إعداد: أحمد عاطف
مثَّل انتخاب رجب طيب أردوغان رئيساً لتركيا يوم 10 أغسطس 2014 نقطة تحول في التطور السياسي في البلاد، فأردوغان لا يرى نفسه فقط رئيساً لدولة، ولكن يصف نفسه بأنه الضامن لإرادة الشعب؛ وهو ما تصاعدت معه وتيرة الحديث في أوساط معارضيه بالداخل، وكذا الكثير من المراقبين في الخارج، من أن تركيا قد تنجرف مرة أخرى إلى السلطوية، في ظل عنف الشرطة المفرط ضد المتظاهرين، والقيود المفروضة على الصحافة والإنترنت، وتدخل الحكومة في القضاء.
في هذا الصدد، تسعى دراسة أعدها Günter Seufert الخبير في "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية"، إلى بحث الوضع الراهن في تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية، ورئيسها طيب أردوغان.
أسباب نجاح أردوغان في الانتخابات
يتطرق Seufert في هذه الجزئية إلى الانتصارات المتتالية لأردوغان وحزبه، سواء في الانتخابات البرلمانية أو البلدية أو الاستفتاءات الدستورية، مشيراً إلى أن الظفر بمنصب رئيس الجمهورية بنسبة 51.8% من الأصوات المشاركة كان الفوز التاسع على التوالي لأرودغان في الانتخابات. ولا تفسر فقط الكاريزما التي يتمتع بها أردوغان على نطاق واسع، هذه السلسلة الطويلة من النجاحات، فما نراه في الواقع مع أردوغان هو خلاصة عملية طويلة الأمد في السياسة التركية، حيث تم إدماج الأغلبية الدينية المحافظة والأكراد في النظام السياسي.
ويوضح الكاتب أن ما حدث من ثلاثة انقلابات عسكرية وحظر 26 حزباً سياسياً ليست سوى أمثلة على التدابير التي اتُخذت منذ عام 1960، حيث تم استبعاد الأكراد والتيارات الإسلامية المحافظة من الجمهورية "الكمالية" (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك)، حتى حزب العدالة والتنمية نجا فقط من الحظر في عام 2008 رغم أنه كان يحكم بأغلبية مطلقة.
ومنذ بداية مسيرته في حزب العدالة والتنمية، كان الخطاب السياسي لأردوغان يدور حول "الديمقراطية"، والتي تعني وفقاً له تأكيد إرادة الأغلبية المحافظة ضد السيطرة السياسية للنخبة "الكمالية". وكان هذا هو المشروع الذي كسب من خلاله أردوغان أتباعه من فئات وجماعات ومناطق مختلفة، وحظي عن طريقه أيضاً بالدعم في الخارج.
ويؤكد Seufert أن ثمة أسباباً أخرى وراء القفزة في الدعم الجماهيري لأردوغان من 43.39% في الانتخابات البلدية إلى ما يقرب من 52% في الانتخابات الرئاسية، ومنها أن رئيس الوزراء السابق نجح في توحيد أصوات الأحزاب اليمينية الصغيرة التي لم تطرح مرشحين لها وراءه، مثل حزب السعادة التركي الإسلامي وحزب الاتحاد القومي، لذلك فمن غير المتوقع أن يحصل حزب أدروغان على نفس النتائج في الانتخابات البرلمانية المقبلة في يونيو 2015.
وعند تفسير أسباب فوز أرودغان، لا يمكن أيضاً إغفال عدم قدرة أنصار اليساريين (حزب الشعب الجمهوري) واليمينيين (حزب العمل القومي) على إعطاء أصواتهم لمرشح مشترك من الطرفين.
الحكومة الجديدة وتقييد الحريات
كشف رئيس الوزراء الجديد ووزير الخارجية السابق أحمد داود أوغلو، النقاب عن حكومته في 29 أغسطس 2014، وتم إسناد السياسة الخارجية والأوروبية إلى شخصيات معروفة جيداً في أوروبا. فوزير الخارجية الجديد "مولود جاويش أوغلو"، خدم لفترة وجيزة في منصب وزير شؤون الاتحاد الأوروبي، كما انتخب رئيساً لمجلس الجمعية البرلمانية الأوروبية خلال الفترة (2010-2012). وحظي كذلك تعيين وزير الاقتصاد التركي السابق، علي باباجان، كأحد النواب الأربعة لرئيس الوزراء، واحتفاظ محمد شيمشك بمنصب وزير المالية، بترحيب في أوروبا، لأن كليهما يتمتع بالكفاءة في مجال عمله.
ولكن يشير Seufert إلى أن الحكومة التركية تُقدم نفسها إلى السكان بلغة مختلفة، من خلال التركيز على تركيا باعتبارها حضارة في حد ذاتها تختلف تماماً عن الأوروبيين، ولديها "قيم وطنية" متميزة ومتجذرة في التاريخ العثماني، وهذه القيم الأصيلة يجب التأكيد عليها في جميع مؤسسات الدولة، ونقلها كذلك للجمهور.
وهكذا، فإنه في إطار عمل الدولة والحكومة على تجانس السكان ثقافياً وأخلاقياً، تم استبدال "الديمقراطية" بـ "سلطوية جديدة"، ولكن هذه المرة تحت ستار الهوية الدينية المحافظة. فبعد ترشيحه رئيساً للحزب، اعتبر "داود أوغلو" ان حزب العدالة والتنمية ظهر لإحياء وبعث تقاليد دولة عميقة الجذور، وليس فقط كممثل لمصالح قطاعات كبيرة من السكان، مضيفاً أنه سيتعين على الأتراك في المستقبل ممارسة حرياتهم المدنية لكن وفق قيود أخلاقية محددة من قبل الحكومة.
ومن ثم يرى الكاتب أن نهج "تركيا الجديدة" يؤسس لتسلسل هرمي جديد من الهويات السياسية، مع حكومة تسعى لتأمين احتكارها لمفاهيم سياسية مركزية مثل (الأمة، والمصلحة الوطنية، والعدالة، والدين).
حزب العدالة والتنمية.. خصائص ثلاث
تشير الدراسة إلى أن غموض أيديولوجية وسياسات حزب العدالة والتنمية لا تمثل صعوبات للحزب، الذي أسند كل القرارات الحاسمة لمؤسسه وزعيمه السابق أردوغان. فعندما تصبح رؤية هذا الزعيم برنامجاً لا يكون هناك مجال للتشاور، ولا حتى للنقاش.
ويضيف الكاتب أن أعضاء حزب العدالة والتنمية ليس لهم بالفعل تأثير يُذكر عندما يتعلق الأمر بتحديد المواقف السياسية في الحزب، فهؤلاء الأعضاء يقدمون آرائهم في مظاريف مختومة يتم تمريرها إلى زعيم الحزب.
وبصفة عامة، يرى Seufert أن حزب العدالة والتنمية يتسم بثلاث خصائص أو سمات، هي:
1- أحاط أردوغان نفسه على مر السنين بدائرة من المستشارين صغار السن والموالين له، والذين يعتمدون بشكل مباشر عليه، لأنهم تقريباً ليس لديهم أتباع داخل الحزب، كما أن معظمهم ليسوا أعضاء في البرلمان. ويتم تجهيز مجموعة من الشباب الموالين لأدروغان للمضي قدماً في الحكومة القادمة بعد الانتخابات البرلمانية في يونيو 2015، وذلك من أجل مواصلة سياساته.
2- مع إصرار أردوغان، تمسك الحزب بالإبقاء على قانون "الفترات الثلاث" الذي يحدد الفترات النيابية لنواب الحزب بثلاث فترات فقط، وهو ما سيمنع حوالي 73 نائباً من إجمالي 312 برلمانيين حاليين ينتمون لحزب العدالة والتنمية، من الترشح مرة أخرى في الانتخابات التشريعية القادمة.
3- الخصوصية الثالثة لحزب العدالة والتنمية هي أن مركز صنع القرار يتحدد في شخص رجب طيب أردوغان، والذي يعمل رسمياً خارج الحزب منذ توليه الرئاسة، وبالتالي فهو في مأمن من تأثير أعضاء الحزب. ومن ثم فهذا يعمل على إعاقة عملية مشاركة هياكل الحزب في القرارات السياسية الداخلية.
عدم احترام الدستور وتسييس القضاء
أعلن داوود أوغلو بعد انتخابه رئيساً لحزب العدالة والتنمية، أن هدفه فوز الحزب بأغلبية الثلثين في الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو 2015، والتي من شأنها أن تسمح للحزب والحكومة تعديل الدستور بسهولة. ويشير الكاتب إلى أن الهدف الرئيسي هنا يتعلق بالتحول نحو النظام الرئاسي، حيث إن أوغلو يعمل على إضعاف كل من البرلمان والحكومة، لصالح الرئيس أردوغان، وبما يحقق توازن القوى بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية.
وفي حقيقة الأمر، يرى Seufert أنه بانتخاب أردوغان رئيساً للجمهورية يكون قد انتقل بالفعل بتركيا إلى النظام الرئاسي، حتى لو كان الدستور لايزال ينص على النظام البرلماني. وأوضح الكاتب أن مجلس الوزراء الجديد، وفي مقدمته رئيس الحكومة، يسترشد في سياساته برؤية أردوغان، كما أن الأخير لا يخجل بدوره من الإعلان عن التعليمات التي أعطاها أو يعتزم منحها لرئيس وزرائه للتعامل مع مشاكل سياسية محددة.
ويستمر الكاتب في التدليل على عدم احترام أردوغان للدستور والقواعد القانونية الأخرى، موضحاً أنه تجاهل المادة 101 من الدستور التي تنص على ضرورة أن يستقيل رئيس الجمهورية من عضوية الحزب والبرلمان بمجرد أن يتم انتخابه، بيد أن أردوغان بعد أن تأكد من تثبيت داود أوغلو خلفاً له في رئاسة الحكومة، استقال فقط من البرلمان بعد أن أدى اليمين الدستورية رئيساً للبلاد.
ويرى Seufert أن هناك خطراً ليس فقط من تآكل الدستور والقوانين، ولكن يمتد الأمر كذلك إلى القضاء وتسييس المحاكمات، فعندما بدأت تحقيقات الفساد ضد أعضاء حكومة أردوغان في ديسمبر 2013، مارست حكومته الضغط على المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين، لذا لم تكن مفاجأة أن أُسقطت قضايا الفساد ضد أربعة من وزراء أردوغان وابنه بلال.
هل المحادثات مع الأكراد بديل عن الديمقراطية؟
يرى المدافعون عن أردوغان أن موقفه القوي مقبول سياسياً، فقط لأنه وحزب العدالة والتنمية على استعداد لقيادة المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني والوصول إلى نتيجة. ورغم صحة النظرية القائلة بأن الديمقراطية لا يمكن أن تتقدم دون حل للمسألة الكردية، بيد أن المشكلة في تحقيق المعادلة المتعلقة تتمثل في تحقيق قدر أكبر من الحرية الثقافية مع مزيد من الحرية السياسية. فلا شك أن "تركيا الجديدة" مع أردوغان أكثر تعددية ثقافياً من الدولة "الكمالية"، ولكن يحكمها "أُحادية سياسية"، فحزب واحد فقط الآن لديه فرصة تشكيل الحكومة.
ختاماً، يتطرق Seufert إلى علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي، مشككاً في وفاء أنقرة بمعايير كوبنهاجن التي تعد بمثابة محددات أو شروط مسبقة لبدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وأبرز تلك المعايير: (وجود مؤسسات ديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان). ويمثل هذا الأمر معضلة للاتحاد الأوروبي، فرغم أن تركيا مهمة جداً في النواحي الاقتصادية والأمنية والسياسة الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإن دول الاتحاد لا يمكنها تجاهل حقيقة تراجع الديمقراطية بعد صعود حزب العدالة والتنمية للحكم في أنقرة.
* عرض موجز لتقرير بعنوان: "تركيا الجديدة لأردوغان.. استعادة الدولة السلطوية باسم الديمقراطية"، والمنشور عن "المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية" في أكتوبر 2014.
المصدر:
Günter Seufert, Erdoğan’s “New Turkey” Restoring the Authoritarian State in the Name of Democracy (Berlin, German Institute for International and Security Affairs, October 2014).