ربما ينظر بعض الكتاب والمحللين إلى وعود الرئيس "جو بايدن" بإعادة العلاقات والتحالفات العالمية للولايات المتحدة بأنها محاولة لتجاوز آثار سياسة الرئيس السابق "دونالد ترامب" الذي رفع شعار "أمريكا أولًا" من أجل استعادة مكانة أمريكا العالمية. وعليه، فإن الولايات المتحدة في ظل الإدارة الجديدة سوف تتبنى سياسات نيوليبرالية جديدة تعظّم من قيم التعددية والتعاون مع الحلفاء التقليديين. ووفقًا لهذه الرؤية فمن المتوقع كذلك أن يؤدي انخراط الولايات المتحدة الكبير في الشؤون الدولية إلى تعاون أمني أكبر مع إفريقيا، ولا سيما في مجال مكافحة الإرهاب.
ومع ذلك، فإن دروس الماضي وتحديات جائحة (كوفيد-19)، تجعلنا نلتزم الحذر الشديد عند الحديث عن طبيعة أو اتجاه سياسة "بايدن" الإفريقية بشأن الإرهاب. من الواضح أن أولويات "بايدن" الخارجية سوف تتركز على إيران والصين وكوريا الشمالية وقضايا ملحة أخرى. وهو الأمر الذي ينبغي أن يُبقي الدول الإفريقية تركز على مناهجها الاستباقية البديلة. يجب أن تسعى مثل هذه المناهج -كما أكدنا عليه في هذا المكان من قبل- إلى الاعتماد على القدرات والجهات الفاعلة المحلية والإقليمية بالأساس، بدلًا من رفع سقف التوقعات بشأن المساعدات الأجنبية ومدى تدخل الولايات المتحدة من عدمه.
مصالح مشتركة:
على الرغم من المشاركة الأمريكية والغربية في الحرب على الإرهاب في إفريقيا، فإن النتيجة تُعيد إلى الأذهان نفس قصة المساعدات الأجنبية. تُظهر الأدلة بشكل كبير أن المساعدات لإفريقيا جعلت دولها أكثر فقرًا، وأصبح النمو الاقتصادي أبطأ. لقد تركت ثقافة المعونة المميتة -على حد تعبير دامبيسا مويو- البلدان الإفريقية مثقلة بالديون أكثر، وأكثر عرضة للتضخم، وأكثر عرضة لتقلبات أسواق العملات، وفي الوقت نفسه أقل جاذبية للاستثمارات الأجنبية عالية الجودة. لقد زادت من خطر نشوب الصراعات والحروب الأهلية العنيفة (لاحظ أن أكثر من 60٪ من سكان إفريقيا جنوب الصحراء تحت سن 24 لديهم موارد اقتصادية محدودة). وقد خلُص كثير من علماء الاقتصاد السياسي إلى أن المساعدات في ظل هذا السياق تشكل كارثة سياسية واقتصادية وإنسانية لا تخفى على أحد.
بالمثل، فإن الولايات المتحدة لديها وجود عسكري طويل الأمد في إفريقيا. لقد كانت القارة منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، نقطة محورية للوجود العسكري الأمريكي، وخاصة في إطار شعار "الحرب العالمية على الإرهاب". أنشأ الجيش الأمريكي شبكة مترامية الأطراف من القواعد في أكثر من عشرة بلدان إفريقية. ومن المفارقات أنه خلال الفترة نفسها زادت أنشطة الجماعات الإرهابية في القارة تمامًا مثلما زادت عمليات إفقار الدول الإفريقية على الرغم من تدفق المساعدات الغربية. وهذا يثير الشكوك حول أهمية استمرار الوجود العسكري الأمريكي في مكافحة الإرهاب في إفريقيا. ربما تكون هذه نقطة محورية لإدارة "بايدن"، خاصة وأن عام 2021 يصادف عقدين من الزمن على هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
من الواضح أن "بايدن" سوف يعول كثيرًا على الدبلوماسية، ويعمل على إعادة الروح لوزارة الخارجية التي عانت كثيرًا في عهد الرئيس "ترامب"، الذي كان يحب أن يشير إليها باسم "الوكالة العميقة"، وكان ينظر باستمرار إلى موظفيها بعين الشك والريبة. وواقع الأمر أنه في الوقت الذي عانت فيه سفارات الولايات المتحدة في إفريقيا من نقص شديد في الموظفين لعقود من الزمان؛ زاد الوجود العسكري الأمريكي. على سبيل المثال، نادرًا ما تستقبل معظم البلدان الإفريقية زيارات من قبل الرئيس أو نائب الرئيس أو وزير الخارجية أو حتى كبار المسؤولين من الإدارات الأمريكية الأخرى. في الواقع، زار رؤساء الولايات المتحدة 16 دولة فقط من أصل 54 دولة في إفريقيا، وقاموا بزيارات متكررة لعدد محدود من البلدان. في المقابل، يسافر كبار قادة القيادة العسكرية في إفريقيا "أفريكوم" إلى القارة ودول عديدة فيها مرات كثيرة تفوق زيارة أي شخص آخر في الحكومة الأمريكية. وعليه، أضحت التفاعلات مع المسؤولين العسكريين الأمريكيين بمثابة العلاقات الرسمية الرئيسية في إفريقيا ولكن خارج الإطار الدبلوماسي التقليدي. وقد أضحت ظاهرة عسكرة العلاقات الأمريكية الإفريقية في عهد "ترامب" أكثر وضوحًا.
استراتيجية "اضرب الخلد" (Whack-a-Mole):
على مدى السنوات الأربع الماضية، حاولت إدارة "ترامب" -إلى حد كبير- عدم الانخراط في الشؤون الإفريقية بشكل كبير، ومع ذلك تم التركيز على استخدام استراتيجية "اضرب الخلد"، وهي من قبيل الاستعارة التوضيحية، حيث يتم التخلص من شيء بصفة متكررة ومع ذلك يعاود الظهور مرة أخرى. إنها تشير إلى الحالة التي تستمر فيها الأزمة في التصاعد بشكل أسرع من الاستجابات الموجهة لتسويتها أو التعامل معها، مما يؤدي إلى تبني نهج جزئي أو مؤقت.
وقد طغى استخدام الحلول العسكرية لمكافحة الإرهاب، من خلال تكثيف الضربات الجوية في بلدان مثل الصومال. على سبيل المثال، بحلول يناير عام 2019، اتضح أن أكثر من 500 شخص في الصومال قتلوا في غارات جوية أمريكية منذ بداية عام 2017 عندما تولى "دونالد ترامب" منصبه. وخلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2020، نفذت الولايات المتحدة غارات جوية في الصومال أكثر مما نفذت خلال إدارتي كل من "بوش" و"أوباما". وعلى الرغم من ذلك كله، لا تزال تهديدات كل من "القاعدة" و"داعش" وجماعات "بوكو حرام" وغيرها من الجماعات الإرهابية في تصاعد مستمر.
كما أن نهج "اضرب الخلد" في مكافحة الإرهاب في القرن الإفريقي، لا يزال يراوح مكانه وغير ناجز، كما هو الحال في كثير من مناطق العالم الأخرى. لقد كانت تصفية قادة الجماعات الإرهابية الكبرى، مثل "أبي بكر البغدادي" في عام 2019، غير حاسمة، ولم تؤدِّ إلى تراجع في وجود أو أنشطة الجماعات التابعة لداعش، لا سيما في الفضاء الإفريقي.
قيود التغيير:
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تركز في وجودها العسكري في إفريقيا على محاربة الإرهاب فقط، بل كانت تقوم من خلال الجيش بأنشطة أخرى لتحقيق وتعزيز المصالح الأمريكية. في فترة الكوارث الطبيعية والأوبئة، يتيح الوجود العسكري الأمريكي في العديد من الدول الإفريقية دعمًا سريعًا وحاسمًا. في عام 2019 واستجابة لإعصار إيداي، ساعدت الطائرات العسكرية الأمريكية في إيصال الغذاء والمساعدات الإنسانية الأخرى إلى كل من ملاوي وموزمبيق وزيمبابوي بعد أيام قليلة من حدوث الكارثة.
كما كان الوجود العسكري الأمريكي في العديد من الدول الإفريقية جزءًا أساسيًا من الاستجابات لجائحة (كوفيد-19)، حيث وفر خدمة المستشفيات المتنقلة في غانا والسنغال وأوغندا. وتساعد برامج بناء القدرات والشراكات التي تم تأسيسها من خلال المشاركة العسكرية الأمريكية الدول الإفريقية، مثل بنين ونيجيريا والسنغال، على التعامل مع فيروس (كوفيد-19)، واحتواء الأوبئة المستقبلية. ولا شك أن هذه المهام غير المتعلقة بمكافحة الإرهاب ليست مجرد أعمال خيرية أو مجاملات دبلوماسية، فهي تعمل -باختصار- على تعزيز المصالح الأمريكية في إفريقيا، ولا سيما احتواء النفوذ الصيني المتزايد.
لقد كشف نهج الرئيس "ترامب" عن أنه لا يميل إلى الانخراط في التعاون الدولي من أجل مواجهة الطبيعة المعقدة ومتعددة الأبعاد للإرهاب. وقد أثار ذلك النهج الشكوك حول فهم الولايات المتحدة لكيفية التعامل مع الإرهاب باعتباره قضية عابرة للحدود. هل يستطيع "بايدن" تجاوز إرث سلفه وبناء نهج جديد يصلح لمواجهة الطبيعة العالمية المعقدة لأزمة الإرهاب؟ ومع ذلك سوف يجد الرئيس "بايدن" نفسه مقيدًا -إلى حدٍّ ما- بأولويات الداخل الأمريكي؛ إذ إنه يتولى القيادة في وقت يُلقي فيه الاستقطاب السياسي والعرقي الحاد بثقله على الولايات المتحدة وسط تصاعد موجات التطرف اليميني. فهل يعني ذلك استمرار نهج الضربات العسكرية ولكن مع إعادة الروح للأداة الدبلوماسية الأمريكية لتعمل جنبًا إلى جنب مع قادة أفريكوم؟.
من غير المرجح أن يحدث تحول كبير في ظل إدارة الرئيس "بايدن" في مجال مكافحة الإرهاب نظرًا لاستثمارات الولايات المتحدة المحدودة في القارة. ففي الوقت الذي يحاول فيه "بايدن" تطوير نهج مغاير للتعامل مع التطرف العنيف في الفترة المقبلة؛ سوف يجد نفسه مضطرًا للتعامل مع إرث "ترامب" الخاص بخفض أعداد القوات الأمريكية العاملة في إفريقيا. من المعروف أن الولايات المتحدة كانت تنشر نحو 700 جندي في الصومال لمساعدة الجيش الوطني في محاربة مقاتلي "الشباب" و"داعش". بيد أن الرئيس "ترامب" قبيل مغادرة منصبه أمر بسحب جميع هذه القوات تقريبًا.
الدروس المستفادة:
لقد أثبتت المساعدات الأمنية والضربات العسكرية الموجهة من قبل الجيش الأمريكي أنها غير ناجعة في وقف نمو شبكات الإرهاب عبر إفريقيا. وعليه، يمكن لإدارة "بايدن" أن تفكر في نهج سياسي جديد من أجل اجتثاث جذور التطرف والإرهاب في إفريقيا. في دول معينة مثل بوركينافاسو ومالي ونيجيريا والصومال، يمكن أن تساهم الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون في دعم الجهود طويلة المدى لمنع التطرف العنيف. يمكن تبني نهج القوة الذكية من خلال إنشاء مراكز عمليات مشتركة تعتمد على المعلومات الاستخباراتية، وهو ما يُفضي إلى تقليل الخسائر في صفوف المدنيين وتعزيز عملية تبادل المعلومات (بما في ذلك مع قوات الجيش والشرطة). ويمكن -في المقابل- تبني الحلول السياسية، وتعزيز ثقافة الحوار المفتوح مع المجتمعات بشأن التهديدات واستراتيجيات الوقاية.
لقد أدى التركيز على المساعدة الأمنية الأمريكية، والإفراط في عسكرة مكافحة الإرهاب في بعض النواحي، إلى الفساد المتعلق بصفقات الأسلحة (كما هو الحال في نيجيريا والنيجر). ومع ذلك، هناك حاجة ملحة لإعادة تقييم سياسة مكافحة الإرهاب الأمريكية في إفريقيا لضمان تحقيق نتائج أفضل، خاصة في ضوء جائحة (كوفيد-19). إذ توفر هذه الجائحة فرصة للسياسة الأمريكية تجاه إفريقيا للتركيز على التدابير الوقائية تجاه مكافحة الإرهاب بدلًا من استخدام القوة المباشرة. على سبيل المثال، يمكن لإدارة "بايدن" استخدام القاعدة الجوية الأمريكية في النيجر والتي تكلفت 110 ملايين دولار، ويتم النظر في إغلاقها كجزء من الانسحاب الأمريكي المخطط له في المنطقة، للقيام بمهام أخرى.
واستخدمت هذه القاعدة في الأصل لجمع المعلومات الاستخبارية، وتوفير الخدمات اللوجستية، ولكنها في ظل الأزمة الراهنة يمكن أن تكون بمثابة نقطة ارتكاز لتوفير الإمدادات الطبية والأغذية التي تشتد الحاجة إليها للتخفيف من آثار وجود المستشفيات غير المجهزة، وانخفاض مستويات الرعاية الصحية في المنطقة في ظل أزمة (كوفيد-19).
وختامًا فإن هناك حاجة لمزيد من انخراط الولايات المتحدة في إفريقيا بنهج مختلف، بحيث يركز أكثر على مساعدة الدول على تعزيز الحكم الرشيد من خلال تبني الإصلاحات المؤسسية، بالإضافة إلى دعم إدارة وإصلاح قطاع الأمن بشكل أفضل.
إن السياسة الأمنية الأمريكية في إفريقيا تحتاج إلى الاهتمام بالحلول السياسية من خلال تحسين العلاقات بين الدولة والمجتمع. ومع ذلك، ثمة عوائق وتحديات كبرى، حيث إن معظم الدول الضعيفة والهشة في القارة، وهي تسلطية وفاسدة بطبيعتها، مهتمة أكثر بضمان استمرار شبكات المحسوبية وعوائد السوق السياسي -وفقًا لمفهوم أليكس دي وال- التي تساعد على استمرار النخبة الحاكمة في السلطة بدلًا من السعي لتحقيق السلام والأمن. في بعض الحالات، تم توظيف الميول الانقسامية، مثل الاختلافات العرقية والدينية، لإثارة المواطنين ضد بعضهم بعضًا لتحقيق مكاسب سياسية خاصة بالنخب الحاكمة. لم يكن مستغربًا أن يكون لدى العديد من البلدان الإفريقية استراتيجيات وطنية لمكافحة الإرهاب أو التطرف العنيف، ولكنها لأسباب عديدة لا تمتلك الإرادة السياسية الكافية لتفعيلها. ربما يكون من المفيد في هذه الحالة الاهتمام أيضًا بالمستوى القاري في محاربة الإرهاب، فبغض النظر عن الآمال التي تعلقت بصعود الرئيس "بايدن" فإن مهمة محاربة الإرهاب تظل بأيدي الأفارقة بالأساس.