إعداد: محمد أحمد عبدالمعطي
قطع حلف الناتو منذ إنشائه في عام 1949 شوطاً طويلاً في سبيل توسيع تأثيره لما هو أبعد من المنطقة الأوروبية الأطلنطية، ليمتد التعاون لأكثر من 40 دولة في أطر متعددة أهمها: الشراكة من أجل السلام، ومجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية، ومبادرة إسطنبول للتعاون، والحوار المتوسطي.
وفي إطار اهتمامه بالسعي نحو توثيق التعاون بين "الناتو" ودول الخليج في مجال أمن الطاقة، أصدر "مركز تميز أمن الطاقة التابع لحلف الناتو "NATO Energy Security Centre of Excellence، والذي تأسس في أكتوبر 2012 كي يعنى بقضايا تأمين موارد الطاقة، عدداً جديداً من دوريته "منتدى أمن الطاقة Energy Security Forum"، للحديث عن هذا الموضوع، حيث تهدف هذه الدورية بشكل عام إلى الدمج بين تهديدات الأمن العالمي وبرامج الشراكة في إطار حلف الناتو.
وتضمنت الدورية في عددها الصادر في يوليو 2014، خمس مقالات أعدها خبراء وباحثون متخصصون، تناولوا في مجملها ملف "الناتو" وأمن الطاقة في الخليج، وحاولوا الإجابة عن سؤال محوري مفاده: كيف يمكن تحقيق التقارب بين الناتو ودول الخليج والأسباب الدافعة لذلك؟ وما المعوقات وكيفية التغلب عليها لتحقيق شراكة استراتيجية قائمة على أمن الطاقة ودفعها لتحفيز وتنشيط هذا التعاون في منطقة الخليج مستقبلاً؟
منطقة الخليج وأمن الطاقة العالمي
بدايةً يتطرق الخبراء إلى الحديث عن أهمية منطقة الخليج كأكبر منتج للطاقة الأحفورية عالمياً، فقد أصبحت لأكثر من نصف قرن ذات أولوية خاصة، ومحل تركيز من جانب الولايات المتحدة، لحماية مواردها من الطاقة الهائلة من الوقوع تحت سيطرة قوى معادية، وهو ما أصبح العقيدة الاستراتيجية الأساسية للولايات المتحدة و"الناتو" على حد سواء تجاه هذه المنطقة.
وعلى الرغم من أن القرن الحادي والعشرين قد شهد تطورات مهمة بالنسبة لواشنطن من حيث تطوير مصادرها غير التقليدية من النفط والغاز وتقليل اعتمادها على الإمدادات الخليجية، فإنها لاتزال ملتزمة بتأمين موارد المنطقة من الطاقة، ولم تفقد الاهتمام بمنطقة الخليج، على الرغم من تغير البيئة الجيواقتصادية والجيوستراتيجية، حيث يُكلف الوجود العسكري فيها حوالي 70 مليار دولار سنوياً، يساهم في تحملها بعض دول "الناتو" مثل بريطانيا وفرنسا، ويصل الوجود العسكري الغربي إلى 30 ألف فرد بمختلف أنواع القوات الأرضية والجوية والبحرية، ولذلك يُثار تساؤل: لماذا يُكرس الناتو الكثير من موارده لمنطقة الخليج، وهل من الأفضل ترك قضية النفط لقوى السوق وإخراج السياسة من هذه المسألة؟
إن قضية أمن الطاقة لم تفقد بعد إلحاحها وأهميتها في توازنات عالم اليوم الجيوستراتيجية، كما أن تحقيق المصالح الغربية بتوفير أمن الطاقة وتحقيق الاستقرار في المنطقة، يستلزم انخراطها المستمر بشكل منفرد أو في الإطار متعدد الأطراف، في ضوء المخاطر السياسية التي من الممكن أن تتعرض لها دول "الناتو"، نتيجة للاعتماد المتزايد على الطاقة الروسية، ولذلك فإن خفض الاعتماد على منطقة الخليج والتقليل من أهميتها يظل توجهاً غير ناضج ولا يجب التعويل عليه.
كما أن تطوير السياسة الخارجية الأوروبية والأمريكية تجاه شرق آسيا لن يسمح بتراجع تأثير الدول الغربية في المنطقة، نتيجة زيادة طلب الصين على الطاقة لضمان موازنة التأثير الصيني فيها والحد من صعوده لتجنب حدوث تحول في النظام الدولي.
ومن ثم، تتعدد أسباب بقاء منطقة الخليج في دائرة الاهتمام الأمريكي والحلفاء الغربيين بالنسبة لسياسة أمن الطاقة، ومنها:
1- صعوبة الاستقلال الكامل والمستدام للطاقة اعتماداً على المصادر غير التقليدية، حيث يعتقد الخبراء أن هذه المصادر تعد ظاهرة مؤقتة وستنتهي احتياطياتها في أقل من عقد.
2- الاعتماد الأمريكي على الإنتاج المحلي للبترول من المصادر الجديدة "البترول الصخري" لن يحل مشكلة واردات الغاز الطبيعي الذي لا يوجد له سوق عالمي موحد مثل البترول، ويعتمد سعره على الجغرافيا ومناطق الاستخراج أكثر منه على قوى السوق.
3- قيام الجانب الأمريكي بتقليل وارداته من الخليج، واستمراره في الإنتاج المحلي، وتصدير نسبة منه لحلفائه الأوروبيين، لن يؤمنه من مخاطر وتداعيات الأحداث في الشرق الأوسط نتيجة التأثير على الإنتاج، وبالتالي ارتفاع الأسعار عالمياً.
دوافع التعاون بين "الناتو" ودول الخليج
ثمة أسباب تدفع إلى التعاون بين حلف الناتو ودول مجلس التعاون الخليجي، وتتمثل من وجهة نظر كتَّاب دورية "منتدى أمن الطاقة"، في الآتي:
1- تلعب دول الخليج دوراً رئيسياً في إدارة الطلب العالمي على النفط وتثبيت أسعاره، في ضوء ما تشهده بعض الدول المصدرة للبترول من عدم استقرار، مثل إيران والعراق.
2- تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة في مجال الطاقة، نتيجة لتزايد استقلاليته وانخفاض طلبه على الإمدادات الخليجية مع التزامه بعلاقاته معها للحفاظ على هيكل سعر النفط، وهو ما يتزامن مع الرغبة الأوروبية في تقليل الاعتماد على الإمدادات الروسية، وتنويع مصادر إمدادات الطاقة، لضمان عدم التأثر بالاعتماد على الإمدادات من نظم غير صديقة.
3- تحذير دول الخليج الخليجية من تأثير انخفاض اعتماد أمن الطاقة الأمريكي عليها في التأثير على التحالف القائم بينهما، خاصةً السعودية التي ترى العديد من الإشارات على ذلك، ممثلة في الانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان والتقارب مع إيران.
4- ظهور مجموعة من العوامل المؤثرة في الوقت الحاضر على مراكز الاستقرار الجيوبولتيكي في المنطقة، وأهمها الثورات العربية وآثارها المتعددة على ما كانت تبدو نظماً سياسية مستقرة، وعدم اليقين أو التوقع بسلوك روسيا بوتين.
5- ظهور تهديدات بحرية قرب مضيق هرمز، حيث يمر خُمس إمدادات النفط العالمي، كما أن تهديدات "الفضاء الالكتروني" تستهدف الشركات العاملة في هذا المجال (أرامكو السعودية 2012).
6- مواجهة التحديات المشتركة مثل فشل الدولة في اليمن والقرصنة في المحيط الهندي وخليج عدن، والتي أدت لازدياد رسوم تأمين السفن بأكثر من عشرة أضعاف، والتصدي لإيران، والاعتماد المتبادل بين الطرفين في حالات الأزمات الاقتصادية والتقشف في دول حلف الناتو.
7- ظهور مشكلة المنافسة البحرية في الخليج العربي، وما يمكن أن تؤدي إليه من مخاطر تعطل ممرات الملاحة، ويعد حرمان إيران من تطوير قدراتها على الردع في منطقة مضيق هرمز هدفاً مشتركاً للطرفين، فخلال الثلاثين عاماً الماضية تعطلت الإمدادات عالمياً 17 مرة منها 14 مرة في الشرق الأوسط.
8- إن تصاعد التهديدات الناشئة وتتابعها كان موضوعاً لمناقشات الناتو، وتم اتخاذ قرارات بشأنها في قمتي ريجا 2006 وبوخارست 2008، ليؤكد ذلك على اهتمام "الناتو" بلعب دور في تأمين وحماية خطوط إمدادات الطاقة.
مبادرة إسطنبول.. أبرز آليات التعاون
يركز الكتَّاب في الدورية على "مبادرة إسطنبول للتعاون" التي تم إطلاقها في عام 2004 خلال قمة "الناتو" في تركيا، باعتبارها الأداة الرئيسية للتعاون بين "الناتو" ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث إنها أُنشئت بهدف زيادة دور "الناتو" في الإقليم، وتحييد مخاوف هذه الدول من المخاطر المحدقة بها، خاصةً فيما يتعلق بأمن الطاقة، وركزت المبادرة على مسائل فنية، إضافة للحوار الثقافي، وذلك بوصفها آلية علاقات ثنائية فنية، ولذلك ينقصها البعد السياسي والبعد المتعدد الأطراف، حيث إن أربعاً من دول مجلس التعاون الخليجي الست أعضاء في المبادرة، وهي (البحرين، الكويت، قطر، الإمارات)، كما أن السعودية وسلطنة عمان تقيمان حواراً مستمراً مع الناتو.
وتركز المبادرة على مجالات استراتيجية فنية مثل (التخطيط والتحول الدفاعي، تعزيز العمل المشترك، مشاركة المعلومات الاستخباراتية والتعاون ضد الإرهاب، ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل)، وعلى هذا المستوى، وبعد عقد زمني من التعاون من خلال هذه الآلية، تبدو النتائج متواضعة.
معوقات التعاون بين "الناتو" والخليج
يطرح الخبراء مجموعة من التحديات والمعوقات أمام تحقيق التعاون المنشود بين دول الناتو ومنطقة الخليج، وهي:
1- معوقات مرتبطة بمبادرة إسطنبول نتيجة غياب السعودية وسلطنة عُمان اللتين تمتلكان 70% من النفقات العسكرية لدول الخليج ولم ينضما للمبادرة حتى لا يفسر أن هذا تحالف ضد إيران، خاصة عُمان التي تمتلك علاقات جيدة مع إيران، أما السعودية فلن تقبل بعلاقات أقل من علاقة مباشرة مع الناتو، وليس من خلال هذه المبادرة، من وجهة نظر الباحثين.
2- فشل عملية تطوير مبادرة إسطنبول للتعاون في أن تصبح مساراً متعدد الأطراف، فبينما كان الناتو يتعامل مع دول المنطقة كمنظمة واحدة، فإن طبيعة المبادرة هي أنها برنامج ثنائي موجه لكل دولة على حدة.
3- فشل "الناتو" في إرسال رسائل واضحة لشركائه الخليجيين بشأن الأهداف طويلة المدى، فعلى الرغم من تحديد مبادرة إسطنبول لعدد من المجالات، فإن ذلك لم يُترجم إلى تقارب فعلي في الأجندات الاستراتيجية للطرفين، خاصةً تردد الناتو في تقديم ضمانات إضافية لدول الخليج بشأن الطموح الإيراني الذي يعد مصدر التهديد الرئيس للخليجيين، وهو ما يجعل فكرة الشراكة بين الطرفين تحالفاً بلا سبب.
4- عل الرغم من تبني "الناتو" في قمة لشبونة 2010 مفهوم العمليات خارج المنطقة، فإن ما يعوق تطوير هذا المفهوم ولا يساهم في تبني منهجية موحدة وفعالة للاقتراب تجاه منطقة الخليج هو مجموعة من العوامل، منها الإرهاق العسكري نتيجة للحرب خارج الديار، والمعارضة الشعبية، إضافة لوجهات النظر والسياسات الخارجية المتباعدة داخل الحلف.
5- اختلاف رؤية بعض الدول الخليجية تجاه القضايا الإقليمية، ومثال على ذلك السعودية وقطر بشأن الأحداث في كل من مصر وسوريا، وكذلك الاتفاقيات الدفاعية الثنائية بين دول الخليج، والتي أدت إلى غياب الأولويات الجماعية المشتركة.
مقترحات لتفعيل التعاون
إن المتطلبات الأولية لتعاون أوثق بين دول مجلس التعاون الخليجي و"الناتو" في أمن الطاقة، تتضمن تقوية الإطار متعدد الأطراف وانخراط كل من السعودية وسلطنة عُمان فيه، وإيجاد أرضية مناسبة لتدشين حوار استراتيجي، فضلاً عن بعض المقترحات الأخرى المتضمنة في الدورية، والتي يمكن إيجازها ما يلي:
1- الدعوة لتغيير دور "الناتو" في الخليج القائم على إدراك التهديدات القادمة من تلك المنطقة إلى التصور القائم على التهديدات المشتركة ومواجهتها.
2- إعادة التفكير بشأن منهجية مبادرة إسطنبول وأولوياتها لجعلها أقرب للاهتمامات الأمنية لـ"الناتو" وشركائه أعضاء المبادرة، للمساعدة في بناء نظام أمن إقليمي موحد وفعال لمواجهة التهديدات الناشئة، وهو ما يمكن أن يبدأ من نقاشات واجتماعات على مستوى الخبراء والأكاديميين يستضيفها "الناتو" للحديث بحرية ومن دون قيود دبلوماسية، بشأن بلورة رؤية حول المخاطر والتهديدات المشتركة الناشئة، وتوفير القدرات البحرية اللازمة لمواجهتها، ووضع تصور سياسي عسكري للتدخل في حال تعطل ممرات الملاحة في الخليج، ومناقشة المزج بين وسائل الدفاع الجوي الخليجية وقدرات الناتو على مواجهة أي طوارئ في مضيق هرمز، على أن تعقبها مشاركة المسؤولين الرسميين، وخطوة بخطوة سيتم تجاوز الإطار التقليدي لمبادرة إسطنبول لتحقيق مزيد من التعاون الاستراتيجي في مجال أمن الطاقة.
3- أن يتم عمل إطار مشترك بصيغة ما بين الناتو ودول الخليج ليوفر قدراً مما يسمى "حوار الردع" مع إيران، وأن يلعب دوراً في تفادي التصعيد، حيث لا يوجد نظرياً ما يمنع من انضمام طهران لمبادرة إسطنبول باعتبارها قوة إقليمية كبيرة تستطيع دعم آلية أمن الطاقة وتقويتها في المنطقة، وكذلك فتح حوار معها على مستويات عدة لإيصال رسالة بأن هذه المبادرة ليست حلفاً ضدها.
4- تأمين البنية التحتية لشبكات الطاقة كقضية رئيسية لتعاون الناتو مع دول منطقة الخليج، لأنها تمثل تهديداً مشتركاً للطرفين، على أن يتم توسيع مجالات التعاون لتشمل عدداً من الجوانب السياسية مثل: تعزيز الحوار السياسي المتعدد الأطراف مع دول المنطقة، واستخدام قدرات برنامج "الشراكة من أجل السلام" في التدريب وتبادل الخبرات.
5- من الممكن تأمين مصالح توفير الطاقة عبر الأطلنطي من خلال مقايضة من نوع خاص، حيث تقوم الولايات المتحدة بالتخطيط للطوارئ في منطقة الخليج، وهو ما سيؤدي لانخفاض شديد في الحاجة لتطوير الدور الأوروبي هناك، مقابل قيام الأوروبيين بالتخفيف عن أمريكا في عدد من الواجبات المرتبطة بالأمن الأوروبي، وأن يساهموا مالياً أكثر من مساهمتهم عسكرياً في حماية الخليج، وهو ما يعني القيام بتعاون سياسي متعدد الأطراف يتم تطويره لينفذ بشكل اقتصادي من خلال تقسيم العمل بين الطرفين.
وبدلاً من استنزاف "الناتو" لموارده الضئيلة للانخراط في منطقة الخليج من دون الحصول على أي قيمة مضافة، فمن الأفضل له ترك هذه المهمة للجانب الأمريكي والتركيز على نطاق تأثيره المباشر، مثلما حدث في أوكرانيا، وهو التوجه المنطقي في ظل الاستقطاعات المتتالية في ميزانيات الدفاع للدول الأوروبية، وبالتالي فإن هذا لا يعني عدم وجود تعاون أوروبي - خليجي بقدر ما هو تقسيم للعمل والأدوار بين الولايات المتحدة وأوروبا داخل حلف الناتو وتحقيق الاستثمار الأمثل في الموارد المتاحة.
* عرض موجز لمقالات العدد (9) من دورية ""NATO Energy Security Centre of Excellence، والصادر في يوليو 2014، والذي تضمن المقالات التالية:
- Albert Bininachvili, Re-energizing NATO cooperation with the gulf region.. What role for energy?
- Jean-Loup Samaan, Putting energy security on the agenda of NATO Gulf Partnership.
- Jim Krane, Energizing NATO cooperation with the Gulf monarchies: New opportunities under the old energy-for-security paradigm.
- Steve A. Yetiv and Katerina Oskarsson, Thinking Out of the Box on NATO Out of Area.
- Leila Alieva, Energy security and NATO dilemmas in the Gulf region.