عرض: د. رنا أبو عمرة - دكتوراه في العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة
نشر مركز أبحاث تشاتام هاوس (المعهد الملكي للشؤون الدولية) ورقة بحثية ضمن إصدارات برنامج الأمن الدولي بعنوان "الطائرات المسلحة بدون طيار في أوروبا.. ضمان الشفافية والمساءلة"، أعدها جيسيكا دورسي، أستاذ مساعد في القانون الدولي والأوروبي بجامعة أوتريخت، ونيلزا أمارال، مدير مشروع برنامج الأمن الدولي بالمركز. وتعد الورقة نتاج مشروع بحثي حول الآثار السياسية لاستخدام الطائرات المسلحة بدون طيار في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، والذي تبنّته شبكة مؤسسات المجتمع المنفتح، وتم طرح المشروع لجولات من النقاشات في ورش عمل ونماذج محاكاة تم عقدها في المركز منذ عام 2019.
تأتي الورقة في ظل انتشار وتطور استخدام الطائرات المسلحة بدون طيار بشكل متسارع في ظل غياب إطار قانوني دولي منظِّم لاستخداماتها، وذلك على خلفية الجدل المتنامي والمخاوف المتزايدة من انتشار استخدام تلك الطائرات في أغراض عسكرية أو تنفيذ عمليات اغتيال خارج مناطق الحروب والصراعات التقليدية وما يرتبط بذلك من تهديد للقيم الديمقراطية، مثل غياب المساءلة وسيادة القانون. فضلًا عن تزايد الخسائر المدنية الناجمة عن هجمات تلك الطائرات، بجانب انتهاك الإطار القانوني الدولي المنظم للعمليات العسكرية ككل.
مخاطر متزايدة:
على الرغم مما يُنسب للطائرات بدون طيار من دقة عالية في تحديد أهدافها على أرض الواقع، إلا أنها لا تتميز بالدرجة ذاتها من الدقة عند استخدام الأسلحة لاستهداف هذا الهدف المحدد، وتزيد مخاطر استخدام هذه الطائرات في المناطق التي تشهد عمليات مكافحة إرهاب أو قمع تمرد؛ ذلك لأن المستهدفين لا يمكن تمييزهم عن المدنيين نظرًا لعدم ارتدائهم الزي العسكري كما هو الحال في القوات المسلحة النظامية. ولهذا فإنه في كثير من الأحيان يتم إصابة مدنيين دون الأفراد الذين تستهدفهم تلك الطائرات لعدم القدرة على فهم الأطر والسياقات المحلية والثقافية، وهذا حدث بالفعل في عام 2010 في ولاية أروزجان في أفغانستان مما يجعل لهذه الطائرات رصيدًا غير قليل في إحداث خسائر مدنية في الأرواح على الأرض.
وفي الوقت ذاته لا يتم محاسبة المسؤولين عن الخسائر في الأرواح للافتقار لإطار قانوني منظم لاستخدام هذه الطائرات. وتشير الأبحاث إلى أنه في باكستان لقي 874 شخصًا حتفه من أجل استهداف 24 شخصًا. كما تشير الإحصاءات الخاصة باستخدام الطائرات بدون طيار المسلحة من قبل الولايات المتحدة في أفغانستان خلال عامي 2010 و2011 إلى أنها تسببت في إحداث خسائر مدنية تقدر بعشرة أضعاف ما تُحدثه الهجمات العسكرية التقليدية. وتعزو بعض التقارير الأممية هذه الخسائر إلى تقنية تعدد الضربات التي تستخدمها هذه الطائرات، مما يوسع حلقة الخسائر بما يتجاوز البؤرة المستهدفة، مع الأخذ في الاعتبار أن أرقام الضحايا المدنيين عادةً ما يكون مصدرها منظمات المجتمع المدني والتي تأتي مختلفة كثيرًا عن الأرقام المعلنة من قبل الحكومات.
ويزيد من الأزمة غياب البيانات الصحيحة نتيجة عدم قدرة المنظمات في أغلب الأحيان على الوصول إلى المنطقة التي شهدت الضربة واعتمادها على المصادر الإخبارية، ولذلك تحتاج الحكومات إلى بذل جهود أكبر لإحصاء حجم الخسائر المدنية بشكل أكثر تطورًا بغية تحديد أطر المساءلة المطلوبة.
ولا تقتصر الإشكالات المرتبطة بانتشار استخدام الطائرات بدون طيار المسلحة على تحدي القيم الديمقراطية وإعاقة إنفاذها، أو بحجم الخسائر المدنية؛ ولكنها تمتد إلى تغير طبيعة الحرب نفسها مما يجعل استخدام القوة أقل تكلفة نتيجة انخفاض التكاليف المادية والخسائر في صفوف الطيارين، فضلًا عن عدم القدرة على الفصل القانوني بين هذه العمليات وعمليات مكافحة الإرهاب والتي يتم من خلالها استخدام الطائرات المسلحة بدون طيار في تنفيذ عمليات قتل والتي تحدث بشكل متزايد من خلال الوسائل العسكرية، وهذا ما يعني أن عمليات مكافحة الإرهاب بهذا الشكل تجعل من الصعب التمييز بين أوقات الحروب وأوقات السلام، وهو ما يعني أن استخدام هذه الطائرات بدون ضوابط يرسم طريقًا جديدًا يبتعد عن قواعد ومبادئ القانون الدولي المنظمة للأنشطة العسكرية.
المعضلة الديمقراطية:
تنطلق رؤية الورقة البحثية من ضرورة العمل على الحد من انتشار الطائرات المسيرة المسلحة في دول أوروبا لما تمثله هذه الطائرات من خطر في تسهيل العمليات العسكرية التي تتعارض مع قواعد القانون الدولي وبما يقوض القيم الديمقراطية، ويرتبط بذلك الشكوك التي يثيرها عدم إتاحة الحكومات لمعلومات بشأن استخداماتها للطائرات المسلحة بدون طيار بما يهدد مبادئ الشفافية والمساءلة الديمقراطية، وهو ما يلقي بظلاله على قدرة الدول الأوروبية بشكل خاص على حماية سيادة القانون في ظل هذه الاستخدامات لتلك الطائرات، وكذلك على شرعية العمليات التي تقوم بها من الأساس، سواء كان من يقوم بها القوات المسلحة أو الأفراد أو جهات غير عسكرية داخل الدول مثل أجهزة الاستخبارات أو حتى التحالفات الدولية العسكرية.
وتسوق الورقة البحثية الضربة السرية التي قام بها سلاح الجو الملكي في عام 2015 بطائرة بدون طيار في سوريا لقتل جهاديين بريطانيين كمثال، فقد اعتبرت الحكومة أن ذلك التحرك يأتي في إطار الدفاع عن النفس في وجه المخططات الإرهابية، بينما لم تكن الحكومة البريطانية قد حصلت على موافقة البرلمان للقيام بضربات جوية في إطار قوات التحالف ضد تنظيم داعش، مما جعل هذه الضربة محل جدل كبير باعتبارها سابقة أوروبية آنذاك.
وتذهب الورقة إلى أنه بشكل عام من المستبعد أن تقوم دول الاتحاد الأوروبي بعمليات قتل باستخدام الطائرات بدون طيار المسلحة خارج إطار الحرب المعلنة بالشكل المتساهل الذي قامت به الولايات المتحدة؛ إلا أن هذا لا يعني أن أوروبا بمعزل عن التورط في حوادث هذه الطائرات؛ فهناك معلومات تشير إلى استخدام الولايات المتحدة لقاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا كمحطة تُمكّن مشغلي الطائرات بدون طيار في الولايات المتحدة من التواصل مع جهاز التحكم عن بعد لتسيير طائرات في دول مثل اليمن والصومال وباكستان. وعلى ذلك أصبح من الضروري إيجاد إطار قانوني يسمح لألمانيا بضمان التزام الولايات المتحدة بالقانون الدولي فيما يخص أنشطتها داخل القاعدة الجوية.
الرؤية القانونية المقترحة:
تشير الورقة إلى أن على الاتحاد الأوروبي مسؤولية دعم نظام دولي قائم على القانون ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والقواعد المنظِّمة لسلوك أطرافه بما يحفظ السلام والأمن الدوليين، خاصة في ظل عدم اكتراث الدول التي تستخدم هذه الطائرات بالآثار الناجمة عنها.
وبغية إيجاد حلول للمعضلات والمخاوف التي يثيرها استخدام هذه الطائرات، تشير الورقة إلى أن أمام الدول الأوروبية فرصة دبلوماسية كبيرة عليها اغتنامها انطلاقًا من منطلق المصلحة السياسية في دعم القيم الديمقراطية وصيانتها على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وتتمثل هذه الفرصة في لعب دور دولي من أجل الحد من انتشار الطائرات بدون طيار المسلحة وذلك من خلال صياغة إطار قيمي محدد لاستخدامات تلك الطائرات في المستقبل، ووضع قواعد منظمة لهذه الاستخدامات لا تتناقض والقيم الديمقراطية المتمثلة في الشفافية والمساءلة.
ولذلك كان على دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة العمل بشكل جماعي لتمهيد السبيل لتحقيق مثل هذا الهدف من خلال البدء في إطلاق نداءات طويلة الأمد لإتاحة المزيد من الشفافية والمساءلة فيما يخص عمليات الطائرات بدون طيار المسلحة، والبدء في الضغط لإحداث تغيير إيجابي من خلال تضمين الأجندة السياسية للدول الأوروبية قضية سبل معالجة الآثار المترتبة على استخدام هذه الطائرات.
وفي هذا الصدد، تقترح الورقة تبني وثيقة توجيهية بشأن ممارسات تعكس تفاهمًا مشتركًا وتحدد معايير واضحة من أجل تعزيز الشفافية وإتاحة المساءلة بغية الوصول إلى إطار قانوني أقوى يتمثل في إقرار وثيقة ملزمة في مرحلة متقدمة، إلا أن مثل هذه الخطوات تتطلب قدرًا أكبر من الوحدة والالتزام من دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعتبره الكثيرون من الصعب تحققه حاليًا.
وفيما يخص الأطراف التي تشملها هذه الرؤية؛ تشير الورقة إلى أن مثل هذه الجهود لا يمكن أن تستثني المملكة المتحدة رغم خروجها من الاتحاد الأوروبي، فهي ما زالت دولة تشترك مع الدول الأوروبية في دفاعها عن المنظومة القيمية الديمقراطية، وإعلاء هذه القيم كمصلحة سياسية مشتركة على الساحة الدولية. كما تشير وثيقة المراجعة المتكاملة للسياسة الخارجية البريطانية التي تم إطلاقها في مارس 2021 إلى التطلع إلى قيام المملكة بدور حيوي أكبر على الساحة الدولية بما يشجع أن تكون هذه القضية إحدى ساحات إحياء الدور البريطاني المأمول، كما أنها الدولة الرابعة بجانب الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا، وأوكرانيا، وصربيا) التي أعلنت عن امتلاكها طائرات بدون طيار ذات قدرات مسلحة، بما لا يسمح بتجاوزها، وبما يعني بداية ظهور قوى للطائرات بدون الطيار المسلحة في المنطقة الأوروبية.
وتشير الورقة إلى أن الجهد الأساسي للدفع بهذا الإطار، وإن كان ملقى على عاتق دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، إلا أنه لا يعني عدم انفتاحه على انضمام دول أخرى لها نفس التوجهات ولديها نفس الرؤية.
الرؤية القيمية المقترحة:
تُركز الورقةُ على أن العمل على ضمان الشفافية والمساءلة فيما يخص عمليات الطائرات المسيرة المسلحة من شأنها تأسيس شرعية ومصداقية هذه العمليات العسكرية بما يُعزز الديمقراطية وحكم القانون على كافة المستويات. ولعلّ الشفافية من هذا المنطلق تُمثل بالنسبة للقوات المسلحة أحد الأصول التي يجب الحفاظ عليها من أجل الحفاظ على السرديات المجتمعية، وتشكيل الوعي الاجتماعي، وخلق التصورات حول العمليات العسكرية أو مهام معينة تقوم بها القوات المسلحة والدفاع عنها مجتمعيًا بما يمثل مصلحة سياسية تضمن الدعم الشعبي للجهود العسكرية.
كما يعد ضمان قيمة المساءلة مكسبًا للدول تدعم به مصداقية وشرعية وقانونية تحركاتها السياسية والعسكرية على المستوى الدولي حين تقدم المسؤولين عن الخسائر المدنية للمساءلة والمحاكمة بما يضمن عدم تكرارها، وبذلك فإن المساءلة والشفافية ترسخ الامتثال لحكم القانون وسيادته، حيث إن الحفاظ على سيادة القانون وقابلية ذلك للاستمرار يضمن الحفاظ على نظام أمني دولي مستقر يخضع لمبادئ وأسس محددة.
وبشكل عام، تكتسب التحركات المطلوبة في موضوع الطائرات بدون طيار المسلحة أهميتها، كونها مرتبطة بقضايا قانونية وحربية مركبة ومعقدة، مثل ضرورات الأمن القومي والاستراتيجيات العسكرية التي قد تتعارض مع القيم الأساسية الداعمة لأي طرح قانوني منظم مثل الشفافية والمساءلة، وهذا التداخل يعطي أولوية للبدء في التعاطي الأوروبي ومن ورائه الدولي مع قضية الطائرات بدون طيار المسلحة في هذا التوقيت أكثر من أي وقت مضى.
المصدر:
Jessica Dorsey, Nilza Amaral, Military drones in Europe, Chatham House, April 30, 2021.
https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/2021-04/2021-04-30-military-drones-europe-dorsey-amaral.pdf