لم تنجح جهود العديد من القوى الإقليمية والدولية في الوصول إلى تسوية للأزمة اللبنانية، على نحو بدا جلياً في استمرار العقبات التي ما زالت تحول دون تشكيل حكومة برئاسة الرئيس المُكلف سعد الحريري. وتعد فرنسا إحدى القوى الدولية التي تحاول تجاوز الإشكاليات التي تواجه عملية تشكيل الحكومة الجديدة، إلا أن مساعيها لم تحقق نتائج بارزة حتى الآن، وذلك لاعتبارات عديدة تتصل بتباين رؤى ومواقف القوى السياسية حتى تلك التي تنتمي إلى تيار واحد، وتزايد تأثير بعض الأطراف الخارجية التي تربط تطورات المشهد السياسي في الداخل بمتغيرات إقليمية ودولية، على غرار التفاهمات التي تجري حالياً في فيينا بين إيران ومجموعة "4+1" بمشاركة أمريكية غير مباشرة، من أجل الوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن المواجهات التي اندلعت بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية لم تلق بتداعياتها على المشهد السياسي في لبنان، حيث لم تحدث ارتدادات بارزة لتلك المواجهات باستثناء الاحتجاجات التي تشهدها مناطق الجنوب، وإطلاق بعض الصواريخ التي لم يكن لها تداعيات على الأرض في النهاية. ومن هنا، فإن اتجاهات عديدة تشير إلى أن ذلك ربما يرتبط بحسابات حزب الله ومحاولاته تجنب التورط في تصعيد أو أزمة جديدة تضاف إلى الأزمات والضغوط التي يتعرض لها بسبب انخراطه في الصراع السوري ودوره في عرقلة تشكيل الحكومة. ولذا، فإن عدم تدهور الوضع على الحدود بين لبنان وإسرائيل يمكن أن يساعد، في رؤية تلك الاتجاهات، على تعزيز الجهود التي تبذل لتسوية أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية.
رسائل مباشرة:
في خضم هذه التطورات، قام وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بزيارة لبنان خلال يومي 6 و7 مايو الجاري، حيث حرص خلال الزيارة على توجيه رسائل عديدة، تركزت غالبيتها على انتقاد النخبة السياسية لعدم نجاحها في تشكيل حكومة جديدة بالرغم من تصاعد حدة الضغوط التي فرضها استمرار الأزمة السياسية، فضلاً عن التلويح مجدداً بخيار العقوبات التي يمكن أن تفرض على ما أسماه المسئولون الفرنسيون بـ"المعرقلين لعملية التشكيل" إلى جانب المتورطين في قضايا فساد كان لها دور في تأجيج الأزمة الاقتصادية خلال الفترة الماضية.
تغيير الأدوار:
يبدو من مجمل التحركات التي تقوم بها فرنسا، أنها تسعى إلى إجراء تغيير في سياستها إزاء التعامل مع تطورات المشهد السياسي في لبنان، حيث تتجه باريس تدريجياً نحو الاعتماد على ما تطلق عليه اتجاهات عديدة مصطلح "قوى المعارضة غير التقليدية"، بسبب تصاعد حدة استياءها من إصرار القوى السياسية المختلفة على عرقلة عملية التشكيل أو محاولة تنفيذ مقاربتها الخاصة بتلك العملية في ضوء حساباتها الضيقة التي ترتبط بالتنافس مع بعض القوى الأخرى، وهو ما يبدو جلياً في المواقف التي تتبناها قوى مثل القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وتيار المردة والحزب التقدمي الاشتراكي، على نحو دفع وزير الخارجية الفرنسي إلى إلقاء الضوء على "العواقب" التي يفرضها تشابك وتعقد حسابات تلك القوى على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن لودريان كشف أثناء اجتماعه بـما يسمى بـ"قوى التغيير"، أن باريس سوف تركز مساعداتها على الجمعيات والمؤسسات غير الرسمية، باعتبار أن ذلك يمثل إحدى الآليات التي سوف تستخدمها، على غرار القوى الدولية الأخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، في ممارسة ضغوط قوية على النخبة السياسية من أجل تقليص مستوى الخلافات العالقة فيما بينها وتسهيل عملية تشكيل الحكومة حتى تتولى التعامل مع الأزمات المختلفة التي تواجه لبنان في المرحلة الحالية.
ويعني ذلك في المقام الأول، أن قوى المجتمع المدني سوف تتحول إلى فاعل رئيسي ورقم مهم في التفاعلات التي تجري على الساحة السياسية اللبنانية خلال المرحلة القادمة، خاصة أن استمرار الخلافات بين القوى السياسية بشكل يقلص من احتمالات تشكيل الحكومة يفرض تداعيات سلبية مباشرة على شعبيتها في الشارع اللبناني، ويضعف من موقعها داخل خريطة القوى السياسية، في مقابل اكتساب الأولى مزيداً من المصداقية على مستوى الشارع.
عقبات قائمة:
لكن رغم ذلك، فإن ثمة عقبات عديدة تواجه التحركات الفرنسية في لبنان. يتمثل أولها، في تصاعد حدة بعض الأزمات الأخرى التي اندلعت في المنطقة، على غرار المواجهات التي تجري حالياً بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، على نحو وجه اهتمام المجتمع الدولي نحو الجهود التي تبذل من أجل احتواء تلك المواجهات والوصول إلى هدنة جديدة. ويتعلق ثانيها، باستمرار تأثير ما يسمى بـ"الدولة العميقة" في لبنان، التي تقوم على أساس طائفي، وتسعى من خلالها قوى عديدة إلى تعزيز مصالحها السياسية والمناطقية حتى لو كان ذلك على حساب استمرار الأزمات المختلفة التي تواجهها لبنان في الوقت الحالي.
وينصرف ثالثها، إلى ارتباط تطورات الأزمة اللبنانية بمتغيرات دولية أخرى، على غرار محاولات الوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "4+1" التي تعقد اجتماعات مستمرة في فيينا وتشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مباشر. إذ لم تظهر بعد مؤشرات توحي بإمكانية الوصول إلى تلك التسوية أو تقليص حدة الخلافات بين واشنطن وطهران، على نحو قد يدفع الأخيرة إلى عدم الضغط على حلفائها لدعم الجهود التي تبذل من أجل تسوية الأزمة عبر تشكيل الحكومة الجديدة.
مع ذلك، فإن الجهود الفرنسية يبدو أنها سوف تتواصل خلال المرحلة القادمة، سواء عبر التحركات الدبلوماسية أو من خلال التهديد بفرض عقوبات جديدة، على أساس أن ذلك يمثل المدخل الرئيسي الذي يمكن من خلاله، في رؤية باريس، إتمام عملية تشكيل الحكومة، والتفرغ في مرحلة لاحقة للتعامل مع الأزمات التي تواجهها لبنان على المستويات المختلفة.