يمر الاقتصاد السوداني في المرحلة الراهنة بظروف حساسة للغاية، في ظل تدهور معظم مؤشراته على المستوى الكلي، والناتجة في الأساس عن التطورات الاستثنائية التي مرت بها البلاد، على مدار السنوات الماضية، ولاسيما منذ انفصال جنوب السودان، ومن ثم الاضطرابات السياسية والأمنية التي واجهتها الدولة بعد سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، كما أن الظروف التي خلّفتها أزمة كورونا على البلاد كان ومازال لها نصيبها في الضغط على موارد الدولة، وإضعاف اقتصادها أيضاً.
ونتيجة لهذه الظروف المتزامنة والمعقدة، فقد تعرض الاقتصاد لفقدان الكثير من مصادر الدخل، بما في ذلك معظم الإيرادات النفطية، وإيرادات التصدير، وكذلك تحويلات العاملين في الخارج، بجانب إيرادات قطاعي السياحة والاستثمار الأجنبي، وهو ما وضع الحكومة أمام معضلة كبيرة، وقلّص من الخيارات المتاحة أمامها لمواجهة ذلك الواقع المعقد.
الديون المحلية:
أدى تراجع الإيرادات إلى ارتفاع عجز الموازنة بشكل متسارع خلال السنوات الأخيرة، فبعد أن تحولت الموازنة من الفائض بنحو 0.1% من الناتج في عام 2010، إلى العجز بنحو 2.3% في عام 2011، فقد أخذ العجز في الارتفاع تدريجياً، ليصل مستواه إلى نحو 10.8% في عام 2019. وأمام هذا الوضع لم تجد الحكومة سوى اللجوء إلى الاستدانة من أجل تمويل عجز الموازنة، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع المديونية الحكومية المحلية من مستوى 74% من الناتج في عام 2010 إلى مستوى 262% في عام 2020.
ومن شأن ارتفاع الديون المحلية إلى هذا المستوى أن يضع السودان في المرتبة الأولى عالمياً في مؤشر نسبة الدين المحلي إلى الناتج. وما يزيد الأمر صعوبة أيضاً هو أن القيمة المطلقة للدين المحلي ارتفعت من ما قيمته 49 مليار دولار في عام 2010، إلى ما قيمته 90 مليار دولار في عام 2020، أى أنها زادت بقيمة تبلغ 41 مليار دولار، وهذه الزيادة تتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، الذي بلغ 34.4 مليار دولار بنهاية عام 2020، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. وتعكس هذه المؤشرات مدى تردي الأوضاع المالية في السودان خلال السنوات الماضية.
الديون الخارجية:
لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للديون الخارجية للسودان، حيث أن ضعف الموارد المحلية، وتراجع إيرادات التصدير والسياحة وكذلك الاستثمار الأجنبي وتحويلات العاملين في الخارج، كل ذلك أدى لتدهور إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، ما تسبب في اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، من أجل تعويض ذلك النقص، ولضرورة توافر حد أدنى من السيولة الأجنبية، كآلية لتمويل احتياجات الاستيراد، وكذلك تمويل سياسات المصرف المركزي للدفاع عن قيمة الجنيه، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الديون الخارجية من نحو 37.8 مليار دولار في عام 2010 إلى نحو 50 مليار دولار في عام 2020، وبزيادة مطلقة تبلغ 12.2 مليار دولار، وبنسبة زيادة تصل إلى 24.4%.
تحرك جديد:
تسعى الحكومة للاستفادة من "مبادرة الدول المثقلة بالديون"، التي يتبناها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومجموعة العشرين، والتي أُقِرت في الأساس في عام 2020، بهدف معالجة ديون الدول الفقيرة، لتمكينها من مواجهة الظروف الاقتصادية السلبية الناتجة عن جائحة كورونا. وقد اجتمع المجلسان التنفيذيان للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مارس الماضي، للنظر في أهلية السودان للإعفاء من الديون بموجب المبادرة. وقد أشاد المجلسان بالتزام السلطات السودانية المستمر بالإصلاحات الاقتصادية والمؤسسية، بما يجعل السودان مؤهلة للحصول على المساعدة بموجب المبادرة بناءً على التقييم الأولي.
وبرغم أهمية هذه المبادرة، ليس للسودان بمفردها، ولكن لجميع الدول الفقيرة على المستوى العالمي، فإنه ليس من المتوقع أن تحقق للحكومة ما ترنو إليه، إذ بينما تقتصر هذه المبادرة على تأجيل مستحقات الديون على الدول الفقيرة، إلى فترة زمنية تمكنها من مواجهة تداعيات جائحة كورونا، فإن الحكومة تسعى إلى إقناع الدائنين بإسقاط جميع الديون المستحقة عليها، والتي تناهز الخمسين مليار دولار، وبرغم أن هناك من الدائنين من لديهم الاستعداد لإسقاط بعض من ديونهم المستحقة على السودان، مثل المملكة العربية السعودية، لكن لا يبدو أن إسقاط كامل الديون سيكون أمراً ممكناً.
خيارات أخرى:
في حال تمكن الحكومة من إقناع دائنيها بخفض بعض من ديونهم المستحقة عليها، بجانب إعادة جدولة الديون المتبقية لفترة زمنية أطول، وبشروط ميسرة، فإن ذلك يفتح أمامها المجال لتوسيع الخيارات المتاحة، لمعالجة أزمتها المالية الراهنة. ففي هذه الحالة، من المتوقع ألا يكون هناك مستحقات مديونية قبل نهاية عام 2022، وهو الأمد الزمني المتفق عليه بين الدول الأعضاء في "مبادرة الدول المثقلة بالديون"، على نحو سيمكن الحكومة من إعادة توجيه بعض الموارد المالية، ولاسيما من النقد الأجنبي لمعالجة الأزمات الملحة، والتي على رأسها القيمة المتدنية للجنيه، وكذلك توفير أرصدة مالية مقبولة للاقتصاد تساعده على تأمين احتياجات الاستيراد، وتمويل الأنشطة الرئيسية ذات الطابع الملح أيضاً.
كما أن تنازل الدائنين عن بعض الديون المستحقة لهم على السودان، سيمكن الاقتصاد من تخفيف أعباء الديون، وتخفيض مستويات نسبة الديون إلى الناتج، سواءً المحلية أو الخارجية، وهو ما سيعزز مالية الاقتصاد، ويساعد على زيادة الثقة الدولية في الجدارة الائتمانية السيادية للبلاد. وبالطبع، فإن تزامن ذلك مع قيام الحكومة ببعض الإصلاحات الاقتصادية، سيعزز قدرتها على الحصول على تمويل إضافي من صندوق النقد الدولي، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك مفاوضات جارية بين الطرفين بهذا الشأن في الوقت الراهن.
وفي الختام، فإن الأزمة المالية السودانية التي تراكمت وتعقدت على مدى سنوات، وعقود، تبدو في حاجة إلى رؤية شاملة للإصلاح الاقتصادي في البلاد، لا تقتصر فقط على معالجة جوانب القصور الآنية والقائمة، بل تعيد النظر في مجمل المشهد الاقتصادي، لتعالج عيوبه الهيكلية، وتضع له أسساً جديد تقوم على التنوع، وتعزز قدراته على توليد مصادر الدخل، على المستوى الكلي للمالية العامة للدولة، وعلى المستوى الفردي للسودانيين أنفسهم، بما يضمن له القدرة على الاستقرار والاستدامة على المدى البعيد.