أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 2 يناير الجاري، أن إيران أبلغتها باستعدادها لرفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 20% في منشأة فوردو، وهى النسبة نفسها التي كانت قد وصلت إليها قبل الإعلان عن الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015. ورغم أن إيران لم تحدد الموعد الذي ستقوم فيه بالوصول إلى ذلك المستوى، فإن مجرد الإعلان عن تلك الخطوة في حد ذاته يوحي بأنها تسعى إلى توجيه رسائل عديدة إلى القوى المعنية بتطورات الاتفاق النووي، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية إلى جانب إسرائيل.
دلالات عديدة:
ربما تكتسب تلك الخطوة التصعيدية من جانب إيران أهميتها من جهة توقيتها تحديداً. إذ أنها تأتي قبل أقل من ثلاثة أسابيع على وصول الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير الجاري، والذي سيحاول اختبار مدى قدرته على تنفيذ مقاربة "العودة مقابل العودة" في الفترة القادمة، والقائمة على الانخراط في الاتفاق النووي مجدداً مع عودة إيران عن خطوات تخفيض التزاماتها فيه. ويمكن القول إن ثمة دلالات عديدة تطرحها تلك الخطوة، يتمثل أبرزها في:
1- غياب فخري زاده: قد تكون لدى إيران رغبة في تأكيد قدرتها على احتواء الضغوط التي تفرضها العمليات الأمنية التي تعرضت لها في الفترة الماضية، وأدت، على سبيل المثال، إلى اغتيال أحد المسئولين البارزين في البرنامج النووي رئيس مؤسسة الأبحاث والتطوير في وزارة الدفاع محسن فخري زاده، في 27 نوفمبر الماضي. وهنا، فإن إيران تسعى إلى تأكيد أن اغتيال فخري زاده لن يتسبب في ارتباك كبير في برنامجها النووي، على عكس التكهنات العديدة التي راجت في هذا الوقت، بدليل قدرتها على العودة مجدداً للتخصيب بنسبة 20%.
2- ذكرى سليماني: باتت الدعوات للانتقام لسليماني هى العنوان الأبرز في التفاعلات الداخلية الإيرانية، خلال الفترة الحالية. ومن هنا، لا يمكن الفصل بين الإعلان عن تلك الخطوة وحلول الذكرى الأولى لمقتل سليماني في 3 يناير الجاري. وبمعنى آخر، فإن رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى مستوى 20% قد تعتبره إيران جزءاً من الرد على مقتل سليماني، بعد أن أكدت في تصريحات مسئوليها، على أن الانتقام لاغتيال مسئولها الأول عن إدارة العمليات الخارجية سوف يأتي حتماً، رغم أنها ربطت ذلك بنضوج الظروف التي يمكن أن تتيح ذلك، في إشارة إلى أن الرد قد لا يكون عسكرياً فحسب، وإنما من خلال خطوات سياسية وتقنية على غرار العودة إلى مستوى التخصيب الذي سبق أن وصلت إليه قبل الاتفاق النووي.
3- نفوذ "الباسدران": يبدو أن الحرس الثوري كان له دور بارز في الضغط من أجل اتخاذ تلك الخطوة. وقد بدأت تلك المساعي من داخل مجلس الشورى الإسلامي الذي يسيطر عليه تيار المحافظين الأصوليين ويحظى الحرس بنفوذ واضح داخله، في ظل زيادة عدد الأعضاء المنتسبين إليه في البرلمان، وفي مقدمتهم رئيسه الحالي محمد باقر قاليباف.
فقد أقر البرلمان، في أول ديسمبر الفائت، قانون يلزم الحكومة برفع مستوى التخصيب إلى مستوى 20% وبكمية تصل إلى 120 كيلو جرام سنوياً، وتشغيل أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً من طرازى "IR M2" و"IR 6" في مفاعلى فوردو وناتانز. ورغم أن الحكومة أبدت تحفظها على هذا القانون، باعتبار أنه قد يعرقل أية تفاهمات محتملة مع إدارة الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، فإن تلك التحفظات لا يبدو أنه فرضت تأثيرات كبيرة في هذا السياق، لاسيما أن نفوذ الحكومة في حد ذاته يتراجع تدريجياً مع اقتراب موعد انتهاء فترة الرئاسة الثانية للرئيس حسن روحاني في منتصف العام الحالي.
4- خروج ترامب: تشير اتجاهات عديدة إلى أن القيادات الرئيسية في إيران ربما اعتبرت أن اقتراب فترة الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب على الانتهاء في 20 يناير الحالي يساهم في توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها، ويساعدها في اتخاذ تلك الخطوة. وبعبارة أخرى، فإن إيران كانت تعتبر أن اتخاذ تلك الخطوة في وقت سابق بمثابة مغامرة قد تدفع الإدارة الأمريكية الحالية إلى توجيه ضربة عسكرية ضد منشآتها النووية، بعد أن باتت المواجهات المباشرة بين الطرفين دارجة، على عكس الإدارات الأمريكية السابقة. في حين أن بقاء أيام قليلة على وجود الإدارة في الحكم سوف يمنعها، في رؤية إيران، من توجيه تلك الضربة.
5- اختيار فوردو: قد لا يمكن فصل اختيار مفاعل فوردو تحديداً لمواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم بمستوى 20%، عن العمليات الأمنية التي سبق أن تعرضت لها إيران في منتصف عام 2020، وأسفرت عن خسائر تقنية ربما لا تكون هينة، لاسيما في مفاعل ناتانز الذي تعرض لهجوم في 2 يوليو الماضي، ركز، في الغالب، على القسم المخصص لتطوير أجهزة الطرد المركزي من طراز "IRM2". وهنا، فإن الإشارة تبدو مهمة، وهى أن إيران لا تستبعد أن تتعرض لعمليات مماثلة مجدداً في الفترة القادمة، في ظل استمرار نشاطها النووي وتصاعده في الفترة الأخيرة على النحو الذي تعكسه خطوة رفع مستوى التخصيب. ومن دون شك، فإن إيران تعتبر أن معاودة التخصيب بتلك النسبة في فوردو ربما يكون أكثر "أماناً" في ظل التحصينات الأمنية التي يحظى بها المفاعل الذي تم إنشاءه تحت الأرض لحمايته من الضربات العسكرية، رغم أن تلك الحماية قد لا تكون متوافرة بالقدر نفسه بالنسبة للعمليات الأمنية التي تقوم بها، على الأرجح، أجهزة استخبارات نجحت في تجاوز الإجراءات الأمنية الإيرانية في أكثر من مناسبة خلال العامين الأخيرين.
في النهاية، يمكن القول إن القرار الإيراني الجديد من المتوقع أن يساهم في توسيع نطاق الخلافات بين إيران والدول الغربية، التي كانت تتوقع من الأولى خطوات عكسية قد تشجع إدارة الرئيس جو بايدن على المضى قدماً في محاولة تنفيذ مقاربة "العودة مقابل العودة". لكن ذلك لا ينفي أن تلك الخطوة قد تكون تكتيكية أكثر منها استراتيجية، وربما تمثل مناورة من جانب إيران للحصول على مكاسب مسبقة قبل الانخراط في أية تفاهمات محتملة مع الإدارة الأمريكية، فضلاً عن أنه يمكن الرجوع عنها، في حالة ما إذا توصلت تلك التفاهمات إلى نتائج إيجابية، على غرار ما حدث عقب الاتفاق النووي، حيث باشرت إيران بعدها تقليص مستوى التخصيب من 20% إلى 3.67%.