ازدحاماً يعني أن به كثير من الاضطرابات، خاصةً في المناطق التى يزداد بها عدد الشباب الذين يعانون البطالة.
وفي ضوء ذلك، تشير الدراسة إلى انخفاض عدد الوفيات الناتجة عن الصراعات المسلحة على مستوى العالم في العقود الماضية, ويعود هذا الانخفاض إلى تقسيم العالم إلى دول مستقرة نسبياً بحدود معترف بها, وانخفاض عدد النزاعات المسلحة بين هذه الدول. كما أن معظم الصراعات المسلحة في السنوات الأخيرة باتت تحدث داخل الدولة وليس بين الدول، ما يقلل من عدد القتلى, على اعتبار أن الصراعات عندما تنشب بين الدول تكون أكثر فتكاً وتدميراً.
لذا يؤكد الكاتب أن التكلفة العالمية للوفيات على إثر الصراعات المسلحة تتناقص ببطء عند تناول اتجاهات هذه الصراعات خلال فترات زمنية طويلة، أخذاً في الحسبان حجم السكان.
وفيما يتعلق بأفريقيا, توصلت الدراسة إلى أن تكلفة الصراع المسلح على المستوى الأفريقي أعلى بكثير من المتوسط العالمي؛ فحتى عام 2014 أصبحت قارة أفريقيا تساهم بحوالي 16% من حجم السكان في العالم، وبها 52% من الصراعات المسلحة.
وبالإضافة إلى كون أفريقيا من أكثر مناطق العالم التي تشهد صراعات مسلحة، وذلك قياساً بحجم السكان, فهي أيضاً من أكثر القارات التي تشهد صراعات مسلحة في مستوى الفاعلين من غير الدول, فمستوى هذه الصراعات والوفيات المرتبطة بها أعلى في أفريقيا من أي منطقة أخرى بالعالم.
العلاقة بين أحداث العنف والضحايا المرتبطة بها
اعتبر الكاتب أن الفترة بين عامي 2005 و2010 كانت مستقرة نسبياً فيما يتعلق بعدد الصراعات والوفيات المرتبطة بها, بيد أنه مع ازدياد الاضطرابات الاجتماعية في أفريقيا منذ نهاية عام 2010, تزايدت معها الوفيات اليومية الناجمة عن الصراعات.
وتستمر الزيادة في أحداث العنف بشكل عام في عدد من البلدان الأفريقية, بما فيها دول الثورات العربية مثل مصر وليبيا, فضلاً عن الدول التي يوجد بها أنشطة للمتمردين مثل أفريقيا الوسطى والسودان وجنوب السودان, أو بسبب الإرهاب في نيجيريا والصومال, وأعمال الشغب مثل جنوب أفريقيا.
وتشير الدراسة إلى أن العلاقة بين زيادة مستويات الوفيات وأحداث العنف هي علاقة معقدة تختلف حسب البلد والإقليم, بمعنى أن دولة مثل جنوب أفريقيا رغم تفاقم حدة الصراعات السياسية بها، إلا أنه لم ينجم عنها زيادة مُماثلة في حالات الوفاة, ولكن الزيادة في الوفيات تحدث في بلدان مثل نيجيريا، خاصةً مع أنشطة "بوكو حرام"، أو الصومال بسبب "حركة الشباب"، والتي ليس لها علاقة بالأحداث السياسية العنيفة.
أما عن حوادث الشغب والاحتجاجات, ورغم أنها أدت إلى عنف ضد المدنيين، فإن معدل الوفيات الناتج عنها منخفض كثيراً, ويحدث العدد الأكبر من أعمال الشغب والاحتجاجات بأفريقيا منذ عام 2014 في جنوب أفريقيا ونيجيريا وليبيا وكينيا.
الاختلالات التي تدفع لعدم الاستقرار
يشير الباحث إلى استمرار الصراعات المسلحة العنيفة في الدول الفقيرة التي تعانى ضعف الحوكمة، وارتفاع مستويات البطالة. ويضيف أن تفسيرات عدم الاستقرار تختلف من دولة إلى أخرى, لكن إحصائياً فإن أهم مؤشر على اتجاهات الصراع المستقبلي هو صراع الماضي, مع التأكيد على أن تجاوز الصراعات هو أمر صعب للغاية في دول شهدت صراعاً داخلياً واسع النطاق كما الحال مع السودان وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى, فهذه الدول تحتاج إلى جهد كبير وكذلك مساعدة المجتمع الدولي. وهذا لا ينفي أن بعض الدول التي لديها تاريخ مع الصراعات حققت تقدماً مثل إثيوبيا ورواندا وأنجولا, بيد أن الاستقرار الذي تنعم به لايزال هشاً ومُحاط بفرص مستمرة للارتداد.
وثمة نوعان من الاختلالات الهيكلية عند تفسير المستويات المرتفعة من العنف في أفريقيا، وهما ضعف الحوكمة, والمستويات المنخفضة من المشاركة السياسية والاقتصادية.
ويتضح ضعف الحوكمة في وسط وشرق وغرب أفريقيا مقارنة بأفريقيا جنوب الصحراء وشمال القارة, وهذا متوقع بالنظر إلى الارتفاع النسبي للدخل في شمال وجنوب أفريقيا مقارنةً بباقي المناطق. ويتضح الافتقار للقدرة على الحكم أكثر في الدول الهشة المتأثرة بالصراع مثل تشاد والسودان ونيجيريا وأفريقيا الوسطى.
وفيما يتعلق بالإدماج السياسي والاقتصادي للمواطنين، فيعد مستوى الديمقراطية في أفريقيا جنوب الصحراء مرتفعاً مقارنة بشمال أفريقيا التي شهدت مؤخراً تقدماً نحو الديمقراطية بفعل الثورات العربية.
ويرى الكاتب أن التناقض بين المستويات المرتفعة نسبياً من التنمية البشرية من جهة, والمستويات المنخفضة جداً من المساءلة والمشاركة السياسية من جهة أخرى, يُعد مبرراً لتفسير أحداث الثورات وما ترتب عليها من نتائج غير متوقعة.
ويُلاحظ تأثير عمليات الإدماج السياسي والاقتصادي المنخفضة بشكل أكبر في الدول العربية الإسلامية في شمال أفريقيا مقارنةً بباقي أرجاء القارة, ما يتيح للتنظيمات الإسلامية أن تحل محل الدولة في تقديم الخدمات والسلع، بما يفتح المجال أمام صعود الإسلام الراديكالي مع أجندات سياسية خاصة به.
انتشار التطرف الإسلامي العنيف
يذكر الباحث أن وضع تعريف للإرهاب كان دائماً أمراً مثيراً للجدل في أفريقيا, وذلك لسببين أولهما أنه في عدد من البلدان التي تمتد من الجزائر إلى جنوب أفريقيا, فإن الجماعات التي تُصنف على أنها إرهابية بواسطة الحكومات الغربية كانت بالأساس حركات التحرر الوطني التي تحولت فيما بعد إلى حكومات.
وثاني الأسباب أنه في كثير من الأحيان يصعب التمييز بين أعمال التنظيمات من غير الدول مثل "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا"، والتنظيمات الإرهابية المعروفة مثل "حركة الشباب". ولذلك، فإن عملية تصنيف الحوادث الإرهابية هو أمر محفوف بالتحديات السياسية والعملية.
وفي سياق التطرق إلى التطرف في أفريقيا, تستعين الدراسة بما كتبه أحد الباحثين عن العلاقة بين الحرمان النسبي والتطرف في العالم العربي بما في ذلك شمال أفريقيا, حيث يشير إلى دور العولمة في تعظيم الشعور بالإحباط لدى قطاعات واسعة من الشباب المسلم الذي يعاني البطالة, فضلاً عن تأثرهم بالاستقطاب المتنامي بين التقاليد الدينية والحداثة الغربية في ضوء ما يعانيه العالم الإسلامى من اضمحلال اجتماعي واقتصادي, واتساع الفجوة بين التطلعات السياسية والحقائق على أرض الواقع.
ويُضاف إلى ذلك الأحداث الرئيسية بالعالم التي دفعت إلى انتشار التطرف الإسلامي العنيف, وتمثلت في أحداث 11 سبتمبر 2001, والغزو الأمريكي للعراق عام 2003, وثورات الربيع العربي 2011 وما تبعها من تأثيرات ساهمت في إضعاف السيطرة الاستبدادية في البلدان التي حدثت بها, وكانت الحلقة الأكثر زعزعة للاستقرار هي الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا عام 2011؛ حيث انتشرت الأسلحة والمرتزقة والإمدادات عبر منطقة الساحل.
مُجمل القول فيما يتعلق بخريطة الصراعات والتطرف واتجاهاتها في القارة الأفريقية، تخلص الدراسة إلى أنه منذ عام 1989 تمثل مساهمة الإرهاب في أفريقيا نسبة ضئيلة من أنشطة الإرهاب عالمياً, ولكن تغير هذا الوضع منذ عام 2011 مع تأثير الأحداث في نيجيريا والقتل الذي مارسته جماعة "بوكو حرام", ما زاد أعداد القتلى من الحوادث الإرهابية بالقارة؛ ففي البلدان الأكثر تضرراً من التطرف الإسلامي، يلاحظ أن حوالي رُبع عدد القتلى إنما يعود إلى أعمال تلك المنظمات الإرهابية, بيد أن الأنواع الأخرى من العنف كانت مسؤولة عن أعداد أكثر من الضحايا مقارنةً بالتنظيمات الإرهابية.
ولا ينتقص هذا الاستنتاج من التهديد الذى يمثله العنف الذي تمارسة التنظميات المتطرفة, بما يستتبعه من ضرورة وجود آليات لمكافحة هذا التطرف، خاصةً في البلدان المتأثرة به مثل نيجيريا والصومال والجزائر وتونس ومصر وليبيا, وتحديداً مع الانتشار الكبير للتنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها "القاعدة" و"داعش" في أفريقيا, وارتباط عدد من الجماعات الأخرى في القارة بها.
* عرض مُوجز لدراسة: "خريطة الصراع والعنف والتطرف في أفريقيا", والصادرة في شهر أكتوبر 2015 عن "معهد الدراسات الأمنية", وهو منظمة أفريقية تهدف إلى تحسين الأمن في القارة.
المصدر:
Jakkie Cilliers, Future (im)perfect: Mapping conflict, violence and extremism in Africa, (South africa: Institute for Security Studies, October 2015).