واجهت إثيوبيا على مدار الشهور التسعة الماضية حرباً أهلية بين الحكومة الفيدرالية وجبهة التيجراي، غير أن الصراع شهد مؤخراً تطورين مهمين أولهما: امتداد الحرب إلى خارج حدود الإقليم، وتحديداً باتجاه أمهرة وعفر. أما ثانيهما، فيتمثل في رفض أديس أبابا فتح ممرات لوصول المساعدات الإنسانية لإقليم تيجراي عبر السودان، على الرغم من إعلان الأمم المتحدة أن 400 ألف يعيشون في ظروف المجاعة في تيجراي، وإن 90٪ من السكان يحتاجون إلى مساعدات غذائية طارئة.
مؤشرات تصاعد الصراع
تتجه الأزمة الإثيوبية نحو مزيد من التصعيد، وهو ما يتضح من المؤشرات التالية:
1- سعي "التيجراي" للسيطرة على محاور استراتيجية: تقدمت قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي نحو إقليم عفر، وذلك في محاولة لقطع الطريق والسكك الحديدية التي تربط بين إديس أبابا وجيبوتي، والتي من خلالها تحصل إثيوبيا على حوالي 95٪ من التجارة غير الساحلية.
كما أنها تمكنت كذلك من التوغل في إقليم أمهرة، ونجحت في 6 أغسطس في الاستيلاء على بلدة لاليبيلا التاريخية، وهو ما يمكنها من الاقتراب بصورة أكبر من العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، ورفضت الجبهة الدعوات للانسحاب من منطقتي عفر وأمهرة ما لم تلغ الحكومة الإثيوبية القيود المفروضة على إيصال المساعدات الإنسانية.
2- إعلان "التيجراي" نيتها السيطرة على العاصمة: أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي أن جيشها لن يوقف هجومه ضد القوات الفيدرالية الإثيوبية حتى ترفع حصارها عن المنطقة، بالإضافة إلى إعلانها يوم 31 يوليو، أن المعارك والحروب لن تتوقف حتى سقوط حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في إشارة إلى ارتفاع سقف المطالب في ضوء النجاحات التي تمكنت الجبهة من تحقيقها مؤخراً.
3- تعبئة أديس أبابا المواطنين للقتال: أعلنت الحكومة الإثيوبية وقف إطلاق النار من جانب واحد، في 28 يونيو، وذلك عقب خسارتها، ميكيلي، عاصمة تيجراي، غير أن الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي رفضت، وأعلنت أنها ستواصل القتال.
ودفع هذا الأمر الحكومة الفيدرالية والقادة الإقليميين المتحالفين معها لحشد المواطنين من جميع أنحاء البلاد للانضمام إلى الحرب ضد قوات التيجراي، وذلك منذ أواخر يوليو، خاصة مع تقدم قواتها في إقليمي عفر والأمهرة، ووصولها إلى ما يقرب من 80 كيلومتراً من جوندار، العاصمة التاريخية لإثيوبيا.
4- توظيف أديس أبابا سلاح التجويع: رفضت الحكومة الإثيوبية دعوات المنظمات وهيئات الإغاثة الغربية، في 3 أغسطس، فتح أي ممرات للمساعدات الإنسانية إلى إقليم "تجراي" عبر الحدود السودانية، معتبرة أن هذه المطالب غير منطقية. وأكدت أديس أبابا أن الممر الوحيد لإدخال المساعدات سيكون عبر إقليم عفر الإثيوبي ودولة جيبوتي.
ويأتي ذلك في الوقت الذي تتهم فيه الحكومة الإثيوبية بخنق شعب تيجراي عبر منع وصول المساعدات الإنسانية، واستخدام الجوع سلاحاً في الحرب، وذلك على الرغم من تأكيد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، أنّ 5.2 مليون شخص، أو 91٪ من سكان تيجراي، يحتاجون إلى مساعدات غذائية طارئة.
5- رفض جهود الوساطة الإقليمية والدولية: رفضت إثيوبيا في 5 أغسطس لعب السودان دور الوساطة في أزمتها مع "جبهة تحرير تجراي"، معتبرة الخرطوم بأنها "ليست طرفاً ذا مصداقية"، في حين أن طرفي الصراع رفضا دعوات الأمم المتحدة لوقف الصراع الدائر بينهما.
ودعا الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى وقف إطلاق النار في منطقة تيجراي، بل وطالب بوضع حد "لانتهاكات حقوق الإنسان" هناك، وحذرت الإدارة الأمريكية من فرض عقوبات إذا لم تتمكن المساعدات من الوصول إلى منطقة تيجراي.
6- بروز المتغير التركي: أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 1 أغسطس عن مواصلته تقديم جميع أنواع الدعم لدولة إثيوبيا، بالإضافة إلى إيلائه المزيد من الاهتمام تجاه استقرار الدولة الإثيوبية، وذلك في خلال مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد. ولا تتوفر مؤشرات حول وجود دور تركي فاعل في الأزمة الإثيوبية، حتى الآن.
أسباب احتدام الحرب الأهلية:
يمكن إرجاع جذور الصراع الدائر حالياً إلى العوامل التالية:
1- إقصاء التيجراي عن الحكم: كانت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي طرفاً أساسياً في الحكومات الإثيوبية المتعاقبة، منذ أن تمكنت من الإطاحة بحكومة منجستو هيلا مريام في عام 1991، وحتى عام 2019، حين شكّل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، المنتمي إلى إثنية الأرومو، ائتلافاً رفضت الجبهة أن تشترك فيه.
وعلى الرغم من إقصاء الجبهة عن الحكومة الفيدرالية، فإنها احتفظت بالسلطة في إقليم تيجراي الفيدرالي، كما أنها أجرت انتخابات في سبتمبر 2020 على مستوى الإقليم، وهي الانتخابات التي رفضت الحكومة الإثيوبية الاعتراف بشرعيتها، على أساس أنها أجلت الانتخابات كافة في إثيوبيا بسبب جائحة كورونا. وتمكنت الجبهة من الحصول على أغلب مقاعد البرلمان الإقليمي، في انتخابات شهدت مشاركة 2.7 مليون فرد.
2- تراجع شرعية حكومة آبي أحمد: تمكن حزب الرخاء بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد من الفوز بحوالي 410 مقاعد من أصل 436 في الانتخابات التشريعية التي أجريت في مايو، وهو ما مكنّه من الاستمرار في حكم إثيوبيا لمدة خمس سنوات قادمة.
ولكن على الجانب الآخر، شهدت الانتخابات خروقات واسعة، إذ لم يتمكن خمس سكان البلاد من الاقتراع، بما في ذلك إقليم التيجراي، كما اتهم الاتحاد الأوروبي إثيوبيا بالفشل في ضمان استقلال انتخاباتها، وانتقدت واشنطن الانتخابات، مؤكدة أنها لم تكن حرة أو عادلة، بسبب العنف الذي شهدته، إلى جانب مقاطعة أحزاب المعارضة.
كما أن استدعاء الحكومة الإثيوبية للقوات الإريترية في الهجوم على إقليم التيجراي، وتورطها في انتهاكات لحقوق الإنسان بالإقليم يضعف من شرعية الحكومة في نظر مواطنيه، ويدفعهم لدعم الجبهة.
3- الفشل في إدارة التعددية الإثنية: تهدد الحرب الأهلية الدائرة حالياً وحدة الدولة الإثيوبية، خاصة في ضوء فشل آبي أحمد في إدارة التعددية الإثنية خلال السنوات الثلاث الماضية، وهو ما تمثل في تدهور العلاقة بين أديس أبابا والأقاليم الإثيوبية. ولا يقتصر الصراع الدائر في إثيوبيا على إقليم تيجراي، بل امتد إلى أقاليم أخرى، مثل إقليم أمهرة الإثيوبي، والذي يشهد بصورة دورية أعمال عنف يترتب عليها مقتل المئات، وعمليات تهجير وحرق للمنازل.
المسارات المستقبلية المحتملة
تتمثل السيناريوهات الرئيسية للحرب الأهلية الجارية في إثيوبيا بين الحكومة والتيجراي في التالي:
1- مسار الحسم العسكري: يعد هذا السيناريو هو السائد حالياً، إذ يصر كل طرف على الاعتماد على الحل العسكري، حتى الآن، لتحقيق أهدافه بصورة كاملة، ويرفضان وقف إطلاق النار، فضلاً عن طرح مطالب تبدو تعجيزية للطرف الآخر. ففي الوقت الذي يطالب التيجراي بحكومة انتقالية تحل محل آبي أحمد، يصر الأخير على إرسال مجندين جدد لهزيمة مقاتلي التيجراي عسكرياً. ويوجد سيناريوهان فرعيان في إطار هذا السيناريو وهما:
أ- الإطاحة بآبي أحمد: يمكن أن تتمكن جبهة التيجراي من تحقيق هدفها الرامي إلى السيطرة على أديس أبابا عسكرياً، والإطاحة بآبي أحمد، ويدعم مثل هذا السيناريو ثلاثة عوامل:
• الخبرة العسكرية للتيجراي: يلاحظ أن أغلب القوات التي حشدتها أديس أبابا لا تتمتع بخبرة قتالية كبيرة، وتم حشدهم من صفوف المدنيين، بعد إعطائهم دورات تدريبية سريعة على حمل السلاح، لذا فإنه لا يتوقع أن يتمكنوا من مواجهة قوات التيجراي، نظراً لأنهم كانوا يمثلون غالبية في القوات المسلحة الإثيوبية، على الرغم من أن إثنية التيجراي لا تشكل سوى 6٪ فقط من السكان.
• السابقة التاريخية في التسعينيات: تمكنت جبهة تحرير شعب تيجراي في عام 1991 من تأسيس جيش ضخم يزيد قوامه على أكثر من 100 ألف مقاتل، والذي تمكن بالتحالف مع القوات الإريترية من السيطرة على العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، والإطاحة بنظام منغستو الحاكم آنذاك.
• قطع الواردات عن إثيوبيا: يمكن أن تتمكن قوات التيجراي من خنق أديس أبابا، من خلال منع حصولها على الواردات من الوقود والأغذية والأدوية، وذلك عبر السيطرة على الممر الذي تمر عبره هذه الواردات من جيبوتي.
ب- هزيمة التيجراي: يصعب تصور هذا السيناريو نتيجة لتراجع قوة القوات الإثيوبية أمام قوات التيجراي، وانسحاب الأولى في بعض الأحيان من دون قتال، كما في الانسحاب الأخير من بلدة لاليبيلا التاريخية. ومع ذلك، فإن هذا الخيار سوف يكون مطروحاً في حالة:
• حصول الحكومة الإثيوبية على دعم أجنبي، كما في حصولها على دعم من إريتريا، أو من تركيا.
• تمكن إثيوبيا من تجويع التيجراي وعرقلة وصول المساعدات الغذائية لهم.
2- مسار التسوية السلمية: يمكن أن يتحقق هذا المسار في حالة جمود الصراع، وعجز كل طرف عن تحقيق أهدافه، وتتمثل العوامل التي تساعد على تحققه في التالي:
• تمتع آبي أحمد بدعم شعبي في مقابل زعماء تيجراي، حيث يرفض الكثير من الإثيوبيين عودة الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي إلى الحكم من جديد.
• مواجهة قوات الجبهة مقاومة شعبية مع تقدمها خارج معاقلها في إقليم التيجراي.
• الضغوط الأمريكية على طرفي الصراع للجلوس للتفاوض، خوفاً من أن يترتب على ذلك انهيار الدولة الإثيوبية، وحدوث أزمة لجوء تمتد آثارها إلى القارة الأوروبية.
3- مسار جمود الصراع: يتمثل هذا السيناريو في عجز طرفي الصراع عن تحقيق أهدافه العسكرية، وحدوث نوع من الجمود العسكري، وذلك في الوقت الذي يعجز فيه المجتمع الدولي عن ممارسة الضغوط الكافية لإجبار الأطراف المتصارعة للجلوس إلى طاولة المفاوضات.
وقد يفتح هذا الباب أمام انفصال إقليم التيجراي عن الدولة، خاصة في ضوء المادة 39 من الدستور الإثيوبي، والتي تجيز حق تقرير المصير في بعض الحالات؛ مما قد يترتب عليه تفكك الدولة الإثيوبية، خاصة إذا اتجهت الأقاليم الأخرى إلى السير على خطى إقليم التيجراي.
وفي الختام، فإن الحرب الأهلية الدائرة حالياً في إثيوبيا تهدد وحدة الدولة هناك. ويعد التوصل لتسوية سلمية هو أحد أفضل الخيارات، خاصة في ضوء وجود حرص دولي وإقليمي على دعم ذلك الخيار، حتى لا تمتد الاضطرابات الإثيوبية الداخلية لتهدد أمن القرن الأفريقي بأسره.