ما زالت أصداء التدابير التاريخية التى أقدم عليها الرئيس التونسى، وتعتبر ضرورية من أجل إنقاذ البلاد، وهى تفتح شهية الخبراء ومراكز البحوث والدراسات السياسية لقراءتها والتوصل إلى خلاصات، بشأن مخرجاتها على تونس وعلى الإقليم، وقد تلقت «الأهرام العربى» دراسة من مركز المستقبل للدراسات والبحوث المتقدمة بأبو ظبى، تناولت بالتحليل ما جرى من وقائع وخلفياتها وسيناريوهاتها فى الزمن الآتى.
تتوقف الدراسة عند الأسباب التى أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية، والتى دفعت بالرئيس سعيد إلى القيام بتدابيره بدورها ومن أهمها ما يلي:
أولا : احتدام أزمة الرئاسات الثلاث: فقد دخلت تونس منذ شهر يناير الماضي، فى أزمة سياسية ودستورية كبيرة، بعد رفض رئيس الدولة قيس سعيد التعديلات الوزارية، التى أجراها رئيس الحكومة هشام المشيشى، وإصراره على عدم إشراك بعض الشخصيات، التى تطالها اتهامات بالفساد المالى والإدارى فى الحكومة.
وفى المقابل تمسك رئيس الحكومة بموقفه، وأيده فى ذلك حركة النهضة وحزبا قلب تونس وائتلاف الكرامة، وتصاعدت أزمة الرئاسات الثلاث (الدولة – الحكومة – البرلمان) منذ ذلك الحين وحتى الوقت الراهن، بالإضافة إلى ما شهده البرلمان من خلافات وصراعات بين الكتل النيابية بداخله، فى ظل عجز رئيس البرلمان «الغنوشي» عن إدارة البرلمان بشكل تستقيم معه الحياة السياسية، ومساعدة الحكومة على تنفيذ مهامها فى إدارة شئون البلاد.
كما أخفقت كل المبادرات الوطنية التى طُرحت خلال الشهور الماضية، لنزع فتيل الأزمة السياسية بالبلاد، مما زادها تعقيداً وأثرت سلباً على حالة الاستقرار السياسي، بشكل دفع المواطنين للخروج فى هذه الاحتجاجات، والتعبير عن رفضهم لاستمرار هذه الأزمة دون حل.
ثانيا: تردى الأداء الحكومى يعد من ضمن الأسباب الرئيسية، التى أسهمت فى اندلاع الاحتجاجات الشعبية التى شهدتها البلاد يوم 25 يوليو الجاري، ضعف أداء حكومة المشيشي، وعدم قدرتها على حل المشكلات التى يعانيها المواطنون، خصوصا على المستويين الاقتصادى والصحي، فقد كابدت البلاد أزمة اقتصادية متفاقمة، بسبب غياب السياسات والحلول اللازمة لتحسين الأوضاع الاقتصادية، ومن ثم المعيشية للمواطنين، حيث ارتفعت معدلات البطالة والفقر فى ظل تراجع إيرادات الدولة فى العديد من القطاعات الاقتصادية المهمة، لاسيما السياحة، بعد أن تراجع النشاط السياحى فى تونس بنسبة 80% فى يوليو 2021 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وجاء ذلك كأحد تداعيات أزمة كورونا التى تسببت فى مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، خصوصا الفئات الفقيرة، والأكثر فقراً داخل المجتمع، ومع انشغال رئيس الحكومة بصراعاته السياسية مع رئيس الدولة وانشغال البرلمان بخلافاته بين كتله النيابية، تأثر الأداء الحكومى سلباً على المستوى الاقتصادي.
ومن المؤشرات الدالة على ذلك، تخفيض المؤسسات الاقتصادية الدولية للتصنيف الائتمانى للبلاد، والتحذير من إمكانية إعلان الدولة التونسية إفلاسها بسبب عدم القدرة على سداد الديون، وعدم قدرة الحكومة على تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى تحت إشراف صندوق النقد الدولي، الذى رفض منح البلاد قرضاً بقيمة 4 مليارات دولار خلال الفترة الأخيرة بسبب عدم التزام الحكومة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي، ما أسهم فى تعقيد الأزمة الاقتصادية بالبلاد.
وأسهم العجز الحكومى فى التعامل بكفاءة مع أزمة كورونا، التى شهدت تدهوراً بالغ الخطورة خلال الفترة القصيرة الماضية، فى توسيع دائرة الاستياء الشعبى، حيث ارتفع عدد المصابين إلى حوالى 569 ألف مصاب مع تزايد أعداد المصابين المسجلين بشكل يومي.
ولم تفلح السياسات والإجراءات الاحترازية والوقائية التى اتخذتها وزارة الصحة فى حكومة المشيشى فى الحد من انتشار الوباء، ودفعت القرارات غير المدروسة من قبل وزير الصحة فوزى المهدى بفتح المجال أمام المواطنين، ممن تجاوزوا 18 عاماً لتلقى لقاح كورونا فى ازدحام مراكز التلقيح، فى ظل عدم توافر اللقاحات بشكل يغطى هذه الأعداد، فقد حصل 8% فقط من السكان البالغ تعدادهم حوالى 12 مليون نسمة، على اللقاح.
يضاف إلى ما سبق تدهور القطاع الطبي، وتراجع مستوى الخدمات الطبية ونقص الأكسجين فى المستشفيات، الأمر الذى أسهم فى توجيه مزيد من الانتقادات لحكومة المشيشي، ودفع المواطنين للخروج فى هذه التظاهرات مطالبين بإسقاطها.
ثالثا: تمدد نفوذ حركة النهضة: جاءت الاحتجاجات لتعبر عن رفض المواطنين للمخططات التى تسعى قيادات حركة النهضة، الذراع السياسية للإخوان المسلمين، تنفيذها داخل البلاد، والمتمثلة فى فرض الهيمنة الإخوانية على مؤسسات الدولة كافة.
واتضح ذلك فى الدعوات التى أطلقتها حركة النهضة أخيرا، لتغيير حكومة التكنوقراط برئاسة المشيشي، وتشكيل حكومة سياسية جديدة، تضمن تمثيلاً مناسباً لقيادات حركة النهضة والأحزاب المتحالفة معها داخل البرلمان «قلب تونس – ائتلاف الكرامة».
وفى الوقت نفسه، رفضت الحركة تخفيف حدة خلافاتها وصراعاتها مع رئيس الدولة، بشكل أدى إلى تعقد الأزمة السياسية فى البلاد، وقد عبرت عمليات اقتحام مقرات حركة النهضة، وإحراق بعضها عن مدى الغضب الشعبى الكامن تجاه حركة النهضة، فى ظل تحميلها مسئولية تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية فى البلاد طوال السنوات، التى شاركت فيها الحركة فى الحكومات المتعاقبة.
ووفق الدارسة، ترجح المعطيات الراهنة بعض السيناريوهات الخاصة بمستقبل الأوضاع السياسية فى البلاد خلال الفترة المقبلة، ومن ذلك ما يلي:
أولا: نجاح الرئيس التونسى فى تحقيق الاستقرار، ويرجح هذا السيناريو نجاح قيس سعيد فى إعادة هيكلة النظام السياسى من دون معارضة من حركة النهضة، والتى قد تتجه للتكيف مع إجراءات سعيد تجنباً لملاقاة مصير الإخوان المصرية.
وفى هذا الإطار، فقد يتم اللجوء إلى أحد الحلول الآتية، أولها اختيار شخصية سياسية غير حزبية وتكليفها بتشكيل حكومة جديدة لإدارة شئون البلاد التى تعانى أزمات اقتصادية وصحية خانقة، وثانيها الدعوة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة تفرز قوى سياسية جديدة، وقد يسبق ذلك صياغة دستور جديد للبلاد يتضمن تغيير النظام السياسي، وفقاً لرؤية رئيس الدولة قيس سعيد، والذى يؤيده فيها العديد من الأحزاب السياسية، لاسيما الليبرالية والعلمانية، إلا أنه من المستبعد أن توافق عليه حركة النهضة، وسيمثل ذلك التحدى الرئيسى أمام تحقق هذا السيناريو.
ثانيا: انزلاق البلاد فى حالة الفوضى: يستند هذا السيناريو إلى احتمال اتجاه قيادات حركة النهضة بالرد على اقتحام بعض مقراتهم وإحراقها فى محافظات توزر وسيدى بوزيد والقيروان، وسوسة، حيث هددت بعض قيادات الحركة رئيس الدولة قيس سعيد، واتهامه بالتخطيط لهذه التظاهرات بالتعاون مع أنصاره .
وترى الدراسة أن ملامح المشهد السياسى الحالي، توحى بتمكن الرئيس التونسى قيس سعيد فى المضى قدماً فى تحقيق الإصلاحات السياسية اللازمة للخروج من حالة الجمود السياسي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
*لينك المقال في صحيفة الأهرام: