في الذكرى الرابعة والستين لإعلان الجمهورية التونسية، اختار الرئيس قيس سعيد أن يعلن "حالة الخطر الداهم" في البلاد، كما ينظمها الدستور الذي صاغته حركة النهضة الإسلامية، حيث اتخذ، يوم 25 يوليو الجاري، عدداً من القرارات الاستثنائية، ومن بينها إقالة حكومة هشام المشيشي، وتجميد أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، وهي التدابير التي اعتبرها الرئيس التونسي ضرورية من أجل إنقاذ البلاد. فيما تباينت مواقف القوى السياسية إزاءها، كلٌ حسب موقعه داخل السلطة أو قربه وبعده السياسي من الرئيس سعيد.
السياق والدوافع:
جاءت التدابير الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد في سياق صعب وعسير تعيشه تونس منذ نحو عام، حيث تعمقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق، بسبب عدم الاستقرار السياسي وتأزم العلاقة بين الرئاسات الثلاث في البلاد. وقد تجلت هذه الأزمات في تنامي موجات الهجرة غير الشرعية، والفقر، والبطالة، والركود الاقتصادي، وسط انتشار كارثي لوباء كوفيد-19 وارتفاع أعداد الوفيات بسبب الفيروس في ظل انهيار المنظومة الصحية.
وفي إطار إعلانه تفعيل "حالة الخطر الداهم" وما رافقها من إجراءات، قدم الرئيس التونسي عدداً من الأسباب دفعته للإقدام على هذه القرارات الاستثنائية، ويتمثل أبرزها في الآتي:
1- تراجع أداء حكومة المشيشي: أكد الرئيس قيس سعيد أن ضعف سلطة الدولة وعجز المرافق العمومية عن تقديم الخدمات للمواطنين يمثل أحد الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ القرارات الأخيرة. ووصف الرئيس ذلك بالقول: "هناك من يسعى لتفجير الدولة من الداخل"، فيما أشار إلى تحويل الدولة إلى غنيمة واقتسام السلطة من خلال "السطو على إرادة الشعب" وعبر تحويل آلية التعيينات في المناصب العامة على قاعدة الولاء للأحزاب واللوبيات.
2- استشراء الفساد في قطاعات حيوية: كشفت التقارير التي نشرتها محكمة المحاسبات، أعلى جهة قضائية رقابية في تونس، عن تفشي الفساد في القطاعات الرئيسية وداخل الطبقة السياسية، وحتى ضمن العملية الانتخابية. كما أشار الرئيس سعيد إلى الفساد داخل مؤسسة القضاء ووجود ملفات قضائية متروكة لعدة سنوات من دون حسم بسبب الوساطات والنفوذ الذي تتمتع بهما الطبقة الحاكمة، واصفاً الوضع بـ "أنهم لصوص يحتمون بالنصوص التي وضعوها على مقاسهم"، في إشارة إلى القوانين التي يتم تمريرها في البرلمان.
3- تزايد الغضب الشعبي: تنامت الحركات الاحتجاجية في تونس بسبب انهيار الوضع المعيشي لأغلب قطاعات الشعب، خاصة الطبقات الفقيرة في ظل الوضع الوبائي الكارثي الذي تعيشه البلاد، بعد أن سجلت أعلى نسبة وفيات بفيروس كورونا خلال الأسابيع الماضية؛ بسبب التأخير في حملات التطعيم وضعف المرافق الصحية. ويبدو أن الاحتجاجات التي اندلعت بشكل واسع يوم 25 يوليو الجاري، وذلك قبل ساعات من إعلان الرئيس سعيد "حالة الخطر الداهم"، واستهداف مقرات الأحزاب الحاكمة، ومن بينها حركة النهضة، قد شجعته على إعلان هذه القرارات الاستثنائية.
4- استقطاب حاد داخل البرلمان: سادت الفوضى داخل المؤسسة النيابية، والتي أصبحت ساحة للعنف والشتائم بين نواب الائتلاف الثلاثي الحاكم، ونواب المعارضة. وتحول البرلمان التونسي، في ظل هذا الوضع، إلى ساحة لتصفية الحسابات وليس مكاناً للتشريع.
أبعاد القرارات الرئاسية:
استند الرئيس قيس سعيد في قراراته الاستثنائية إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، والذي ينص على أن "لرئيس الجمهورية في حال الخطر الداهم الذي يهدد كيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس ومجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن الرئيس عن التدابير في بيان إلى الشعب". كما ينص على أنه "يجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة، وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب، كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". "وبعد مضي 30 يوماً على سريان هذه التدابير، وفي كل وقت بعد ذلك، يعهد إلى المحكمة الدستورية بطلب من رئيس مجلس نواب الشعب أو 30 من أعضائه البت في استمرار الحالة الاستثنائية من عدمه. وتصرح المحكمة بقرارها علانية من أجل أقصاه 15 يوماً".
وبحسب بيان رسمي للرئاسة التونسية، فقد استشار الرئيس سعيد رئيس الحكومة، المشيشي، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، بشأن تفعيل هذا الفصل، بيد أن الأخير قد أكد في تصريحات إعلامية ذلك، ثم عاد ونفى استشارته في بيان رسمي. وبناءً على هذا الفصل المثير للجدل والذي وضعته حركة النهضة في عام 2014 فقد قرر الرئيس سعيد ما يلي:
• إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي.
• تجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي لمدة 30 يوماً.
• رفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضاء مجلس نواب الشعب (البرلمان).
• تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة ويعيّنه رئيس الجمهورية.
• إعفاء وزراء الداخلية والعدل والدفاع.
• تعطيل العمل بعدة مؤسسات في الدولة.
• إعلان حظر التجول الليلي في جميع أنحاء البلاد لمدة شهر.
وقد يبدو من خلال هذه القرارات أن الرئيس سعيد تجاوز الفصل 80 في التطبيق، والذي يشير إلى بقاء البرلمان في حالة انعقاد، وجمع بيد واحدة السلطات الثلاث، خاصة في ظل عدم الاتفاق على تشكيل المحكمة الدستورية حتى الآن. وبرر سعيد موقفه ذلك على أساس وجود حالة "الخطر الداهم" التي تحيق بالبلاد اقتصادياً وسياسياً وصحياً، وأن مدة هذه الإجراءات لن تتجاوز الشهر، متعهداً بـ "حماية المسار الديمقراطي والحقوق والحريات".
وفي ظل غياب مؤسسة المحكمة الدستورية، صار الرئيس سعيد وحده المخول بتأويل فصول الدستور، وهي من الثغرات التي تركتها الأغلبية الحاكمة بين 2011 و2014 بقيادة حركة النهضة ووقّعت في شراكها اليوم. فقد تعرض مسار تشكيل المحكمة الدستورية للكثير من العراقيل بسبب رغبة حركة النهضة في الاستئثار بهذه المؤسسة القضائية القائمة على حصص موزعة بين الرئاسة، والمجلس الأعلى للقضاء، والبرلمان.
ردود الفعل:
بدا واضحاً حجم التأييد الذي حظيت به قرارات الرئيس سعيد محلياً من خلال الاحتفالات الشعبية، وكذلك بيانات مساندة من عدد من أحزاب المعارضة القومية واليسارية، ودعم مشروط بضمانات دستورية من الاتحاد العام التونسي للشغل.
وفي المقابل، خاضت قيادات حركة النهضة وحليفيها في السلطة، حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة، معارضة كلامية، واصفين ما حدث بـ "الانقلاب على الشرعية" على حد ادعائهم، غير أنها لم تترجم هذه التصريحات على الأرض في مسيرات أو تجمعات، باستثناء تجمع أمام البرلمان ما لبث أن انفض سريعاً، وهو ما يكشف عن تآكل الحاضنة الاجتماعية لحركة النهضة وضعف التعبئة وخوف قطاعات واسعة من الشعب من أن يتحول الأمر إلى صدامات شبيهة بما حدث في دول أخرى بالمنطقة.
كما أبدت القوى الإسلامية في عدد من دول الإقليم (ليبيا، والمغرب، والجزائر)، فضلاً عن الحكومة التركية، أحد أبرز حلفاء النهضة، استنكارها لما حدث، واصفة إجراءات الرئيس التونسي بـ "الانقلاب". وفي المقابل، بدت أغلب المواقف الدولية دبلوماسية وغير منحازة، ودعت أغلبها للحوار، وعلى رأسها موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وهما القوتان اللتان كانت تراهن عليهما حركة النهضة لإحراج الرئيس سعيد والضغط عليه.
مسارات مُحتملة:
من الصعب معرفة ما يدور في رأس الرئيس قيس سعيد، باعتبار أن الرجل من خارج الطبقة السياسية السائدة في تونس، ولذلك فإن الصورة لاتزال غير واضحة لما سيحدث في الأيام القادمة. وفي ضوء ذلك، يمكن توقع عدد من السيناريوهات بشأن الأحداث الجارية في تونس، وهي الآتي:
1- السيناريو الأول (مُضي الرئيس سعيد قُدماً في إجراءاته): يمكن للرئيس التونسي خلال فترة الـ 30 يوماً للتدابير الاستثنائية أن يعيد ترتيب المشهد في الداخل، كما يريد، بجمعه عدداً واسعاً من الصلاحيات، من خلال فتح الملفات القضائية المهملة منذ سنوات، وإيقاف النواب المتهمين بالفساد، وتعيين رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة، وتعيينات في المناصب السامية للدولة. وبالتالي يعيد وضع الأمور في نصابها، ثم يمكن للبرلمان أن يستأنف أعماله. وهذا المسار مرجح، ويمكن أن تعقبه تغييرات جذرية على بنية النظام السياسي في تونس.
2- السيناريو الثاني (العودة إلى الحوار الوطني): يمكن أن يتم السير نحو حوار وطني واسع يضم القوى السياسية كافة لتغيير النظام السياسي "الهجين"، والانتقال إلى نظام رئاسي أو برلماني، وتغيير النظام الانتخابي، ثم المرور نحو انتخابات تشريعية مبكرة. وهذا السيناريو كان الرئيس سعيد من داعميه خلال الشهور الماضية مقابل رفض حركة النهضة، لكن اليوم مع تبدل موازين القوى لا يمكن الجزم بحدوثه.
3- السيناريو الثالث (تبني النهضة خيار الشارع): يُتوقع وفق هذا السيناريو رفض حركة النهضة وحلفائها الإجراءات الاستثنائية للرئيس سعيد، والتوجه نحو خيار المواجهة في الشارع من خلال التظاهرات وكسر حظر التجول والتجمعات، وهو سيناريو يمكن أن يكون كارثياً على النهضة وتونس عموماً. لذلك يبدو غير مرجح، خاصة أن قيادة حركة النهضة تدرك مخاطره وتداعياته غير المحسوبة، كما أنها تخشى تكرار سيناريو جماعة الإخوان وسقوطها في مصر.