يستعد المغرب لإجراء انتخابات تشريعية وجماعية وجهوية، يوم 8 سبتمبر 2021، في ظرفية وطنية ودولية مليئة بالتحديات. وتستأثر هذه الاستحقاقات بأهمية كبيرة بالنظر إلى أنها ستفرز ملامح المشهد السياسي القادم بتوازناته داخل المؤسسة التشريعية، وتحالفاته الحكومية. وتدخل مجموعة من الأحزاب السياسية غمار التنافس في هذه الانتخابات، بتوجهات وبرامج مختلفة، تركز في مجملها على مواجهة الإشكالات الاجتماعية المتصلة بالحماية الاجتماعية، وتوفير الشغل، وتطوير التعليم وإصلاح الإدارة، والحد من المخاطر التي فرضتها جائحة كورونا في مختلف المجالات.
وتؤكد السلطات المغربية على أنها تسعى إلى توفير الشروط السليمة لمرور العملية الانتخابية في أجواء من النزاهة والمسؤولية وتكافؤ الفرص. وحرصاً على منع استغلال الدين في هذه الاستحقاقات من قِبل بعض التيارات والأحزاب السياسية، حرصت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على توجيه تعليمات لمصالحها الجهوية بمنع استغلال المساجد في الدعاية الانتخابية، مع حث الأئمة على الالتزام بمتطلبات الحياد في خطبهم ودروسهم.
ويراهن حزب العدالة والتنمية، وهو أحد أهم الأحزاب المغربية التي تندرج ضمن التيارات الإسلامية، على تحقيق نتائج تكفل له قيادة الحكومة مرة أخرى بعد تجربتين خلفتا الكثير من الانتقادات له. وتجري الانتخابات الحالية في ظروف داخلية برزت معها العديد من التحديات التي أثارت الشكوك حول المستقبل السياسي لهذا الحزب الإسلامي، وأخرى إقليمية تعرضت فيها الكثير من التيارات الإسلامية بالمنطقة لأزمات وتراجعات في مصر والجزائر وتونس.
تحديات داخلية:
قام حزب العدالة والتنمية في المغرب بوضع مجموعة من قادته على رأس اللوائح الانتخابية، سواء تعلق الأمر بوزراء أو رؤساء مجالس جهوية وعمداء مدن، كما تمكن من تغطية كل الدوائر الانتخابية بنسبة بلغت 100% ضمن ترشيحاته، وأطلق حملته الانتخابية بتوقيع عدد من مرشحيه على ميثاق، يتعهدون بموجبه على حضور الجلسات والاجتماعات البرلمانية بانتظام، وعلى التصريح بممتلكاتهم والامتناع عن اقتراف سلوكيات تتعارض مع القوانين.
ويخوض حزب العدالة والتنمية التجربة الانتخابية الحالية على إيقاع مجموعة من الأحداث والمؤشرات التي قد تؤثر بالسلب على حصيلته الانتخابية. فقد تزايدت الانتقادات الموجهة للحزب الإسلامي الذي قاد الحكومة في المغرب على امتداد التجربتين الأخيرتين (2011 - 2016، و2016 - 2021)، فالحزب يجر خلفة بذلك تجربة حكومية تحيل إلى مفارقة كبيرة بين شعارات كبرى أطلقها غداة توليه السلطة عام 2011، بإمكانيات دستورية تتيح هامشاً واسعاً للتحرك من جهة، وحصيلة لم تكن في مستوى التحديات والتطلعات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى.
وخلال هاتين التجربتين، تعرض حزب العدالة والتنمية للنقد، جرّاء عدم الوفاء ببرنامجه ووعوده التي أطلقها قادته خلال الحملات الانتخابية، سواء فيما يتعلق بالتأكيد على السعي لتعزيز الحوكمة ومواصلة الإصلاحات الهيكلية المتصلة بها، أو تجاوز عدد من المشكلات الاجتماعية المتصلة بالفقر والبطالة في أوساط خريجي الجامعات، أو فيما يتعلق بمكافحة الفساد، والحد من المديونية.
ولم يتوقف عدد من قادة حزب العدالة والتنمية، وهو الذي يقود العمل الحكومي، عن ترديد خطابات "معارضة" للتنصل من المسؤولية المرتبطة بالفشل الحاصل على مستوى تدبير عدد من القضايا والملفات، والتذرع بوجود "قوى مقاومة للإصلاح" وأطراف لم يسمّوها، اتهموها بعرقلة أدائهم.
وعلى مستوى إدارة شؤونه الداخلية، تعرض حزب العدالة والتنمية لمجموعة من التصدعات في الآونة الأخيرة، بسبب مغادرة عدد من الأعضاء وتقديم ترشيحاتهم تحت "لافتة" أحزاب أخرى. وتزامن ذلك مع تراجع ملحوظ للحزب الإسلامي في الانتخابات المهنية التي شهدها المغرب في الآونة الأخيرة، بعدما فقد مجمل المقاعد التي تحصل عليها عام 2015، حيث حصل على 49 مقعداً فقط من مجموع 2230 مقعداً في مختلف الغرف المهنية الفلاحية والتجارية والخدماتية، والصناعية بشقيها العصرية والتقليدية والخدماتية، وتلك المتعلقة بالصيد البحري، فاقداً بذلك ما يناهز 147 مقعداً مقارنة مع التجربة السابقة، وهو ما يعكس تراجع الثقة في أداء الحزب الحاكم، وهذا مؤشر قد يتكرر خلال الانتخابات التشريعية في سبتمبر الجاري.
وقبيل تنظيم الانتخابات الحالية ببضعة أشهر، قامت السلطات المغربية بتغيير طريقة حساب "القاسم الانتخابي" الذي توزّع من خلاله المقاعد البرلمانية، بعد عملية الاقتراع، وأصبح يقضي بتوزيع المقاعد الانتخابية على أساس عدد الناخبين المسجلين في اللوائح الانتخابية، بدلاً من الاعتماد على الأصوات الصحيحة فقط، كما كان يتم في الماضي.
وقد اعتبر مؤيدو هذه الآلية أنها تتيح حظوظاً وافرة أمام عدد من الأحزاب الصغيرة والمتوسطة للظفر بمقاعد في عدد من الدوائر الانتخابية، بشكل يسمح بتعزيز التمثيلية الحزبية ويدعم العملية الديمقراطية في المغرب. فيما واجه عدد من قادة حزب العدالة والتنمية هذا المقترح بالرفض، مشككين في مشروعيته، ومعتبرين أنه يستهدف تقزيم حضور الحزب الإسلامي في الحياة السياسية، والحيلولة دون فوزه بولاية تشريعية أخرى. كما حذر البعض من أن الأمر سيكلف حزب العدالة والتنمية فقدان نحو 30 مقعداً في الانتخابات المقبلة. بينما ذهبت بعض التحليلات إلى أن حرص قادة حزب العدالة والتنمية على بقاء النظام الانتخابي على حاله، تتحكم فيه خلفية الاستفادة من العزوف الانتخابي الذي مكّنه من حصد عدد كبير من المقاعد خلال التجربتين السابقتين عامي 2011 و2016.
تأثيرات خارجية:
كان حزب العدالة والتنمية في المغرب ضمن أكثر المستفيدين مما يُسمى بـ "الحراك العربي"، كما هو الشأن في مرحلة ما بالنسبة لعدد من التيارات الإسلامية الأخرى في دول مثل مصر وتونس وليبيا، حيث تمكن الحزب من تحقيق نتائج جيدة خلال الانتخابات التشريعية التي شهدها المغرب في أعقاب إصدار دستور 2011 الذي حمل مجموعة من المستجدات عززت صلاحيات رئيس الحكومة والسلطة التشريعية، ودعّمت الكثير من الحقوق والحريات الفردية والجماعية.
وهناك عدد من الأسباب التي جاءت بحزب العدالة والتنمية إلى الحكم في المغرب، وعلى رأسها رغبة المواطنين في تجريب مكون سياسي لم يسبق أن ولج إلى السلطة من قبل، علاوة على غياب منافسين أقوياء في الساحة المغربية آنذاك، ووجود حالة كبيرة من خيبة الأمل والإحباط داخل المجتمع المغربي، وطرح هذا الحزب الإسلامي عدداً من الشعارات الوردية بصدد مواجهة عدد من المعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
واستفاد حزب العدالة والتنمية من الدعاية التي تطرحها باقي التيارات الإسلامية في عدد من الدول الأخرى حول تعرضها للظلم والتهميش، كما أن ولوج بعضها إلى السلطة كان عاملاً محفزاً للقبول بقواعد اللعبة واقتحام المشهد السياسي والمؤسسات الدستورية. بل إن ذلك شكل عنصراً زاد من الثقة الزائدة لهذه التيارات في نفسها، ما أوقع بعضها في أخطاء، اُعتبرت مؤشراً على إمكانية انقلابها على الممارسة الديمقراطية التي وصلت بموجبها إلى السلطة.
وأتاح ولوج التيارات الإسلامية إلى السلطة والمؤسسات السياسية في عدد من الدول العربية، والاحتكاك بالسياسات العمومية بشكل مباشر بعد سنوات من إطلاق الشعارات الرّنانة من موقع المعارضة، فرصة للمواطن في هذه الدول للوقوف على حصيلة لا تختلف كثيراً عن باقي الأحزاب، بل تقل عنها أحياناً. فقد تبين أن هذه التيارات الإسلامية لا تحمل حلولاً سحرية ومبسطة كما تدّعي للمشكلات المعقدة التي تعيشها دول المنطقة.
وأمام التراجعات التي بدأت تطبع أداء هذه التيارات في مصر وتونس والجزائر، يُثار تساؤل حول تداعيات هذه المتغيرات على حضور حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية في المشهد السياسي للمغرب. ففي الحالة المصرية تورط الإخوان في عدد من الأخطاء سرّعت بسقوطهم عام 2013. أما الإسلاميون في الجزائر، فلم يتمكنوا من الاستئثار بالمرتبة الأولى، وبالتالي فشلوا في تشكيل الحكومة في الانتخابات التشريعية التي شهدتها البلاد في شهر يونيو الماضي. وفي تونس، وأمام تفاقم الأزمات السياسية الاجتماعية والاقتصادية والصحية بالبلاد، قام الرئيس قيس سعيد، في 25 يوليو الماضي، بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، كما أقال رئيس الحكومة هشام المشيشي، قبل أن يوجه اتهامات لحركة النهضة الإخوانية بالتآمر مع دول أجنبية "لضرب مصالح الدولة والسعي لإسقاطها".
احتمالات مفتوحة:
على الرغم من تلك التحديات، يرى البعض أن حزب العدالة والتنمية قد يخلق المفاجأة من جديد في الانتخابات المغربية هذا الأسبوع؛ بالنظر إلى عدم وجود منافسة قوية من أحزاب تفتقر إلى الممارسة الديمقراطية الداخلية وإلى العمق المجتمعي، حيث تراجعت شعبية الكثير من الأحزاب الوطنية التاريخية الوازنة، مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تحت ضغط الممارسة الحكومية وعدم القدرة على تدبير شؤونها وخلافاتها الداخلية بشكل ديمقراطي، وهو ما استغله حزب العدالة والتنمية بشكل كبير في الانتخابات السابقة.
بيد أن عدداً آخر من الأحزاب السياسية في المغرب أصبح في الآونة الأخيرة يشكل منافساً قوياً للعدالة والتنمية، كما هو الشأن بالنسبة لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يقوده رجل الأعمال ووزير الفلاحة المغربي الحالي عزيز أخنوش، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي استطاع أن ينافس حزب العدالة والتنمية بقوة على مستوى حصيلة الانتخابات الجماعية والتشريعية السابقة بقيادة جديدة لعبداللطيف وهبي، وحزب الاستقلال الذي بذل مجهودات كبيرة خلال السنوات الأخيرة على مستوى رص صفوفه وتدبير مشاكله الداخلية بقيادة الوزير السابق نزار بركة. ويؤكد مراقبون أن التصويت العقابي ضد حزب العدالة والتنمية سيكون حاضراً، وقد يقلب كل التوقعات والاحتمالات التي يراهن عليها قادة الحزب.
ويشكل ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات الحالية أحد العوامل التي من شأنها قلب الموازين، وخلط الحسابات، خاصة أن بعض الأحزاب السياسية ظلت تستفيد من ضعف نسبة المشاركة، ما أتاح لبعض المرشحين استعمال وسائل غير مشروعة كالأموال، للتأثير في إرادة الناخبين.
كما تذهب الكثير من التحليلات إلى أن حزب العدالة والتنمية سيشهد تراجعاً ملحوظاً إلى جانب عدد من الأحزاب الكبرى، داخل المدن المغربية الكبرى، مثل الدار البيضاء ومراكش والرباط وفاس ومكناس وطنجة، المتسمة بكثافتها السكانية؛ بالنظر إلى تأثيرات القاسم الانتخابي في هذا الصدد.
ختاماً، إن المعطيات السابق ذكرها تمثل مؤشرات موضوعية يمكن أن نتوقع على ضوئها بعض ملامح النتائج المتعلقة بحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المغربية هذا الأسبوع، حيث إن محك العمل الحكومي قلل بشكل كبير من بريق الشعارات التي رفعها الحزب خلال الاستحقاقات السابقة. فبعد سنوات من التموقع في صفوف المعارضة، تحول حزب العدالة والتنمية إلى العمل الحكومي، الذي مثل امتحاناً حقيقياً لقياس مدى جاهزيته وتلاؤم مرجعياته مع التحديات التي باتت تتطلب إرساء سياسات عمومية مواكبة لها. كما أن المتغيرات الإقليمية المتسمة بتراجع التيارات الإسلامية تحت وقع الأزمات المتتالية في بعض دول المنطقة، والتي تتطلب سياسات عقلانية واستراتيجية، كلها عوامل ستؤثر على شعبية حزب العدالة والتنمية في المغرب.