عرض: ياسمين أيمن - باحثة في العلوم السياسية
على الرغم من ميل الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى عودة انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في التحالفات العالمية، والدفاع عن القيم الليبرالية؛ إلا أن تطورات السياسة الداخلية الأمريكية نتيجة للصراع بين الحزبين، وزيادة حدة الخلافات بين الأمريكيين في المناطق الحضرية والريفية، وسياسات الرئيس السابق دونالد ترامب التي عملت على تغذية الشعبوية؛ أفضت إلى تشكّك الجمهور الأمريكي في رؤية بايدن للسياسة الخارجية، وخلقت أمامه العديد من المعوقات التي تعطل أجندته السياسية.
وبهذا الصدد، أوضح مقال منشور في مجلة "الشؤون الخارجية" تحت عنوان "الجبهة الداخلية: لماذا تحتاج السياسة الخارجية الدولية إلى مؤسسة محلية أقوى"، للكاتبين تشارلز كوبشان الذي يعمل كزميل أول في مجلس العلاقات الخارجية وأستاذ للشؤون الدولية في كلية الخدمة الخارجية والإدارة الحكومية في جامعة جورج تاون، وبيتر تروبويتز أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وزميل مشارك في تشاتام هاوس، الضرورة الملحة لإصلاح النظام السياسي الأمريكي الداخلي للنجاح في تنفيذ سياسات خارجية قوية، مفصلًا الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك.
من الداخل إلى الخارج
استهل الكاتبان المقال موضحين أن تشجيع الرئيس السابق ترامب على الأحادية، والانعزالية، والحمائية، واتباع سياسة "أمريكا أولًا"؛ قد ساهم في فوزه في انتخابات عام 2016، وتأييد 74 مليون ناخب له في انتخابات عام 2020؛ حيث قام بإظهار الآثار السلبية للعولمة على المواطنين الأمريكيين، والتي كان من بينها انعدام الأمان الاقتصادي، وتبعًا لذلك بات المواطنون أقل رغبة في الاهتمام بالمشكلات الخارجية؛ إذ أظهرت دراسة استقصائية حديثة صادرة عن مركز بيو للأبحاث أن ما يقرب من نصف الجمهور الأمريكي يعتقد أنه يجب على البلاد أن تولي اهتمامًا أقل للمشاكل الخارجية، وأن تركز أكثر على حل المشكلات الداخلية.
وفي هذا السياق، رأى المقال أن استعادة الدعم الشعبي يتطلب معالجة العوامل التي ساهمت في دفعه لنبذ الانخراط العالمي، مشيرًا إلى ضرورة إصلاح الداخل الأمريكي عبر الاستثمار في البنية التحتية والرعاية الصحية، وتوفير فرص عمل تتماشى مع أهداف مكافحة التغيرات المناخية؛ وهو ما يتطلب تبني بايدن نهج سياسات "من الداخل إلى الخارج" يقوم على الربط بين المصالح الداخلية والأهداف الخارجية، ويساعد على بناء ظهير شعبي واسع وطويل الأمد لسياسات بايدن، ومن ثمّ نبذ أي سياسات مستقبلية تتماشى مع سياسات ترامب.
أكّد المقال أهمية حشد الدعم الداخلي للحفاظ على استمرار السياسات الخارجية، وضمان عدم تفككها بتغيير الرئيس، ضاربًا المثال بتأييد الكونجرس الأمريكي للرئيس وودرو ويلسون بأغلبية ساحقة في عام 1917، في عدة أمور تشمل التخلي عن مبدأ الحياد ودخول الحرب العالمية الأولى للرد على الاستفزازات الألمانية، إلا أنه عقب هزيمة ألمانيا، فشل ويلسون في تأمين موافقة مجلس الشيوخ على مشاركة الولايات المتحدة في عصبة الأمم نتيجة للخلافات الحزبية، وبذلك انهارت رؤيته الخارجية الخاصة بدعم "الأممية" جراء عدم قدرته على حشد الدعم الداخلي لسياساته الخارجية.
وبالمثل فإن شعار ترامب "أمريكا أولًا" فقد جاذبيته مع مرور الوقت، خاصة بين المعتدلين السياسيين؛ حيث أفضت سياسات ترامب التجارية إلى الإضرار بالعمال الأمريكيين، ولم تساهم برامجه الخارجية في كبح جماح البرامج النووية في إيران وكوريا الشمالية؛ مما ساهم في انفضاض الكثير من مؤيديه من حوله وهزيمته بانتخابات العام الماضي.
نموذج روزفلت الناجح
نجح الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في الحفاظ على التوازن بين السياسة الداخلية والخارجية عبر تأكيده على الحفاظ على القيم والمصالح الأمريكية؛ إذ عمل على بناء تحالف متين بين الحزبين، وحاز على تأييد المثاليين والواقعيين، وحقق أرباحًا واسعة النطاق للأمريكيين أقنعتهم بأهمية الانخراط مع العالم لتعزيز الازدهار الاقتصادي، ودعم الأمن القومي للبلاد، كما رسَّخ "الأممية الليبرالية" باعتبارها بوصلة توجيه الحكم في الولايات المتحدة خلال القرن العشرين؛ مما ساهم في إخراج الولايات المتحدة من العزلة التي كبَّلت سياستها الخارجية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين.
وبهذا الصدد، أشار المقال إلى رغبة الرئيس بايدن في أن يحذو حذو روزفلت، مؤكدًا على وجود فوارق بين الرئيسين؛ حيث تمتع الديمقراطيون بأغلبية ساحقة في الكونجرس الأمريكي عندما تولى روزفلت منصبه في عام 1933. في المقابل، يتمتع الديمقراطيون حاليًّا بهوامش ديمقراطية ضعيفة، وكذلك فالدعم الشعبي الذي حاز عليه روزفلت جاء في أعقاب ظهور آثار سياساته؛ إلا أن خطط بايدن المحلية الطموحة لم تظهر آثارها بعد، فضلًا عن تغير طبيعة الولايات المتحدة التي باتت أكثر انقسامًا على المستوى السياسي، وأقل تكافؤًا على المستوى الاقتصادي، وأكثر تنوعًا من الناحية الديموغرافية، وكلها عقبات وتحديات جديدة تجعل من المستحيل أن يحوز حزب الأغلبية على دعم حزب الأقلية في أغلب التشريعات، مما يضع المزيد من العراقيل أمام بايدن، ويزيد من حاجته لتغيير النظام البيئي السياسي الأمريكي.
إشراك أكبر للعمال الأمريكيين
سلّط المقال الضوء على تركيز السياسة الخارجية الأمريكية لسنوات على خدمة مصالح النخبة على حساب العمال، وهو ما ساهم في انعدام الثقة الشعبية في جدوى السياسات الخارجية التي ينفذها الحكام، سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين. فعلى سبيل المثال، لم تراعِ بنود اتفاقية التجارة التي أبرمها الرئيس الأسبق "باراك أوباما" والمعروفة باسم "اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ"، حقوق العمال ذوي الياقات الزرقاء بالولايات المتحدة. فقد سمحت بنظام تسوية المنازعات الذي يدعم مصالح الشركات على حساب العمال، كما سمحت الاتفاقية للصين بالتمتع بصادرات معفاة من الرسوم الجمركية، وهو الأمر الذي انتقده ترامب خلال حملته الانتخابية في عام 2016.
وبهذا الصدد، نوّه المقال إلى ضرورة سعي بايدن لخدمة مصالح الأسر العاملة عبر جعل وزير العمل الأمريكي عضوًا دائمًا في مجلس الأمن القومي، لإيصال صوت العمال الأمريكيين والمزارعين إلى البيت الأبيض فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. كما أشار إلى أهمية خلق مناصب رفيعة المستوى في مجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، ووزارة الدفاع، ومكتب الممثل التجاري للولايات المتحدة، ووكالات السياسة الخارجية الأخرى لضمان مراعاة احتياجات العمال الأمريكيين، هذا إلى جانب تعميق الروابط المؤسسية بين مجلس الأمن القومي والمكاتب التي تتعامل مع الجبهة الداخلية، مثل: المجلس الاقتصادي الوطني، ومجلس السياسة الداخلية للولايات المتحدة.
أيضًا، هناك حاجة إلى اتّباع نهج جديد في التجارة يتمثل في تدارك الآثار السلبية المتمثلة في انخفاض الأجور وفقدان الوظائف الناجمة عن الصفقات التجارية التي لا تراعي العمال، فضلًا عن الحاجة إلى الاهتمام برفع كفاءة العمال وتدريبهم على التطورات التكنولوجية، وإجراء استثمارات عامة في الرعاية الصحية والتعليم والخدمات الحكومية، ومعالجة الآثار الاجتماعية السلبية لفقدان الوظائف بما في ذلك الركود الاقتصادي، وارتفاع معدلات الجريمة والعنف، وانخفاض أعداد السكان، وزيادة نسب تعاطي المخدرات. وكذا، فهناك حاجة لاستخدام المنتديات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية لضمان تحقيق تجارة أكثر عدلًا.
هذا، ومن المتوقع أن تساهم تلك الإصلاحات في تحسين الوضع الداخلي للعمال، واكتساب التأييد الشعبي للسياسات الخارجية الراهنة، ومن ثمّ لن يرى الرئيس المقبل -سواء كان جمهوريًا أو ديمقراطيًا- أي فائدة في تغيير السياسات التي اتبعها بايدن، والتي حققت مصالح العمال الأمريكيين.
تقليل الالتزامات الخارجية
يؤكد المقال على ضرورة تخفيف التزامات الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط عبر تقليص تواجدها العسكري، هذا إلى جانب العمل على تحقيق مجموعة من الأهداف التي تتمثل في التعاون مع الحلفاء للدفاع عن الديمقراطية، وتعزيز الاستقرار في آسيا وأوروبا، والعمل على مكافحة التغيرات المناخية والتكيف معها، فضلًا عن الاهتمام بتعزيز الصحة العالمية، والحفاظ على تفوق الولايات المتحدة في الابتكار التكنولوجي.
ومن الجدير بالذكر أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الأمريكيين يدعمون مغادرة القوات الأمريكية لأفغانستان والعراق؛ إلا أن هناك ميلًا واسعًا لدعم الحلفاء في آسيا وأوروبا؛ حيث يدعم الناخبون من الحزبين حلف الناتو، ويرون أن هناك حاجة ماسة لاتخاذ موقف حازم تجاه الصين، وإظهار الالتزام الأمريكي بتأمين تايوان، كما أنهم يعتقدون أن هناك أهمية للاهتمام بالصحة العالمية ومعالجة التغيرات المناخية.
وفي ضوء ذلك، شدَّد المقال على ضرورة قيام بايدن بتنفيذ استثمارات كبيرة في الاقتصاد المحلي لتحسين مستويات المعيشة، والقضاء على اللا مساواة، واستعادة العقد الاجتماعي مع المواطنين عبر حشد دعمهم لتوجهاته الخارجية.
إصلاح مجلس الشيوخ
يشير المقال إلى إن هناك حاجة لإصلاح قواعد التعطيل أو المماطلة داخل مجلس الشيوخ الأمريكي لتمكين بايدن من تنفيذ أجندته الطموحة؛ إذ تسمح تلك القواعد بتعطيل عملية تمرير القوانين ما لم يصّوت عليها 60 صوتًا داخل مجلس الشيوخ.
ولذلك، أوضح المقال أنه بالنظر إلى سيطرة الديمقراطيين على أغلبية المجلس حاليًّا، فمن الممكن لهم السير على درب الجمهوريين حينما ألغوا قواعد التعطيل في عام 2017 لتثبيت مرشحي المحكمة العليا، مؤكدًا أن إصلاح تلك القواعد لتمرير المشاريع الوطنية سيساعد على تحسين حيوات الأمريكيين، وإصلاح البنية التحتية الأمريكية، وتحقيق نمو اقتصادي، وزيادة نسبة المشاركة المدنية، وسد الفجوة بين المناطق الريفية والحضرية التي يتم استخدامها في تعميق الاستقطاب السياسي.
تطبيق القيم الأمريكية
أوضح المقال أن سياسات الفصل والتمييز العنصري التي سادت الولايات المتحدة خلال فترة الخمسينيات أدت إلى تآكل مصداقيتها بصفتها مدافعة عن الحقوق والحريات، كما أن حقبة ترامب قد ساهمت في الإضرار بدرجة أكبر بالسمعة الأخلاقية الأمريكية؛ حيث عمل ترامب على تغذية التوترات العرقية، ومثَّل رفضه لنتائج انتخابات عام 2020 اعتداءً على مؤسسات وقواعد الديمقراطية، كما ساهم هجوم الكابيتول يوم 6 يناير في الإضرار بسمعة الولايات المتحدة عند الحلفاء الأجانب.
وفي ضوء ما سبق ذكره، سيكون على الرئيس بايدن إصلاح الأوضاع السياسية على المستوى الداخلي أولًا في حال رغب في تنفيذ طموحاته الخارجية، ولعل اقتراحه الخاص بإنشاء لجنة مستقلة مكونة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي للتحقيق في أسباب الهجوم على الكابيتول، هو خطوة جيدة في هذا السبيل. ولكن إلى جانب ما سبق ذكره، فهناك حاجة لأن تقوم الولايات المتحدة بمعالجة نظامها الانتخابي غير التمثيلي، عبر تمرير "مشروع قانون من أجل الشعب" و"مشروع قانون جون لويس للنهوض بحقوق التصويت" اللذين سيساهمان في التغلب على القيود التي تمنع الأقليات وكبار السن والمواطنين المعاقبين من الوصول إلى التصويت، كما سيمنعان المشرعين من تعديل الدوائر الانتخابية بطريقة تقلل من تمثيل السكان غير البيض.
وأخيرًا، فهناك حاجة إلى إصلاح الطريقة التي يستخدمها الناخبون لاختيار ممثليهم عن كل ولاية؛ فبدلًا من إجراء انتخابات تمهيدية في الحزب يتم على أساسها تأهل المرشحين لانتخابات أولية تحرم المعتدلين من السباق الانتخابي، سيتم الشروع بانتخابات أولية مفتوحة تسمح بمنافسة نزيهة بين المرشحين مع إلغاء الانتخابات التمهيدية داخل الحزب.
وختامًا، أكّد المقال أهمية الاحتذاء بنموذج روزفلت في السياسة الخارجية، والذي نجح في قراءة المشهد الجيوسياسي العالمي، وعقد توازنات بين تطلعات واحتياجات المواطنين في الداخل وبين المصالح الأمريكية في الخارج، كما أنه تجنب إثارة غضب المواطنين، ومن ثمّ نجح في اكتساب دعم شعبي ونخبوي لأجندته الخارجية، وهذا ما يجب على بايدن فعله، إذ يجب عليه الاهتمام بمصالح الأمريكيين العاديين، ومعالجة الممارسات السياسية التي تسمح باتساع حدة الاستقطاب السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، وجعل مؤسسات الدولة أكثر شمولًا من الناحية الاقتصادية.
النص الأصلي:
Charles A. Kupchan and Peter L. Trubowitz, "The Home Front: Why an Internationalist Foreign Policy Needs a Stronger Domestic Foundation", Foreign Affairs, May 2021.