على الرغم من قرار الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والذي أعلنه في نهاية أبريل 2021، بانسحاب القوات الأمريكية بشكل كامل ونهائي من أفغانستان قبل 11 سبتمبر المقبل، فقد فرضت تطورات أحداث الملف الأفغاني في الأيام الأخيرة على إدارة بايدن، خاصة فريق الأمن القومي التعامل مع أزمة طارئة؛ تعتبر واحدة من الأزمات الرئيسية في السياسة الخارجية الأمريكية خلال السنة الأولى لبايدن، وهي تتعلق بالتداعيات والارتدادات المرتبطة بسقوط العاصمة كابول وسيطرة حركة طالبان عليها. فالأزمة المفاجئة، والتي جاءت في جزء منها نتيجة قرار بايدن وتباين موقف مؤسسات الإدارة الأمريكية تجاهه، فرضت على واشنطن التحرك على المستويين العسكري والسياسي لمحاولة تحجيم أية أضرار متوقعة على المدى القصير على المصالح الأمريكية.
أهداف استراتيجية:
مثلت أفغانستان كابوساً مستمراً للإدارات الأمريكية المتعاقبة (جورج بوش، وباراك أوباما، ودونالد ترامب، وجو بايدن)، لكن التطورات الأخيرة مثلت الجزء الأكثر تعقيداً في الأزمة الأفغانية، بالنظر إلى ضرورة تحقيق إدارة بايدن عدداً من الأهداف في ظل محددات وقيود ضاغطة. وتشمل هذه الأهداف ما يلي:
1- الانسحاب العسكري الأمريكي: تتمثل إحدى الأولويات العليا لإدارة بايدن في الانسحاب العسكري من أفغانستان. فالانسحاب الذي بدأ في السنة الأخيرة من إدارة ترامب بوتيرة متسارعة، جعل هذا الملف مفتوحاً أمام إدارة بايدن، التي تبنت توجهاً لافتاً بإصرار الرئيس على سحب كامل القوات، بعكس سلفه ترامب الذي قرر، تحت ضغط من المؤسسة العسكرية "البنتاجون"، الإبقاء على عدد محدود من القوات الأمريكية على الأراضي الأفغانية لا يتجاوز 2500 جندي لمساعدة نظيرتها الأفغانية في مهامها، وللتعامل مع احتمالات عودة التنظيمات الإرهابية في أفغانستان.
2- تأمين العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين: على الرغم من أن خطة الانسحاب العسكري الأمريكي كانت تسير بوتيرة عادية، لكن تطورات الأحداث في الأسبوع الأخير مع تقدم طالبان على الأرض، واقترابها من العاصمة كابول، فرضت على إدارة بايدن ومؤسساتها، خاصة مجلس الأمن القومي ووزارتي الدفاع والخارجية، العمل بشكل مكثف على إخلاء العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين وتأمين مبني السفارة في كابول، ووضع خطط طوارئ للتعامل مع أية تطورات مفاجئة. وهذا يفسر إرسال قوات أمريكية جديدة إلى أفغانستان قوامها 3000 جندي، تمت زيادتها إلى 5000، ثم 6000 جندي؛ وذلك للقيام بعمليات الإخلاء السريع، سواء إلى الأراضي الأمريكية أو دول الجوار. كما تم وضع القوات الأمريكية في الدول المجاورة على أهبة الاستعداد لزيادة عمليات الإخلاء، وتم وضع خطط الإخلاء وتنفيذها سريعاً.
3- إدارة الارتدادات اللاحقة: مع تسارع تطورات الأزمة الأفغانية، خاصة بعد سقوط كابول، فرضت عوامل جديدة نفسها على إدارة الأزمة، وارتبطت بالوضع الداخلي والدولي، بداية من كيفية تعامل الإدارة الأمريكية مع الانتقادات المتسارعة في الداخل لقرار الرئيس بايدن بالانسحاب الكامل من أفغانستان، وتحميله مسؤولية سقوط كابول في يد طالبان والفشل الذريع للقوات الأمريكية هناك، خاصة انتقادات الجمهوريين التي وصلت إلى حد تشبيه البعض لما جرى في أفغانستان بهزيمة الأمريكيين في فيتنام عام 1975، والتخوف من تأثير تلك الانتقادات على انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر 2022.
ويُضاف إلى ذلك، فجوة المصداقية التي بدأت تتآكل مع حلفاء واشنطن في الخارج، بعد ترسخ انطباع كبير لدى الحلفاء الإقليميين والدوليين بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة التي يمكن الاعتماد عليها، فضلاً عن أن قراراتها في التعامل مع الملف الأفغاني، خاصة قرار الانسحاب الكلي، فرض على الدول الأخرى أن تحذو حذوه، الأمر الذي جعل طالبان هي القوة الأكثر قدرة على التأثير في الأحداث على الأرض في ظل حالة عدم الكفاءة العسكرية للقوات الأفغانية.
تباينات داخلية:
ساهمت تباينات المواقف داخل مؤسسات الإدارة الأمريكية، خاصة قبل التطورات الأخيرة وتحديداً في الفترة من 12 إلى 16 أغسطس الجاري، بشكل رئيسي في تأزم الوضع داخل أفغانستان. فعلى الرغم من وجود موقف موحد بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع، تجاه قرار الانسحاب العسكري من أفغانستان، لكن لم يكن هناك توافق حول مسألة بقاء قوات أمريكية محدودة لمساعدة نظيرتها الأفغانية والتعامل مع احتمالات عودة التنظيمات الإرهابية. هذا بالإضافة إلى التقييمات غير الدقيقة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية حول الوضع على الأرض، الأمر الذي أدى إلى الانتقال من إدارة عملية الانسحاب العسكري والتحضير لما بعدها، إلى إدارة أزمة سقوط كابول في يد طالبان. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الجوانب التالية:
1- صوت الرئيس Voice of The president: في غرفة الطوارئ بالبيت الأبيض وخلال الاجتماعات التي عقدها فريق الأمن القومي (الرئيس، ومستشار الأمن القومي والمسؤولون الرئيسيون في فريقه، ووزير الدفاع والمسؤولون العسكريون، ووزير الخارجية والمسؤولون الرئيسيون في فريقه، وممثلو أجهزة الاستخبارات)، في الأيام الأخيرة قبل سقوط كابول، كان صوت الرئيس بايدن هو الأهم في مداولات الفريق. فالرئيس يريد انسحاباً عسكرياً كاملاً، ويدعمه في هذا التوجه فريق مجلس الأمن القومي، وفريق وزارة الخارجية. وعلى الرغم من أن الفريق العسكري كان معارضاً لقرار الانسحاب الكامل، ويضغط في اتجاه ضرورة إبقاء عدد محدود من القوات الأمريكية، لكنه لم يكن قادراً على إقناع الرئيس بايدن بهذا الموقف.
وعلى الرغم من أن العسكريين الأمريكيين كان من المفترض أن يكونوا هم الصوت المؤثر في القرارات المرتبطة بأفغانستان؛ نظراً للأبعاد العسكرية الاحترافية، لكن تأثيرهم كان محدوداً في المشاورات الداخلية، في ظل عدم وجود دعم لهم من قِبل فريقي مجلس الأمن القومي والخارجية.
2- دور أجهزة الاستخبارات: يقع عاتق وضع التقييمات الاستخباراتية حول الوضع في أفغانستان بشكل رئيسي على 3 مؤسسات استخباراتية أمريكية، وهي وكالة استخبارات الدفاع Defense Intelligence Agency التابعة للبنتاجون والتي تلعب الدور الأكبر والأهم في تقييم الوضع العسكري على الأرض، وبدرجة أقل وكالة الاستخبارات المركزية C.I.A والتي تركز على نشاط التنظيمات الإرهابية، فيما يقوم مكتب الاستخبارات الوطنية Office of the Director of National Intelligence بدرجة من التنسيق بينهم وبين البيت الأبيض ومؤسسات الاستخبارات الأخرى.
وتكشف تصريحات المسؤولين في البنتاجون عن إخفاق واضح في تقييم وكالة استخبارات الدفاع لقدرة حركة طالبان على التقدم عسكرياً على الأرض. فهذه التقييمات وعلى الرغم من أنها كانت صحيحة جزئياً في بعض جوانبها المرتبطة بتوقع سقوط العاصمة كابول في يد الحركة، فإنها افتقدت إلى الدقة بشكل كبير في تحديد توقيت السقوط. وبدا لافتاً أن هناك إرباكاً في المعلومات التي تضمنتها تلك التقييمات، ففي شهر أبريل 2021 كانت تقديرات أجهزة الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية تتوقع سقوط كابول خلال سنة إلى سنة ونصف، ولاحقاً في شهر يوليو الماضي عادت لتتوقع سقوطها خلال 6 أشهر. ومع تطور الأحداث في الأيام الأخيرة، عادت لتتوقع سقوط العاصمة الأفغانية خلال 3 شهور إلى عدة أسابيع، ليتفاجأ العالم بعد ذلك بسقوط كابول في يد طالبان في أقل من 3 أيام.
إدارة الأزمة:
تعاملت إدارة الرئيس بايدن وفريق الأمن القومي الأمريكي مع أزمة أفغانستان، على مرحلتين؛ الأولى منذ قرار بايدن في نهاية أبريل الماضي بالانسحاب العسكري الكامل من أفغانستان قبل حلول ذكرى 11 سبتمبر 2021. وخلال هذه الفترة كان التعامل الأمريكي مع الملف الأفغاني في إطار طبيعي، ويركز على ترتيبات الانسحاب وخطط التعامل مع ملف الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأمريكية، والعمل مع الكونجرس لتسريع إجراءات استقدام هؤلاء.
والمرحلة الثانية هي في الفترة من 12 أغسطس الجاري وحتى الآن، وتتعامل إدارة بايدن في هذه المرحلة باعتبار أن التطورات في أفغانستان تمثل أزمة طارئة تتعلق بمصالح أمريكية، وتم التعامل مع الأزمة في هذا الإطار عبر عدة مستويات، شملت ما يلي:
1- المستوى العسكري: ركزت واشنطن في هذا المستوى على إدارة وتنفيذ عمليات إجلاء عسكرية سريعة، تتضمن استكمال الانسحاب للقوات الأمريكية والتعجيل به، وتأمين عمليات إخلاء الدبلوماسيين والرعايا الأمريكيين في أفغانستان، والمتعاونين من الأفغان مع القوات الأمريكية. وتمت إدارة هذا المستوى من قِبل "البنتاجون" والقيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط "سنتيكوم" US Central Command USCENTCOM. وفي هذا السياق، تم التنسيق مع بعض الوحدات العسكرية في القوات المسلحة الأمريكية، لإرسال قوات لتنفيذ خطط الإخلاء، وإدارة القيادة المركزية عمليات التنسيق المرتبطة بعمليات الإخلاء.
2- المستوى السياسي: تعاملت الإدارة الأمريكية سياسياً مع أزمة سقوط كابول، وفقاً لثلاثة مستويات فرعية، هي:
أ- المستوى الأول: تضمن إدارة التواصل مع حركة طالبان عبر المبعوث الأمريكي في محادثات الدوحة، لإرسال رسائل محددة لقادة الحركة بعدم تنفيذ أية عمليات ضد السفارة الأمريكية أو ضد عسكريين ومدنيين أمريكيين، وعدم القيام بأية عمليات عسكرية في مطار العاصمة كابول.
ب- المستوى الثاني: تمثل في إدارة حملة علاقات عامة داخلية لمخاطبة الرأي العام الأمريكي، قادها ثلاثة من أعلى مسؤولي الإدارة (الرئيس بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان). وفي هذا الإطار، تولى الرئيس بايدن مخاطبة الرأي العام الأمريكي، في البداية عبر بيان صحفي صادر من البيت الأبيض باسم الرئيس يوم 14 أغسطس الجاري، وبعدها خرج بايدن في كلمة عامة إلى الشعب الأمريكي يوم 16 أغسطس الجاري. وفي البيان والكلمة، ركز الرئيس بايدن على رسائل محددة، أبرزها الدفاع عن قراره بالانسحاب من أفغانستان، وشرح وتقديم مبررات لهذا القرار.
بينما تولى كل من وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي مسؤولية الظهور في شبكات الأخبار التلفزيونية لشرح موقف الإدارة الأمريكية والدفاع عنه، خاصة فيما يتعلق بالتأكيد على أن لحظة سقوط كابول، والخروج الأمريكي من أفغانستان، لا يتشابهان مطلقاً مع ما حدث في فيتنام. ويبدو في ظل تركيز إدارة بايدن بشكل رئيسي على الرأي العام في الداخل الأمريكي، لم تقم بجهود واضحة على المستوى الدبلوماسي في التنسيق والتواصل مع الدول الحليفة، خاصة الأوروبية، خلال إدارة أزمة سقوط كابول؛ ربما نظراً لضغوط الأحداث والوقت، أو لأن الحلفاء كانوا يتعاملون أيضاً مع الموقف باعتباره أزمة طارئة.
ج- المستوى الثالث: يرتبط هذا المستوى أيضاً بالجبهة الداخلية، ويتعلق بشكل رئيسي بالكونجرس. فتطور الأحداث في أفغانستان الذي فاجأ إدارة بايدن، وضعها في موقف صعب مع الجمهوريين في الكونجرس، وحتى مع الديمقراطيين أنفسهم، الذين وجدوا أنفسهم في موقف حرج يتعلق بكيفية الدفاع عن سياسات الإدارة الحالية في ظل الوضع المتردي للانسحاب الأمريكي، والمشاهد المؤسفة من العاصمة كابول.
وبالتالي فإن مجمل الديمقراطيين، وبعضهم خاصة الجناح التقدمي الذي لم يكن مؤيداً لقرار الانسحاب الكامل، وكان يتبني موقف البنتاجون نفسه في ضرورة الإبقاء على عدد محدود من القوات الأمريكية في أفغانستان، وجدوا أنفسهم مضطرين للدفاع عن إدارة بايدن، خاصة في ظل الهجوم الحاد من الجمهوريين الذين يريدون الاستفادة من أية أخطاء للإدارة الحالية لتوظيفها مبكراً في معركة انتخابات التجديد النصفي للكونجرس. وفي هذا الإطار، كلف البيت الأبيض عدداً من مسؤولي الإدارة الأمريكية بتقديم إحاطة لأعضاء الكونجرس الرئيسيين خلال وجودهم خارج العاصمة واشنطن، ومن المقرر أن يعقدوا معهم لقاءات مكثفة في مبني الكونجرس بعد عودة الأعضاء من الإجازة.
الخلاصة، ساهم قرار الرئيس بايدن المتعلق بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وعدم الإبقاء على عدد محدود منها لدعم الجيش الأفغاني، ضمن عوامل وأسباب أخرى، في التعجيل بانتصارات حركة طالبان وسقوط العاصمة كابول. ووجدت الإدارة الأمريكية نفسها فجأة في خضم أزمة طارئة تتعلق بضرورة حماية المصالح الأمريكية في أفغانستان، وعدم تعرض السفارة هناك لسيناريو اقتحام طالبان مثلما حدث في أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران عام 1979؛ لتقوم واشنطن بتنفيذ خطط تأمين وإجلاء عاجل، وشن حملة علاقات عامة داخلية للدفاع عن قرار الرئيس بايدن ومبرراته. لكن نجاح بايدن وفريقه في إدارة تلك الأزمة لا يعني أن تداعياتها السلبية والصورة المخزية للانسحاب الأمريكي المتعجل من أفغانستان سوف تزول من التاريخ.