وضع اغتيال محسن فخري زاده، عالِم النشاطات النووية الإيرانية السرية، الجمهورية الإسلامية في موقف صعب. وتطالب الحكومة الإيرانية الآن بإجراء تحقيق شامل مع أجهزتها الأمنية نتيجة اغتياله، ومما يزيد الطين بلة أن الإيرانيين، حتى في أفضل الأوقات، يشككون في دوافع الآخرين. ويعني هذا الآن أن كل فرد في هذه الأجهزة محل شك، لأنه لا يمكن لأحد الوثوق بأي شخص. يُذكّر هذا بعمليات التطهير الستالينية في ثلاثينات القرن الماضي والتي تركت الجيش السوفياتي غير مستعد لمواجهة الغزو النازي في عام 1941. قد تبدأ الآن حملة مطاردة عشوائية ستكون لها تداعيات مدمرة للنظام الإيراني. ويعترف مسؤولون أمنيون إيرانيون بفشل الاستخبارات ويدعون إلى تنظيف البيت من الداخل.
بعد اغتيال فخري زاده اجتاح الارتباك النظام برمّته وأدّت خسارته إلى فتح جروح عميقة، مما زاد من حدة الخصومات السياسية.
المعروف عن النظام في إيران أنه لا يفكر في أي شيء سوى الحفاظ على الذات، فهو وصل إلى السلطة من خلال الإرهاب وأخذ الرهائن، لكن بدأت علامات الاهتراء تخترق أهم أجهزته المولّجة بحمايته.
جرأة الهجوم الذي وقع خارج العاصمة الإيرانية في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) وجّه ضربة محرجة إلى المؤسسة الدينية في وقت تشهد فيه ضغوطاً غير مسبوقة بسبب العقوبات الأميركية الساحقة التي دمّرت الاقتصاد الإيراني.
ألقت السلطات باللوم في العملية المعقّدة على إسرائيل وعلى جماعة معارضة بالمنفى، ورفضت إسرائيل التي يُعتقد أنها كانت وراء انفجار يوليو (تموز) في منشأة نطنز النووية، واغتيال أربعة علماء نوويين آخرين قبل نحو عشر سنوات، التعليق. علي شمخاني، أمين سر المجلس الأعلى للأمن القومي، بدا كأنه يرفض الانتقادات الموجَّهة إلى الأجهزة الأمنية، إذ قال للصحافيين في 30 من الشهر الماضي إن «العدو سعى لمدة 20 عاماً، من دون جدوى، لقتل فخري زاده». لكنه لم يضف: «وفي النهاية نجح». وأضاف شمخاني أن «الشخص الذي صمَّم العملية معروف لدينا. نعرف من هم وما هي خلفيتهم»، ومن دون أن يقدم تفاصيل قال: «بالتأكيد المنافقون - في إشارة إلى جماعة (مجاهدين خلق) النشطة جداً - كان لهم دور فيها، والمؤكد أن العنصر الإجرامي لهذا العمل هو النظام الصهيوني والموساد».
منظمة «مجاهدين خلق» رفضت «غضب شمخاني وحقده وأكاذيبه» ضدها، لكنها لم تنفِ الفضل في الكشف عن برنامج إيران النووي والمواقع السرية السابقة.
إن إيران في مواجهة طريق مسدود، لأن عدم الرد على مقتل فخري زاده قد يُظهر ضعفاً ويزيد من مخاطر هجمات مماثلة في المستقبل، في حين أن الإجراءات الانتقامية القاسية قد تؤدي إلى تصعيد مكلف وتنسف فرص الدبلوماسية مع الإدارة الأميركية القادمة. ليست إيران في وضع تُحسد عليه، فهي تحتاج إلى عودة كاملة أو جزئية إلى الاتفاق النووي. ولاستعادة الردع والكبرياء ترغب في الانتقام لمقتل فخري زاده، لكن اللجوء إلى الخيار الثاني من دون تخريب الأول هو الأصعب. في الوقت الحالي، يبدو أن تعليقات صانعي القرار الإيرانيين تشير إلى أن رد فعل طهران الأول سيكون مقيداً على الرغم من التهديدات القاسية من المحافظين المتشددين، كما اقترحت صحيفة «كيهان» المتشددة الناطقة باسم «الحرس الثوري»، شن غارات على ميناء حيفا الإسرائيلي بهدف التسبب في أضرار مادية و«خسائر بشرية كبيرة». والمعروف أن أكثرية سكان حيفا من العرب.
من ناحيته، دعا المرشد علي خامنئي - أعلى سلطة في إيران - إلى معاقبة مرتكبي الهجوم «بحزم ومواصلة الجهود العلمية والتكنولوجية التي كان فخري زاده بارعاً فيها»، لكنه توقف عن الدعوة إلى: الانتقام الشديد.
أما الرئيس حسن روحاني فقال إن طهران ستردّ في «الوقت المناسب»، وحذّر من أن البلاد يجب ألا تقع في فخ إسرائيل التي، حسب اعتقاده، ترمي إلى قتل الاتفاق النووي واستفزاز الجمهورية الإسلامية لحملها على الرد. وكان المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، قد قال في وقت سابق من الأسبوع الماضي: «لن يبقى الاغتيال من دون رد، لكن ردنا لن يأتي في الوقت أو المكان أو بالشكل الذي يتوقعونه». يبدو أن إيران استساغت المنهج السوري، وهذا أفضل تبرير لأنه من غير المرجح أن تردّ على مقتل فخري زاده في أي وقت قريب، وهي ربما تفضل جمع الردود (الرد على مقتل سليماني وفخري زاده والعلماء الأربعة السابقين وقد يلحق بهم آخرون، مرة واحدة، فتوفِّر الخسائر وتكون الاستعدادات حاسمة). من ناحية أخرى تريد طهران وبشدة أن ترى ما إذا كانت هناك عملية دبلوماسية جديدة ممكنة مع الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن.
يتوقع الإيرانيون أن يكون بايدن مـؤيداً لإسرائيل مثل الرئيس دونالد ترمب، ومع ذلك فإن وصوله إلى البيت الأبيض يوفّر لطهران فرصة للعودة إلى طاولة المفاوضات من موقف قد يسمح لها بالادعاء أنها نجحت في التغلب على حملة «الضغط الأقصى» التي قام بها ترمب.
أما داخل إيران فإن مقتل فخري زاده أدى إلى اشتداد الصراع على السلطة؛ المتشددون يستغلون مقتله لمضاعفة هجماتهم على روحاني الذي تفاوضت إدارته على الاتفاق النووي عام 2015 وحدود الأنشطة النووية الإيرانية مقابل تخفيف العقوبات الدولية.
وسط الخلاف حاول كل طرف استدعاء «الشهيد فخري زاده» لأغراضه الوصولية الخاصة. ففي الأول من هذا الشهر نشرت وكالة الأنباء الحكومية الرسمية (إرنا) صوراً أظهرت روحاني يمنح فخري زاده وسام دولة لمساهمته في المحادثات النووية التي أدت إلى الاتفاق النووي، لكن بعد ساعات بث المتشددون ما قال التلفزيون الرسمي إنه تسجيل صوتي لفخري زاده يعبِّر فيه عن معارضته للمحادثات مع الولايات المتحدة، التي أشار إليها بـ«الشيطان الأكبر»، الذي لا يمكن الوثوق به.
قال «الصوت» في التسجيل: «إلى أي حد يجب أن نتفاوض مع الولايات المتحدة؟ هل ستزداد الأمور سوءاً؟ نحن بالفعل ليست لدينا دولارات، لا يمكننا بيع النفط، وليست لدينا أدوية».
يأتي التصعيد في شد الحبل قُبيل الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقرر إجراؤها في يونيو (حزيران) المقبل، والتي يأمل المتشددون الفوز فيها، بعد استعادة السيطرة على البرلمان في وقت سابق من هذا العام. وفي مقابلة نُشرت الأسبوع الماضي وسط تكهنات بأن وزير الخارجية محمد جواد ظريف قد يسعى إلى الرئاسة، أشار ظريف إلى أن المتشددين كانوا يحاولون عرقلة جهود روحاني في السياسة الخارجية من خلال التواصل مباشرةً مع فريق بايدن! وقال ظريف لموقع «انتخاب» الإخباري: «يقولون لهم إن روحاني وإدارته لن يبقوا في السلطة وستستمر قبضتهم عليها لبضعة أيام أخرى».
يُذكر أنه في وقت سابق من هذا العام، دعا خامنئي إلى متشدد آيديولوجي كي يصبح رئيساً للجمهورية. من الصعب أن تكون المخاطر أكبر بالنسبة إلى خامنئي المتقدم في السن وهو يُعِدّ الأسس لمرحلة ما بعده، أنه يبحت عن الرجل المناسب لتأمين إرثه، فالديكتاتوريون يحبون أن يحكموا أيضاً من القبور. في الأشهر الأخيرة ظهر شاب يناسب بالتأكيد معايير المرشد الأعلى «الشاب المتشدد آيديولوجياً»، بوصفه الحصان الأسود لـ«الحرس الثوري» في السباق: سعيد محمد، قائد تكتل البناء «خاتم الأنبياء». وُلد الرجل البالغ من العمر 52 عاماً في طهران والتحق بـ«الحرس الثوري» عام 1987، ويعد صعوده السريع لقيادة «خاتم الأنبياء»، إحدى أهم مؤسسات الحرس دليلاً على ولائه وثقة خامنئي به.
لا تشعر إيران بالأمان، كل ما يجري حولها وفي داخلها يناقض ما خططت له. اغتيالان حاسمان في سنة. لم تستطع الدفاع وغير قادرة على الانتقام. ربما النصر في نظرها تدمير الدول العربية لا إسرائيل، كما تدّعي. وآخر الأمثلة اليمن ولبنان. لكننا دخلنا في زمن التداعيات ولن تبقى إيران بمعزل عنها. سيكون لسقوطها وقع كبير.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط