استدعت تصريحات الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، يوم 2 أكتوبر الجاري، حول وضع الإسلام والمسلمين، والتي وصف خلالها الإسلام بأنه دين يعيش أزمة راهنة؛ عددًا من القضايا الإشكالية ربما أهمها أنه أعاد إلى الواجهة مجددًا أطروحة الصراع الحضاري والصدام القيمي. فعقب خطاب الرئيس الفرنسي خرج تيار يرى أن الموقف من الإسلام يكتسب وجاهته من مقولات الصدام الحتمي، التي روج لها البعض في المجتمعات الغربية والإسلامية على السواء خلال العقود الماضية، بين الإسلام والمنظومة القيمية والثقافية في الغرب.
ثمة جانب آخر، بخلاف إشكالية الصدام القيمي، انطوى عليه خطاب "ماكرون" وهو متعلق بفرضيات الدمج والتعددية التي شكلت ملمحًا هامًا من ملامح تطور المجتمعات الغربية في مسار تعاطيها مع مشكلات الأقليات الدينية؛ إذ إن تركيز الرئيس الفرنسي على فكرة "الانعزالية الإسلامية"، على حد تعبيره، بقدر ما يعكس تخوفه من معضلة وضع المسلمين في فرنسا، وربما غيرها من المجتمعات الغربية؛ فإنه أيضًا قد يقوض من فكرة الدمج والتعددية، لأنه يستبطن رسالة سلبية من قبل السلطة وتصويرها للمسلمين كأفراد لا ينتمون للمجتمع ومنظومته القيمية والثقافية. وفي هكذا سياق، ربما يتم إكساب محفزات التطرف والإرهاب المزيد من الزخم.
خطاب "ماكرون" والتفاعل الإسلامي:
أثار خطاب الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"، يوم 2 أكتوبر الجاري، حالة من الجدل لما تضمنه من رؤية وموقف تجاه الإسلام والمسلمين، حيث قال: "الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم، وعلى فرنسا التصدي للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظامٍ موازٍ وإنكار الجمهورية الفرنسية"، وأضاف أن "ما نحتاج لمحاربته هو الانفصالية الإسلامية. المشكلة في أيديولوجيا تدعي أن قوانينها يجب أن تعلو على قوانين الجمهورية".
وبالرغم من أن "ماكرون" حاول تخفيف حدة هذا الخطاب من خلال الإشارة إلى أن السلطات الفرنسية تتحمل جزءًا من المسؤولية في تطور ظاهرة تحول الأحياء إلى مجتمعات منغلقة، وكذلك الدعوة إلى فهم أفضل للإسلام وتعليم اللغة العربية؛ إلا أن الخطاب أثار ردود أفعال وتفاعلًا سلبيًّا من قبل عدد من المؤسسات الإسلامية. فعلى سبيل المثال، انتقد مفتي سلطنة عمان الشيخ "أحمد بن حمد الخليلي" خطاب الرئيس الفرنسي، ووصفه بأنه "هجوم غير مسبوق على الدين الإسلامي من جانب رئيس فرنسا، الدولة التي تتفاخر بالحريات والديمقراطية والمساواة".
كما أصدر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بيانًا رفض فيه تصريحات الرئيس الفرنسي. وذكر البيان أن الرئيس الفرنسي وجّه "اتهامات باطلة للإسلام لا علاقة لها بصحيح الدين، الذي تدعو شريعته للسماحة والسلام بين جميع البشر، حتى من لا يؤمنون به"، وأضاف البيان أن "تصريحات الرئيس الفرنسي تنسف كل الجهود المشتركة للقضاء على العنصرية والتنمر ضد الأديان، وأن تصريحات عنصرية مثل هذه من شأنها أن تؤجج مشاعر ملياري مسلم".
التدخل التنظيمي:
لم يكن الخطاب الأخير للرئيس الفرنسي الأول من نوعه الذي يتناول خلاله وضع الإسلام والمسلمين، فقبل عدة أشهر، وأثناء مؤتمر صحفي بمدينة ميلوز الفرنسية في شهر فبراير الماضي، انتقد ما أسماه "الانعزالية الإسلامية"، ووصفها بأنها مشروع سياسي "للانفصال عن الجمهورية وقيمها". وفي هكذا سياق، ينطوي موقف الرئيس الفرنسي على دلالتين جوهريتين:
1-قوانين منظمة: فالمبررات التي يسوقها الرئيس الفرنسي، والتيار المؤيد لموقفه تجاه وضع الإسلام والمسلمين، تستند إلى فرضية العزلة التي يعاني منها المسلمون في فرنسا، ومن ثمّ يطرح "ماكرون" إطارًا تنظيميًّا مثيرًا للجدل بالنسبة للمسلمين في فرنسا، من خلال مشروع قانون من المزمع مناقشته في البرلمان قبل نهاية العام الجاري، ويهدف مشروع القانون إلى مواجهة ما وصفه "ماكرون" بالانفصال الشعوري وحماية قيم الجمهورية الفرنسية، ويؤكد على ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة الذي يمثل ركيزة العلمانية الفرنسية، وفرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد، وهو ما يتضمن عدة إجراءات من ضمنها: إنهاء نظام استقبال أئمة من الخارج، والرقابة على تمويل المساجد. كما ينصّ على منع الممارسات التي تُهدد المساواة بين الجنسين.
2- التوظيف الانتخابي: فثمة رابط بين تصريحات الرئيس الفرنسي واقتراب موعد الانتخابات، فمع الأزمات التي تعرضت لها فرنسا على خلفية احتجاجات حركة "السترات الصفراء"، وكذلك تأثيرات أزمة فيروس كورونا على الاقتصاد الفرنسي؛ باتت قضية أوضاع المسلمين واحدة من القضايا التي يمكن المراهنة عليها للحصول على المزيد من التأييد الانتخابي من قبل أصوات اليمين المتطرف الذي يحمل أفكارًا سلبية تجاه المسلمين.
تداعيات محتملة:
صحيح أن خطاب "ماكرون" ينطوي على محاولة لتنظيم أوضاع المسلمين داخل فرنسا؛ إلا أنه -في الوقت ذاته- يؤسس لمعضلة جوهرية لأنه يتضمن خلطًا بين أوضاع المسلمين والدين الإسلامي في حد ذاته، ومحاولة تصدير رؤية سلبية تجاه الإسلام. علاوة على ذلك، فإن الطرح العلني لهذا الموقف تجاه الإسلام والمسلمين يمكن أن يعرض فكرة الدمج والتعددية الدينية لتحديات كبيرة. وعليه، يُحتمل أن يؤدي خطاب "ماكرون" إلى ما يلي:
1- التداخل مع الصراعات الخارجية: إذ استدعى خطاب "ماكرون" الأخير معطيات الصراع القائم بين فرنسا وتركيا، والخلافات بينهما حول ملفات شرق المتوسط والأزمة الليبية والمعارضة الفرنسية للسياسة التركية في الشرق الأوسط، فالبعض رأى في تصريحات الرئيس الفرنسي إسقاطًا على سياسات النظام التركي. ناهيك عن الهجوم الذي شنّه الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" على الرئيس الفرنسي عقب خطابه الأخير، حيث خرج "أردوغان" يوم 6 أكتوبر الجاري، ليقول إن "ماكرون يهاجم الإسلام للتغطية على الأزمة التي تعيشها فرنسا وسياساته الفاشلة"، ولم يكتفِ "أردوغان" بذلك، ولكنه استخدم ألفاظًا شائنة تجاه "ماكرون"، واعتبر أن "حديث الرئيس الفرنسي عن إعادة هيكلة الإسلام وقاحة وقلة أدب، وأن تصريحه بأن الإسلام متأزم في مدينة ذات كثافة سكانية مسلمة استفزاز صريح، فضلًا عن كونه قلة احترام"، على حد وصفه.
2- دعم اليمين المتطرف: فالخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي يُضفي -بشكل أو بآخر- مشروعية على السرديات التي يروج لها تيار اليمين المتطرف، والمستندة إلى رفض تواجد المسلمين في المجتمعات الغربية باعتبارهم غير متوافقين مع الإطار الثقافي والقيمي الغربي، ومن ثمّ يرى الاتجاه السائد في اليمين المتطرف أن المسلمين يشكلون تهديدًا للحضارة والقيم الغربية، خصوصًا مع الزيادات السكانية في نسبة المسلمين بشكل عام داخل المجتمعات الغربية.
لقد اتصل هذا الخطاب اليميني المعادي للمسلمين بتصاعد العمليات الإرهابية والعنف وخطابات الكراهية تجاه المسلمين. وفي هذا الإطار، يشير تقرير صادر عام 2020 عن وكالة الشرطة الأوروبية "يوروبول" عن اتجاهات الإرهاب في أوروبا خلال عام 2019، إلى تعرض التجمعات المسلمة لعدد من الهجمات الإرهابية وعمليات العنف التي تورط فيها عناصر محسوبة على اليمين المتطرف في أوروبا.
ويقدم التقرير نماذج لهذه الأحداث، إذ أفادت بلجيكا بأن مجموعات يمينية متطرفة صغيرة تنظم مظاهرات مضادة تستهدف بشكل واضح السكان المسلمين والمهاجرين. والهدف من هذه المظاهرات هو إثارة التوترات وبدء العنف. كما سجلت فرنسا خلال العام ذاته هجومين على مسجدين. ففي 27 يونيو 2019، أطلق رجل النار على أشخاص يغادرون مركزًا إسلاميًّا في بريست، قبل أن ينتحر. وفي 28 أكتوبر 2019، هاجم شخص مسجدًا في بايون بسلاح ناري.
3- تحفيز "القاعدة" و"داعش": فالوجه المقابل للإرهاب اليميني المتطرف هو ذلك المتعلق بإرهاب "القاعدة" و"داعش". والمثير للانتباه والدهشة في الوقت ذاته، أن كلا النمطين من الإرهاب يتغذّيان على المحفزات ذاتها، سواء من خلال رفض الآخر، وتحميله مسؤولية كافة الأزمات القائمة. إذ إن العناصر الإرهابية اليمينية تبرر هجماتها باعتبارها رد فعل على ما ينفذه كل من تنظيمي "داعش" و"القاعدة" من هجمات إرهابية في الدول الغربية، فيما تبرر "القاعدة" و"داعش" عملياتهما الإرهابية بسياسات الدول الغربية، وخطاب القيادات الغربية المعادي للمسلمين.
وفي هكذا سياق، يرجح أن يمنح خطاب الرئيس الفرنسي تجاه الإسلام تنظيمي "القاعدة" و"داعش" محفزات لإكساب خطابها المزيد من الزخم، والحصول على المزيد من المؤيدين. فالخطاب الذي طرحه "ماكرون" يستبطن محاولة للسيطرة على الممارسة الدينية الإسلامية، وهو أمر قد يقابل بمعارضة ومقاومة من قبل المسلمين الفرنسيين، وهو ما يخلق سياقًا مواتيًا للخطاب الإرهابي، فوفقًا للباحث الفرنسي الشهير "أوليفه روا" فإنه بقدر ما يؤدي "طرد ما هو ديني من المجال العام إلى التأثير على الإرهابيين، فإنه يسمح لهم بأن يبدوا كما لو كانوا المدافعين الوحيدين عن إسلام مغبون".
4- الصراع الهوياتي: يحتمل أن يُفضي خطاب "ماكرون" والتشريع المقترح لمواجهة ما وصفه "الانعزالية الإسلامية" إلى إذكاء الصراع الهوياتي داخل فرنسا، والدول الغربية، فالكثير من المسلمين ينظرون إلى مواقف المسؤولين الفرنسيين كمحاولة للتحكم والسيطرة على المسلمين، وربما التأثير في طريقة ممارسة شعائرهم. ناهيك عن آلية التعميم، وغياب التمايز المفاهيمي، التي يتبناها المسؤولون الفرنسيون، والتي تنطوي على وصم للإسلام والمسلمين. فتكرار استخدام مصطلحات من قبيل "الإرهاب الإسلامي"، والإسلام المأزوم، لن يؤدي إلى إنهاء حالة الانعزال الشعوري، التي يتحدث عنها الرئيس الفرنسي؛ بل بالعكس قد تدفع المجتمعات الإسلامية نحو مقاومة إجراءات السلطة والتمترس خلف الرموز والهوية الدينية.
وختامًا، فإن هذا الصراع الهوياتي سيُخرج مبدأ التعددية الدينية والشمول الديني Inclusivism، على حد تعبير الباحث الأسترالي "عبدالله سعيد"، من المشهد الفرنسي، فالشمول الديني، بحسب سعيد، يفترض "عدم إصدار أحكام علانية على دين شخص آخر؛ وعدم قول أشياء مؤذية عن دين آخر في الأماكن العامة؛ والاعتراف بأن الآخرين يتبعون ديانات مختلفة تهمهم. بالإضافة إلى معاملة أتباع الديانات الأخرى باحترام، والاعتراف بكرامتهم الإنسانية وإمكانية التعاون والتعاضد معهم من أجل الصالح العام".