من الهدنة القلقة إلى وقف دائم لإطلاق النار، تبدو القوى الخارجية كأنها استطاعت خفض التصعيد في ليبيا، استعداداً لاستئناف التفاوض العسكري (في جنيف) والسياسي (في الصخيرات) بين الأطراف الليبية، بدءاً من هذا الأسبوع. كان لا بدّ من الهدنة، الصامدة منذ مطلع يونيو الماضي، بعدما بلغ التوتّر أقصاه عند خط (سرت - الجفرة)، الذي وقفت قوات «الجيش الوطني الليبي» (شرق) عنده، وأعلنته مصر «خطّاً أحمر»، فيما راحت قوات «حكومة الوفاق» (غرب) تعدّ لتجاوزه، بدعم من تركيا. ورغم الحشود المستمرة على جانبي هذه الجبهة، فإن الاتصالات الدولية، خصوصاً الأميركية، فرضت واقعاً جديداً، باشتراطها عدم حصول مواجهة عسكرية مصرية - تركية، وضمنياً تفادي مواجهة أميركية – روسية، ولو غير مباشرة، كذلك بإلزام الدول المعنيّة منع الطرفين من القيام بتحركات أحادية، قد تشعل المعركة الكبرى.
الثابت منذ أواخر يناير الماضي، أن القوى الدولية حافظت على «التزامات» مؤتمر برلين وإنْ لم تطبّقها، بل إن دولاً عدة تواصل خرقها، تحديداً في مجال التسليح، وفقاً لرئيسة البعثة الأممية بالنيابة «ستيفاني وليامز». لكن الجميع يصرّ على احترام «مقررات برلين» كمدخل لحلّ الأزمة الليبية، بإشراف الأمم المتحدة. وقد حدّدت مسارات ثلاثة لها الحلّ: 1) عسكري، لوقف إطلاق النار، 2) اقتصادي، لتحييد حقول النفط ومنشآته، و3) سياسي، لإحياء التفاوض على حلٍّ دائم... وحتى مطلع مارس أمكن التوصّل إلى اتفاقات مبدئية في المسارين الأولين، لكنها رُبطت بما يُحرز من تقدم على المسار السياسي الذي شهد تأخيراً، ثم طرأت مستجدّات تسبّبت بمزيد من التأخير، وأهمها الإغلاق العالمي لمواجهة تفشّي وباء «كورونا»، ولاحقاً أشعل التدخّل التركي جبهات غرب ليبيا، فاضطر الجيش الوطني إلى إجراء إعادة انتشار لقواته، وصولاً إلى (سرت- الجفرة).
في الوقت الحالي، يحاول كل طرف استثمار التغيير في الوضع الميداني وميزان القوى، لتحصيل مكاسب سياسية. كان رئيس مجلس النواب المنتخب، عقيلة صالح، اقترح مبادرة تبنتها القاهرة للدفع بالحل السياسي، وهي تستند عملياً إلى تعديلات على اتفاق الصخيرات كانت مطلوبة منذ أعوام ولو أُجريت، لكانت جنّبت البلد كثيراً من المآسي. لكن، هذه المرّة سيصار إلى نوع من المحاصصة للمناصب والوظائف العليا بين الأقاليم الثلاثة (طرابلس، برقة وفزّان)، بدءاً بمجلس الدولة والحكومة، ثم بالبنك المركزي والقضاء والرقابة الإدارية وغيرها. أما مفاوضات جنيف، فتتطرّق إلى الملف المتعلّق بتوزّع الرتب العسكرية، وهو الأكثر حساسية.
هناك محاولة لتنظيم المشاركة في إدارة الدولة، واستطراداً لتفادي سيناريوهات تقسيم ليبيا، طالما أن الحسم العسكري غير مسموح به دولياً. غير أن نجاح المساعي الجديدة تبقى محاطة بالمخاطر، لذلك تلحّ الأمم المتحدة على مجلس الأمن لإنشاء «منطقة منزوعة السلاح»، مع «آلية دولية - ليبية» لتثبيت وقف النار. كانت واشنطن طرحت فكرة هذه المنطقة الفاصلة، على أن تشمل الهلال النفطي، لكن التدخل التركي لم يكن عاملاً مساعداً للاتفاق عليها، سواء بوجوده المباشر إلى جانب الميليشيات في طرابلس ومصراتة، أو بالمرتزقة السوريين الذين يرتاب البنتاغون بـ «السوابق الإجرامية» للعديد منهم. في أي حال، تأتي المساعي التفاوضية في وقت مناسب، فالهدنة الدائمة باتت ضرورة قصوى، لئلا تفجّر أنقرة الوضع العسكري، مستغلّة الوقت الضائع وانشغال واشنطن بالانتخابات الرئاسية.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد